- التفاصيل
-
نشر بتاريخ السبت, 11 تشرين2/نوفمبر 2017 19:19
يلتئم شملنا اليوم في هذا الاجتماع الاحتفالي ، لنحيي الذكرى المئة لثورة اكتوبر الاشتراكية العظمى في روسيا. الثورة التي تعتبر واحدا من اهم احداث القرن العشرين، ان لم تكن اهمها اطلاقا، والتي اثّرت بنحو مباشر او غير مباشر ، في معظم احداث القرن. وذلك ما جعل المؤرخ الكبير اريك هوبسباوم يطلق على القرن العشرين تسمية "قرن اكتوبر" مثلما ان القرن التاسع عشر كان قرن الثورة الفرنسية.
كانت ثورة اكتوبر ، التي تصدرتها جماهير العمال والجنود والفلاحين بقيادة حزب البلاشفة وعلى رأسه لنين، ثورة حقيقية انطلقت من اعماق المجتمع الروسي، كانت ثورة جميع المسحوقين ضد الحرب والقهر الذي يمارسه النظام القيصري، ضد الجوع وضد ملاك الارض والنبلاء. وقد جاءت لجماهير الكادحين وللشعوب في روسيا وفي اوربا وبقية العالم عامة، بالبديل الذي ظلت تتطلع اليه وهي تعاني ويلات واهوال الحرب العالمية الاولى ، وتسحقها قبل ذلك وخلاله وطأة نظام الاستعباد القيصري ، واضطهاد واستغلال الاقطاع والرأسمالية .
وتحت شعار "الخبز والسلم والارض" خاضت الجماهير غمار الثورة مندفعة مظفرة ، وعصفت بأركان النظام المتعفن وهياكله.
ثم سرعان ماوفّت حكومة اكتوبر بوعدها، باعلانها الانسحاب من مسالخ الحرب العالمية الاولى ، والسيطرة على البنوك ، ومنح الارض للفلاحين. وحتى اليوم ما زالت تتردد اصداء ذلك الانعطاف المبدئي الذي جسدته مراسيم اكتوبر الشهيرة ، التي خرجت بها السلطة الثورية الوليدة الى مسرح الاحداث:
مرسوم السلام الذي اوقف مشاركة الجيوش الروسية في جبهات الحرب العالمية ، ومرسوم الارض الذي اعلن توزيع اراضي الملاك الاغنياء على الفلاحين المعدمين ، ومرسوم مجلس مفوضي الشعب المكلف بتنفيذ هذا وذاك وغيرهما من المهات الكبرى. كذلك الوثائق التي فضحت والغت المعاهدات والاتفاقيات السرية والاغتصابية التي وقعتها الحكومة القيصرية والحكومة الموقتة مع الدول الامبريالية، وبضمنها معاهدة سايكس – بيكو التي عكست التواطؤ الانكليزي - الفرنسي ضد الشعوب العربية ولاقتسام اراضيها. وبعدها "اعلان حقوق شعوب روسيا" ، ونداء مجلس مفوضي الشعب "الى جميع المسلمين الكادحين في روسيا وفي الشرق" ، الذي اشهر المساواة بين الشعوب وحقها في تقرير مصيرها بحرية ، بما في ذلك الانفصال وتأسيس دول مستقلة. وهو الحق الذي طلبت فنلندا ، وهي في حينه جزء من الامبراطورية الروسية ، ان تتمتع به ، فوافق لينين وحكومة البلاشفة عليه.
ومنذ ذلك الحين تزين احد ميادين العاصمة الفنلندية لوحة تحمل نص اعلان سلطة اكتوبر عن " حق الشعوب في تقرير المصير والاستقلال".
وكان لذلك كله اثره المحسوس المباشر في القارة الاوربية خصوصا، حيث ألهم النضالَ الثوري في بلدانها الاخرى من جانب ، وحفز من جانب آخر نضالَ الشعوب في وسط اوربا ، الملحقة قسرا بالامبراطورية النمساوية المجرية ، من اجل الحرية والاستقلال. كما امكن تلمس تأثيره ، بدرجة او بأخرى ، في ثورات ونضالات شعوبنا العربية وشعوب الشرق الاخرى ، وبضمنها ثورة 1919 في مصر وثورة العشرين عندنا في العراق.
وكانت هي ، ثورة اكتوبر ، من اعلن عن الهدف العظيم المتمثل في تحرير المرأة ، ومن اقدم على الكثير من الخطوات الملموسة في هذا الاتجاه ، رغم ما طرحه تخلف روسيا حينذاك من تحديات.
من ناحية اخرى كانت ثورة اكتوبر اول من اعتمد نظام الديمقراطية المباشرة ، حيث أسست نظام حكم المجالس (السوفييتات) المنتخبة ، الذي اتاح للعمال والجنود والفلاحين المشاركة في صنع القرارات اليومية ، فكان الاكثر ديمقراطية وتقدما في التاريخ الحديث.
وانسجاما مع هذا الواقع ، وحال اسقاط النظام القيصري واقتلاع انيابه ومخالبه القمعية ، استبعدت السلطة السوفييتية الجديدة اساليب العنف ووسائله في التعامل مع الخصوم السياسيين ، واعتمدت نهج التفاهم والتسامح. وتجلى ذلك بأجلى صوره في اطلاقها سراح وزراء الحكومة الموقتة المحتجزين ، بعد تعهد شفهي منهم باحترام النظام العام.
ومر بعد ذلك زمن عاشت فيه المدينة الثائرة ، بطرسبورغ ، حياة عادية طبيعية. فعربات الترام تسير في خطوطها المعتادة ، والمتاجر مفتوحة ، والمؤسسات تعمل ، والمسارح تقدم عروضها كل مساء. ولم يتغير هذا الحال الا بفعل الثورة المضادة. فعنفها الاعمى هو ما اجبر سلطات الحكومة الثورية على التصدي له بالقوة والقمع. وقد سلط الصحفي الامريكي جون ريد الكثير من الضوء على هذه الحقيقة في كتابه الشهير "عشرة ايام هزت العالم".
الحضور الاعزاء
هذه هي الحقيقة الساطعة لثورة اكتوبر ، في بعض ابرز جوانبها ، وهكذا كانت خطواتها الاولى المفعمة بالامل والطافحة بالوعد .. قبل ان تنفجر الثورة المضادة، وتنشب الحرب الاهلية ، ويتسع نطاق التدخل الخارجي والحصار الذي احيطت به الدولة السوفييتية الناشئة ، ويؤدي ذلك كله وغيره ، وتبعاته وذيوله ، وردود الفعل والتدابير المقابلة ، الى دفع التطور في الدولة الاشتراكية الاولى ، في الاتجاهات المعلومة .. التي افضت في النهاية ، بعد سبعين عاما على انتصار اكتوبر، الى ما افضت اليه من انهيار دولته وتجربته.
ونتذكر جميعا كيف هللت المراكز الرأسمالية يومها ، قبل خمسة وعشرين عاما، معلنة "نهاية التاريخ" و"انتصار" الديمقراطية الليبرالية!
لكن ما اظهرته وقائع هذه الاعوام الخمسة والعشرين ذاتها ، من تفاقم غير مسبوق لأزمة النظام الرأسمالي ، ولأزمات العالم والبشرية في ظله ، والتي نعيشها اليوم بكل عواقبها المدمرة ومخاطرها الرهيبة الكامنة ، دلل على بطلان ذلك الاستنتاج المتهافت ، واعاد توجيه الانتباه والانظار مرة بعد مرة ، نحو ثورة اكتوبر وامثولتها المتوهجة وقيمها الديمقراطية العميقة والانسانية الاصيلة.
نعم ، على رغم التغيرات الهائلة التي طرأت على العالم خلال القرن الذي انقضى على ثورة اكتوبر ، نرى ونحن نحتفل بمئوية ذلك الحدث العظيم ، ان البشرية اليوم في امس الحاجة الى تغيير المسار ، والعودة الى السبيل الذي شقه عمال وجنود بتروغراد قبل مائة سنة ..
مجدا لثورة اكتوبر ولرايتها الخفاقة في الكفاح ضد الاستغلال والحرب والجوع والظلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كلمة الحزب الشيوعي العراقي في الاحتفال بالذكرى المائة لثورة اكتوبر، الذي اقيم عصر امس السبت على حديقة مقر اللجنة المركزية للحزب في بغداد، القاها الرفيق مفيد الجزائري.