فضاءات

الشيخ حميد الغاوي مأثرة لا تنسى / محمد علي محيي الدين

ولد حميد سعيد غاوي الغزالي، المعروف بأسم الشيخ حميد الغاوي في مدينة الحلة محلة الجامعين سنة 1922، في أسرة تمتهن الزراعة،وعرف والده بالسمعة الطيبة، والمكانة الكريمة بين مجاوريه، وارتبط معهم بعلاقات حسنة تنامت على مدى الأعوام حتى أصبحت أكثر من القرابة.
في كنف هذه الأسرة الكريمة عاش الشيخ حميد الغاوي، وأصيب في صباه بمرض" التراخوما" ولقصور الطب تلك الأيام أصيب بضعف البصر وكان لا يرى إلا القريب منه حتى أواخر أيامه ويميز الناس بأصواتهم، كان متفتح البصيرة وان فقد البصر،لم يمنعه ذلك من التفوق في مجالات الحياة المختلفة، ولإرادته القوية وعزيمته اثر في تكوين شخصيته ، فكان يصر على أن يأخذ مكانه في التاريخ، ولم يقعده فقد البصر عن تحصيل العلم أو ممارسة العمل المهني والتجاري، فعمل نساجا وكانت له مكانته بين النساجين، ورافقه التوفيق في عمله ليصبح من أصحاب المعامل وأرب?ب الشأن الذين يشار لهم بالبنان، وأعطى المثل الأعلى لأصحاب المعامل في التعامل مع عمالهم فكان رؤوفا بهم حانيا عليهم منصفا لهم ، يقاسمهم آلامهم وهمومهم، ويمنحهم من فائض العمل ما يجعلهم في بحبوحة دونها غيرهم من العاملين في المعامل الأخرى، وكان لدراسته على العلامة الشيخ عبد المجيد الماشطة الأثر الكبير في فهم الاقتصاد السياسي وفائض القيمة، وتطبيقه عمليا من خلال تعامله مع العمال.
ارتبط برباط روحي بالشيخ الماشطة ودرس عليه الفقه والأصول والمقدمات، ومهر في الاقتصاد السياسي وتاريخ الشعوب ونضالها، وأصبح لصيقا بشيخه الكبير يرتاد مجلسه، ويأنس له، فتشرب من علمه، وأستقى من فضله، واستمد من آراء الشيخ وتوجهاته الوطنية ما جعله من العاملين في المجال الوطني والسياسي، فقد كان الشيخ الماشطة رجل علم وأدب وفن، وذا فهم وقاد في الاقتصاد وتاريخ الشعوب، لذلك أصبح للشيخ الغاوي توجهه الوطني ونظرته الصائبة للواقع العراقي. فقد شاهد ببصيرته معاناة العراقيين وما يحدث من ظلم واستغلال وسرقة لجهود العاملين في ا?صناعات المختلفة، أو زراع الأرض من الفلاحين، وكيف تسرق جهودهم، فكان له اندفاعه في العمل السياسي رغم ما أصاب عينيه، فانتمى لحزب الشعب الذي يقوده الراحل عزيز شريف، وعمل في صفوفه ناشطا متميزا في الفكر والعمل، ويبدوان فكره أكثر نضجا، واندفاعه أكثر بأسا، فترك الرافد الصغير ليغرف من البحر الكبير، بحر الشيوعية الهادر في فكره ونضجه وعمله النضالي الذي ميزه عن الآخرين، فانتمى للحزب الشيوعي العراقي في الأربعينيات، وقال عنه الرفيق الخالد فهد في إحدى رسائله من السجن (عليكم الاعتماد على(ش.ح.الغاوي) فانه ثقة)، وكان من الف?علين النشطين في مجلس السلم والتضامن والمؤسسين الأوائل لأنصار السلام، وتولى قيادته أستاذه ومرشده الروحي العلامة الشيخ عبد الكريم الماشطة، فكان ناشطا في العمل السياسي في جميع مجالاته الحزبية والمجتمعية، وناله جراء ذلك السجن والتشريد والاضطهاد، فلم يفت ذلك في عضده، أو يضعف من أمره، وواظب على العمل السياسي رغم تغيير الظروف، وتبدل الأحوال، ولشهرته بين المناضلين أشار له عبد الجبار أيوب مدير سجن الحلة في العهد الملكي عام 1954 وذكره فيمن ذكر من القيادات الشيوعية التي عركت الخطوب وواجهت الإرهاب.

صدور "صوت الفرات"

وكان من العاملين في جريدة صوت الفرات وصاحب امتيازها، وذكر الأستاذ فائق بطي"صدرت أوائل تشرين الثاني عام 1954 نشرة صوت الفرات بأربع صفحات لسان حال منظمة الفرات الأوسط للحزب الشيوعي العراقي تحت شعار "من أجل السلم والتحرر الوطني والديمقراطية "داعية إلى النضال من أجل إحباط الانضمام إلى مشروع تركيا- باكستان العدواني وضد كافة المشاريع العدوانية الأخرى ومن أجل أطلاق الحريات الديمقراطية والحقوق الدستورية، ومطالب الجماهير الاقتصادية ومن أجل إسقاط طغمة نوري السعيد الخائنة، ومجيء حكومة ائتلافية وطنية"فائق بطي كتاب الصحافة اليسارية في العراق ص108.

مطبعة جديدة عند الشهيد كاظم الجاسم

وذكرت ثمينة ناجي يوسف في كتابها عن سيرة حياة الشهيد سلام عادل"وقد صدرت بأشراف سلام عادل أول جريدة لمنظمة الفرات الأوسط،وهي جريدة صوت الفرات التي واصلت الصدور لمدة عشر سنوات،ثم صارت علنية بعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958،وكان رئيس تحريرها الشهيد حسن عوينة ،وكنت أتعاون معه في التحرير وكتابة الكثير من المقالات ومعالجتها."،مما يعني أنها استمرت بالصدور حتى عام 1963 أو بعدها وهذا ما سنشير إليه في محله من المقال. لقد كانت جريدة صوت الفرات الصادرة عام 1954 تطبع بصورة سرية في البيت الحزبي في المهدية وكان القائم بأعمال المطبعة الشهيد محمد موسى التتنجي الذي كان حينها عضو محلية بابل،وأستطاع بفضل علاقاته بأبناء مدينته النجف توفير ما تحتاجه المطبعة من أحبار وحروف أو ما يحصل عليه بواسطة الحزب من بغداد،وبعد إلقاء القبض عليه تم جلب مطبعة جديدة ،أخفيت في قرية البو شناوة معقل الشهيد كاظم الجاسم التي كانت الملاذ الأمن للشيوعيين والمخبأ الدائم لهم حتى استشهاده ،وأن وضع المطبعة هناك لا يجلب الأنظار لوجود مخابئ عديدة في بساتين آلبو شناوة الذين أصبحوا شيوعيين أو أصدقاء للحزب بفضل وجود كاظم فيها وما يحضى به من احترام في أوساطها وبعد أن صدرت علنية تم الاستعانة بها إضافة لما توفر من أجهزة جديدة للحزب بعد تحسن ظروفه وارتفاع إمكانياته،وقد استفادت المنطقة من هذه المطبعة في فترات الاختفاء ،وقام الشهيد كاظم الجاسم بإيصالها إلى بغداد بعد كبس الأوكار الحزبية والاستيلاء على مطابع الحزب بسبب خيانة هادي هاشم ألأعظمي،وقد حملها بنفسه إلى بغداد مستخدما الطرق الريفية في مسيرة على الأقدام،كان ينام خلالها في بيوت معارفه من سكان القرى الواقعة على طريق حله بغداد. وعندما جلب الحزب الشيوعي مطبعته أواسط خمسينيات القرن الماضي، لطبع منشوراته وجريدته "صوت الفرات" كان الشيخ الغاوي من محرريها البارزين.

الشهيد حسن عوينة رئيس تحريرها

وفي عام 1959 صدرت جريدة (صوت الفرات) فكان حسن عوينة رئيس تحريرها، ورغم قصر عمر الجريدة استطاع حسن أن يعكس في العديد من المقالات والتعليقات روحه الثورية وكفاءته الأدبية.
وأغلقت الجريدة في نفس السنة وفصل حسن من نقابة الصحفيين ضمن أول قائمة في فترة انتعاش الرجعية باعتباره (صحفياً طارئاً). وقد جعل من سبب الفصل هذا موضوعاً للنكتة فقدم نفسه لمعارفه كـ(صحفي طارئ)! وكان بذلك يتوخى إدانة افتعال الأسباب التافهة التي تلجأ إليها الرجعية لخنق حرية الصحافة ومكافحة قوى التقدم."وعن صدورها بعد عام 1958 يحدثنا الرفيق فلاح الرهيمي الذي كان يعمل محاسبا للجريدة" أصدرت منطقة الفرات الأوسط للحزب الشيوعي العراقي جريدة تنطق باسم المنظمة للتوسع الكبير في أعضائها ولأنها تغطي مساحة كبيرة تلك الأ?ام تمتد تنظيما من المحمودية شمالا وكربلاء غربا والنعمانية شرقا والديوانية جنوبا بحدودها الإدارية التي تشمل محافظة المثني حاليا ومن ضمنها النجف التي كانت يومها من أقضية لواء كربلاء. وكان رئيس تحريرها المناضل الشيوعي وشهيد الحزب والحركة الوطنية حسن عوينة البطل الذي واجه طغيان البعث ببسالة منقطعة النظير وأعطى مثلا رائعا للشيوعي الحقيقي في مواجهة المحن والمصاعب، وقد كلفت بان أكون محاسبا للمجلة وكان مكتبها في الطابق الثاني لبناية مكونة من طابقين تقع في محلة المنتجب في الجامعين تحيط بها المقاهي والأسواق وأهالي ا?جامعين النجباء الذين رفدوا الحزب بكل ما يستطيعون من دعم مادي ومعنوي ومشاركة في بناء الحزب وديمومته، والآن أصبحت جزء من شارع الإمام علي .

مدرسة للكادر

وكان لصدورها عن منطقة الفرات الأوسط أثره الكبير في تكوين كادر صحفي متمرس استفاد الحزب منه في القادم من سنين النضال ،وكانت تصدر بلغة قريبة إلى مدارك ذوي الثقافة البسيطة لذلك كان لها تأثيرها الكبير في نشر الوعي وتعميم الثقافة لما حوت من مواضيع تلفت الانتباه وما عالجت من قضايا المنطقة واحتياجاتها فكانت لسان حال الجماهير الشعبية والمطالب بحقوقهم في الأعمار والبناء ورفع الظلم عنها،وكان للشهيد حسن عوينه دوره المؤثر في إصدار الصحيفة وتطورها لما يتحلى به من أدب جم وأخلاق شيوعية رصينة كان لها تأثيرها في بناء الكادر?الحزبي المتمرس على العمل وسط الجماهير وكانت مدرسة لتخريج المناضلين المتسلحين بالروح الثورية الشجاعة ولها أهميتها القصوى في شحذ الهمم ورفع المعنويات،ورغم التوسع الكبير في إمكانات الحزب وجماهيريته بعد هذا التاريخ إلا أن المنطقة لم تتمكن من إصدار جريدة بهذا المستوى رغم التباين الكبير في ألإمكانيات للفترات اللاحقة. وبعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958 وظهور الحزب العلني، أسهم الشيخ الغاوي في العمل السياسي بفاعلية مدهشة، فقد كان أحد الأعضاء البارزين في المجلس الوطني للسلم والتضامن، وعضو الهيئة العليا لمنظمة أنصار?السلام في بغداد، واصدر مع الشيخ عبد الكريم الماشطة جريدة "القافلة" التي أغلقت بعد صدور أعداد قليلة منها، وعلى أثرها توفي الشيخ الماشطة، فأصدر الشيخ الغاوي جريدة "صوت الفرات" بدلا عنها مستمدا أسم جريدة الحزب السابقة، وأصبح مقر الجريدة في محلة الجامعين، جوار مقهى حمود بدير، وكان الشيخ الغاوي صاحبها ومديرها المسؤول، وشارك في تحريرها حميد عبد الحسين وطالب كاظم الحسيني وباقر إبراهيم وغيرهم. ويذكر معاصره أنه كان متوسط القامة، تعلوا وجهه الابتسامة الدائمة،جميل الطلعة،أنيق في ملبسه، تتفجر الحكمة منه، مرحا ميالا ?لسخرية والنكتة المؤدبة، وصوته ذو نغمات موسيقية شجية،وله قدرة على تمييز الآخرين من أصواتهم لضعف بصره،وكان عف النفس واللسان، كثير الاعتداد والثقة بالنفس فطنا لبيبا، وله ذاكرة وقادة، وقدرة على الإقناع والحوار، ومتكلم يبهر السامع بفيض معلوماته وطريقة تناوله للموضوع، وخطيب قادر على إثارة الاهتمام، قرض الشعر وبرع فيه،وضاع ما كتب بسبب الظروف التي مر بها، والمشاكل التي واجهها في نضاله الطويل.

قالوا عن الشيخ الراحل

وقد ذكر بعض من عمل معه حكايات طريفة عنه، يقول الرفيق الأستاذ عبد الأمير الشلاه: كنت طالبا في المدرسة الجعفرية المسائية عام1954، اسكن في فندق العلمين الكائن في الحيدرخانة، واعمل في إدارته مساء حيث أقوم بتسجيل أسماء النزلاء وعناوينهم في سجل خاص يعرض على مديرية الأمن يوميا، وفق سياقات اتبعتها الأجهزة الأمنية آنذاك لإحصاء الوافدين الى العاصمة بغداد، وذات يوم خرجت من الفندق صباحا فالتقيت بالشيخ حميد الغاوي وهو يرتدي ملابس السجن" الكانة" وهو بحالة يرثى لها،وكان يميزنا بأصواتنا، فناديته باسمه فعرفني، وعلمت منه أنه خرج من السجن توا، فأدخلته معي الى الفندق، وأخذته الى غرفتي فاغتسل واستبدل ملابسه، وأخذ سماعة الهاتف وأتصل بأشخاص لا اعرفهم، وكان قبيل اعتقاله يعمل في الوسط التجاري ولديه مكتب في عمارة الدامرچي الكائنة في شارع السموأل، له معارف كثيرون في أوساط التجار، وأخبرت صاحب الفندق الذي هو من أخوالي بأنه أحد التجار المعروفين، أخنى عليه الزمن وحاربته الظروف، وكنا مجموعة من الطلبة نكون خلية حزبية ناشطة يتولى مسؤوليتها الرفيق هاشم الالوسي - أحد أبطال ثورة حسن سريع في 3 تموز 1963- فكان الشيخ الغاوي يجلس معنا في الغرفة ويشرح لنا الاقتصاد السياسي والمادية التاريخية والفلسفة الماركسية، بأسلوب سهل قريب من مستويات تفكيرنا وبطريقة عجيبة مدعمة بالشواهد الحية المستقاة من الواقع العراقي، مما سهل فهمها وجلاء الغامض منها،وظل في بغداد فترة طويلة، وكان شقيقه المرحوم طالب الغاوي يعمل في المقاولات ومن رجال الأعمال المعروفين، وعندما يأتي الى بغداد كنا نقول جاء" قطار الرحمة" لأنه كان يمد شقيقه بالمال الذي يكفي لمصاريفه تلك الأيام، وكان الشيخ حميد ينفق علينا ولا يستأثر بها دوننا، فكنا نعيش في بحبوحة بفضله. وعندما عدت إلى الحلة وواصلت دراستي في الثانوية المسائية عام1956 كنا نلتقي في مقهى الشيخ التي تحولت الآن الى محل نجارة مقابل شط الحلة، وكنا مجموعة من الشباب الثوري اذكر منهم مولى جليل ومحمد مبارك وجليل مبارك، وكانت لقاءاتنا أشبه بالندوة السياسية بما يضفي عليها الشيخ من علمه، وكان أغزر الموجودين مادة وأكثرهم فهما للفكر السياسي. ويذكر الرفيق طالب كاظم الحسيني انه عرف الشيخ الغاوي من خلال عمله في الجريدة، وكان حينها عضو اللجنة العليا لمنظمة أنصار السلام، ومقر منظمة الحلة لأنصار السلام في الصوب الصغير، تملكته الدولة بعد توسيع كورنيش الحلة، وقد انتقل الشيخ الغاوي الى بغداد للعمل في لجنتها العليا في منطقة العلوية قرب ساحة الأندلس، وكنت أزوره هناك. وهو من الرجال الصادقين والمناضلين المعروفين، تميز بصدق التعامل والأمانة والإخلاص، إضافة لعلاقاته السياسية التي بوأته مسؤوليات جمة في مجال الإعلام الحزبي والعمل الجماهيري. كان لصيقا بالحزب، لم ينقطع عنه يوما، سواء كان داخل التنظيم أو خارجه، فهو يرتبط معه بعلاقة روحية ليس لها نظير، وظل وفيا لمبادئه حتى ساعاته الأخيرة حيث توفي في مدينة الحلة في الرابع من تشرين الثاني 1998 وشيع تشيعا مهيبا شاركت فيه جميع الأوساط الحلية لما له من تاريخ ناصع وأثر كريم، وشعبية تنامت على مدى السنين.