فضاءات

نساء يعملن بلا ضوابط صحية وبيئية ولاضمان اجتماعي

طريق الشعب - خاص
نساء الأنقاض هو مصطلح يطلق على نساء ألمانيا اللاتي قمن بإزالة أنقاض المباني المهدمة إثر الحرب العالمية الثانية من داخل المدن.وتحديدا عام 1945.
اذ كان هناك حوالي 3,5 ملايين منزل مهدم أي ما يعادل 400 مليون متر مكعب. ولكون معظم الرجال فقدوا خلال الحرب والبعض الآخر عاد وهو يعاني من إصابات الحرب، وجدت النساء أنفسهن مضطرات لإزالة أنقاض الحرب.
وبالإمكانات البسيطة لم تستطع النساء إخراج هذه الأنقاض خارج المدينة فعملت على تجميعها في نقطة معينة داخل المدينة، كل ذلك كان بالإضافة إلى العناية بأسرها. وبلغ عدد نساء الأنقاض في برلين حوالي 60,000 حولن الأنقاض إلى جبال اصطناعية داخل المدينة وما زالت هذه الجبال إلى الآن وقد تحولت إلى أماكن استجمام بعد أن قام الفنان فرتز كريمر بتكريم نساء الأنقاض من خلال عمل نصب تذكاري لجهودهن. فكم نصب تذكاري علينا أن نعمله عراقيا لنساء العراق وهن يعملن في معامل الطابوق والبناء والبحث في النفايات والألغام والتحطيب وبيع الخضراوات والأسماك وعلب الدخان في اغلب مدن العراق.

العراق والمرتبة الأولى في (معاناة النساء)

تميزت المرأة العراقية منذ القدم وكانت ولا تزال معيار نهضة المجتمع وتقدمه فهي الفلاحة التي حرثت أرض الفراتين وزرعتها فأثمرت خيرا، هي راعية الأغنام والأنعام وراعية البيت وربَّـته، وهي الشاعرة والمربية والمهندسة والطبيبة وطالبة علم وأستاذة جامعة، وهي المدرسة المربية للأجيال، وهي عالمة الذرة والرياضيات وليس من مجال يُذكر وليس فيه مبدعة. فكيف هو حال واقعها الآن في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية والوضع المعيشي الصعب الذي اضطرها أن تعمل أعمالاً شاقة لا تتناسب مع واقع مجتمعها الثري، ولا تاريخها الريادي في مجالات عدة . تشير الإحصائيات الدولية الى ان اكثر من 35% من الأسر تعيلها نساء غير متزوجات أو أرامل، وتتسلم الأرامل اللاتي سجلن في الحكومة 40 دولاراً امريكياً شهريا تكاد لا تكفيهن للعيش بمفردهن. وهن لا يمتلكن أية حماية اجتماعية، والكثير منهن يتوجهن إلى الشوارع مع أطفالهن لبيع الحلوى أو التسول.

مساطر النساء

مسطر نساء على غرار مسطر الرجال وساحات أنشئت في المناطق الفقيرة تتجمع فيها النساء الراغبات في العمل بالأعمال اليدوية الصعبة وتدعى هذه الأمكنة بمساطر النساء على غرار الأماكن الخاصة بالرجال. واتفقت غالبية الأسباب التي دفعتهن للعمل في هذه المهنة الشاقة على غياب المعيل الأساسي للأسرة، فوجدت المرأة نفسها مسؤولة عن ايتام قصر أو أخوة وأم وعائلة مع غياب الرعاية الاجتماعية الحقيقية من قبل المؤسسة الرسمية. هؤلاء النسوة المثقلات بالمسؤوليات يتجمعن فجرا لتأتي متعهدة لجمعهن وإرسالهن للمعامل ومخازن التمور والمزارع مقابل عمولة. وتتحصل النساء ومن مختلف الأعمار على فرص عمل في مواسم جني التمور والذرة والحنطة والشعير. إحدى "نساء المساطر"، السيدة نورية عويد (42 عاما)، وهي أم لثمانية أيتام توفي والدهم بمرض التدرن قالت إن" راتب الرعاية الاجتماعية الذي أتسلمه من الدولة لا يكفيني لثلث الشهر.. ولدي أطفال في المدارس الابتدائية والمتوسطة وقد اضطرت ابنتاي الكبيرتان إلى ترك الدراسة لعدم تمكني من تسديد نفقات الدراسة، لهذا السبب اعمل.. وقد أتعبتني هذه الاعمال ولا ادري إلى متى استطيع الصمود لتجنيب بناتي ذل العوز والحرمان". "أنا أراقب ما تتعرض له الفتيات تحت سن العشرين من تحرش واستغلال..بعضهن يتعرضن إلى مشاكل أخلاقية مخلة بالشرف وبعضهن يقعن في فخ الإغراء لأصحاب العمل". أم علياء، امرأة في نهاية الثلاثينيات، تقول إن زوجها عامل خدمة في إحدى المؤسسات الصحية وهو يسمح لابنته (علياء) البالغة من العمر 18 عاما بالعمل في الحقول لتساعده في تكاليف المعيشة "لان راتبه قليل ونحن بحاجة لدخل إضافي". وأضافت" أحيانا تخرج العائلة بكاملها للعمل في كور الطابوق تحت ظروف عمل قاسية من اجل توفير ما يلزمنا من كسوة الموسم وخزين المحروقات وإيجار البيت.. والباقي على الله وعلى الراتب". تقول أم عماد، وهي متعهدة لجمع النساء وإرسالهن للمعامل ومخازن التمور والمزارع مقابل عمولة:ن"جميع النساء ومن مختلف الأعمار يحصلن على فرصة عمل في مواسم جني التمور والذرة والحنطة والشعير". وأضافت أم عماد "في الأيام الباردة تضطر النساء للعمل في مخازن التمور لتنظيفها وتغليفها وقد تضطر بعض النساء للعمل في التحميل وإزالة الأنقاض من البيوت المشيدة حديثا، فيما يفضل بعضهن الخدمة في البيوت ممن هن بحاجة إلى مورد يومي للمعيشة ولا يستطعن العمل في الظروف الصعبة".
وتابعت "بعض النساء المتعففات يخجلن من الخروج إلى المساطر رغم استعدادهن للعمل .. فأتولى الاتصال بهن في البيوت للخروج مباشرة إلى موقع العمل".
من جانبه، قال أحد أصحاب العمل، انه يفضل النساء "رغم بطئهن في العمل". مشيرا إلى انه "في بعض الأحيان تصطحب النساء أطفالا يعملون بنصف اجر".
وأشار إلى انه يستعين بالنساء "لان الرجال يأنفون من هذه الأعمال وهم يفضلون قضاء الوقت بالمقاهي والثرثرة على أن يعملوا بهذه الأعمال"!.
حكايات من الأرصفة العراقية

الحاجة أم جاسم امرأة كبيرة العمر تقول: أبيع الدخان وصبغات الشعر وولاعات وأموراً أخرى متعددة لاحصل على أموال قليلة جدا لا تكفي لمصروفنا اليومي ولكن ماذا نفعل ما في اليد حيلة وانا أم لأربع بنات؛ ثلاث منهن في المدرسة وأنا هنا اقضي نهاري تحت وهج الشمس الحارقة في فصل الصيف وتحت رحمة البرد والمطر. الحاجة إقبال ماجد أم حنين تقول : كل يوم نساء يحضرن منذ ساعات الصباح الأولى في أماكن تكثر فيها الأشجار اليابسة وبقايا الحشائش اليابسة يجمعن الحطب ويسرن لمسافات بعيدة حيث انعدام وقلة المحروقات التي لا تسعف العوائل كثيرة العدد، يتركن بيوتهن مبكرا كي يغنمن من بقايا الأشجار اليابسة. تضطر مروى امجد، والمئات غيرها من نساء العراق للتنقيب عن قوتهم في صناديق القمامة، تقول- وهي عاطلة عن العمل وأرملة نازحة من ديارها وتعيل ثلاثة أطفال - بالتنقيب يومياً في صناديق القمامة علها تعثر على ما يسد رمقها ورمق أطفالها، فهي لا تملك أية وسيلة أخرى لإطعامهم.
قالت : كان الأمر في البداية صعباً للغاية. فلم أكن أتصور أبداً بأنني سأضطر يوماً لإطعام أطفالي من فضلات الآخرين، فعندما كان زوجي على قيد الحياة ، لم ينقصنا الطعام يوماً ولكن بعد تعرضه للقتل في العام الماضي، تدهورت حياتي من سيئ إلى أسوأ وأطفالي صغار، لذا لا يمكنهم العمل. أم جابر سيدة خمسينية تقوم بتوزيع (الكيمر) على مناطق عدة صباح كل يوم، وهي تؤدي مهمتها بحيوية بالغة . أم حسين تعمل طوال سبع ساعات في معمل طابوق ، في ظل ظروف قاسية، لا يتحملها أكثر الرجال صبرا، أم حسين، التي غطّت وجهها، فلم تعد تظهر إلاّ عيناها، بحجاب أسود لتعالج تقلبات المناخ عليه ، ترتدي إلى جانب ذلك عباءة حزمتها عند خصريها وحذاء بلاستيكيا أسود، لا يقي قدميها من صدمات الحجارة المتناثرة في الموقع، هي أم لثلاثة أطفال، فقدت زوجها منذ ثلاثة أعوام، بعد مرض أصابه، فهي لا تجد مصدر رزق آخر تعيل به عائلتها، وهي مضطرة إلى هذا العمل الشاق، الذي استهلك نصف عمرها، على حد تعبيرها. وتحت أشعة الشمس الحارقة، تعوّد العراقيون على منظر نساء وأطفال وحمير وعربات تصنع الطين المفخور، وترصفه على المساحات، بعدما يفخر داخل أفران "الكورة" ، تشير أم حسين إلى رفيقاتها العاملات، وهن ثلاث؛ إحداهن كسرت رجلها قبل نحو شهرين، حين سقطت وهي تحمل على كتفها صفوف الطابوق. وتحصل أم حسين يوميا على مبلغ 12 ألف دينار، لتأمين لقمة العيش. ولا تعتقد أنها ستستمر في عملها الشاق هذا، بعدما دبّ الضعف في بدنها، إضافة إلى حاجة أطفالها إليها طيلة النهار. إجازات المرض والولادة ينصّ الفصل العاشر من قانون العمل الجديد على أحكام تحمي المرأة العاملة، منها إلزام صاحب العمل بحمايتها، وعدم جواز تشغيلها بعمل ليلي، إلا إذا كان ضرورياً، أو بسبب قوة قاهرة، أو للمحافظة على المواد سريعة التلف. ويمنح القانون المرأة الحامل إجازة خاصة بالحمل والوضع مدتها (72) يوما بأجر تام، كما يلزم القانون صاحب العمل عدم إرغام المرأة الحامل أو المرضع على أداء عمل يضرّ بصحة الأم أو الطفل، كما يجيز للمرأة التمتع بإجازة أمومة خاصة لمدة سنة واحدة من دون أجر، تنصرف فيها لرعاية طفلها. لكن إلى الآن لم تستطع أم حسين تأمين مصدر آخر للرزق، لاسيما أنها لا تجيد مهنة ما سوى العمل في الزراعة. لا تتردد أم حسين من العمل في المصانع والمعامل إذا وجدت فرصة لذلك، طالما أن ذلك سيؤمّن لها دخلاً شهريا ثابتا. يبدأ عمل أم حسين، إلى جانب زميلاتها، منذ الصباح الباكر عبر نقل "اللبن"، وهو الطابوق الطيني، الذي لم يفخر بعد، إلى الأفران، التي ترتفع كثيرا على أرض في بطن " الكور"، إلى أن تكتمل عملية الفخر، التي تتطلب وقتا طويلاً، حتى يتم نقل الطابوق المفخور إلى الخارج، حيث يوضع على شكل صفوف تمهيدا إلى نقله وبيعه. تعرّضت منال الحسيني (25 سنة) إلى أمراض جلدية خطرة، بسبب جفاف الجلد نتيجة عملها تحت أشعة الشمس القوية طوال النهار، إضافة إلى تعرّضها للدخان الأسود والغبار والأتربة أثناء عملها. تعتبر سعيدة صالح أن عملها في معامل الطابوق أفضل بكثير من عملها في مكامن النفايات، حيث كانت تجمع الزجاج والاجزاء البلاستيكية لتبيعها إلى تجار الخردة. تعمل سعدية منذ الفجر إلى المساء بأجرة لا تتجاوز الأربعة دولارات يوميا، من دون ضمانات صحية أو اجتماعية. اضطرت فاطمة جاسب (22 سنة) من المحمودية إلى ترك مدرستها لغرض توفير مبلغ لعائلتها، التي تشكو الفاقة. وتضيف: تركت مقاعد الدراسة، بعدما مرض أبي، ورغم ندمي على ذلك، إلا أنني أشعر بالرضا، وتتابع: أتمنى أن تتاح لي فرصة العودة إلى المدرسة مجددا. أم حيدر تعمل في "الكورة" منذ عام تقريبا، بعدما تعذر الحصول على عمل آخر. وبحسب أم حيدر، فإن العمل الشاق في هذه المهن لا يتحمّله سوى "البغال والحمير"، حيث تسخر بعض المعامل الحيوانات لأغراض نقل الطابوق. لكنها تجد مهنة إنتاج الطابوق أفضل بكثير من التسوّل في الطرقات. وتتابع: لن أشحذ طالما أنني أستطيع العمل، تتألم أم أحمد لمنظر النساء اللواتي يقفن في التقاطعات، وهن يمددن أيديهن للتسول، وتقول إنها غالبًا ما تتحدث إليهن، وتدعوهن إلى العمل، حتى وإن كان عملاً شاقًا مثل معامل الطابوق، لكن أم أحمد تعترف بأن المرأة المتسوّلة تحصل على مبالغ أضعاف ما تجنيه هي من عملها. ويشير صاحب "كورة" عصام حسين إلى أن هذه الأفران البدائية تعيش أيامها الأخيرة، وكان يجب أن تنقرض منذ وقت طويل، لكن الحصار الاقتصادي الذي مرّ به العراق طوال عقد من الزمن، إضافة إلى الحروب، أبطأ من زوالها. ويتابع: ليس هناك من وسيلة لتحسين ظروف العاملين، لأن أرباح بيع الطابوق قليلة جدا، ولا تشجّع على رفع رواتب العاملين أو زيادة أعدادهم.
يد عاملة رخيصة

لكن سعيد القريشي، صاحب معمل طابوق جنوب المحاويل، يعترف بأن أصحاب المعامل يجدون في النساء والأطفال أيدي عاملة رخيصة، لكنه يشير إلى أن هذه المعامل نجحت في توفير فرص عمل في ظروف قاسية.

الأمية والواقع الريفي
تقول الباحثة في حقوق المرأة أمينة الحسيني إن المرأة الريفية وغير المتعلمة في العراق هي الأكثر عرضة لسوء الاستغلال من قبل المجتمع، الذي يجدها وسيلة رخيصة للإنتاج، وتتابع: المرأة الفقيرة غالبا ما تقبل مضطرة العمل الشاق. وبحسب تخمينات، فإن عدد الأرامل والعوانس في العراق يصل إلى أكثر من مليون امرأة، يعانين شظف العيش، ويعملن في أرذل الأعمال وأصعبها. وتحثّ الناشطة النسوية هناء الجميلي، المنظمات الإنسانية ومنظمات حقوق الإنسان على تفعيل دورها في الضغط على الجهات المعنية لانتشال المرأة العاملة في العراق من واقعها المرير .