ادب وفن

الفنان المبدع فؤاد الطائي : لا حلول ولا بديل واقعياً إلا وسط الجماهير / حاوره - محمد الكحط

الفنان التشكيلي الدكتور فؤاد الطائي فنان عاصر فترة طويلة من الحياة السياسية العراقية منذ بزوغ ربيع الحركة الثورية. والدكتور الطائي مبدع متنوع المواهب، له العديد المقالات والدراسات النقدية في الفن التشكيلي وحتى في الشأن السياسي، كما يملك أرشيفا غنيا بمحتوياته. كان لنا معه هذا اللقاء لاستطلاع شهادته عن هذه المسيرة الطويلة.
متى تعرفت على الحزب الشيوعي العراقي ونشاطه، في أي مرحلة من حياتك؟ ما هيّ الذكريات التي تحملها عن الحزب؟

شكلت فترة الخمسينيات من القرن الماضي بالنسبة لي انطلاقة مرحلة المراهقة والشباب، وفيها بدأت مخيلة الفضول والتجربة في كل مفردات الحياة اليومية وتفاصيلها سواء في البيت أو الزقاق أو المدرسة، استطعت خلالها ان أختار من الأصدقاء من يشبهونني في جديتهم واهتماماتهم وسلوكهم. ومنذ ذلك الحين بدأت روح المنافسة والرهان في تحقيق الذات وإثارة الانتباه، وساعد في ذلك اقتدائي بشقيقي الرسام الذي استمر بمتابعتي وتوجيهي، وهو في روما حيث كان يدرس الفن آنذاك. فكان يرسل لي المجلات والصور التي تهذب السلوك وتقوي المخيلة وتوطد الثقة بالنفس. كذلك متابعة شقيقي الأكبر الضابط الطبيب والسياسي المتفتح الذي عرف كما أتصور كيف يضعني على سكة الثقافة والفكر التقدمي، دون تكلف أو مباشرة في ما يهدف إليه خيالي. كان الأمر لا يحتاج بالنسبة له سوى مغريات تبدو في ظاهرها مسلية، ولكن جوهرها يفصح عن مرتكزات في التربية والثقافة وروح الإبداع والشعور الوطني. فقد سجل لي اشتراكا في مجلة (سندباد) الأسبوعية، التي كانت تصلني إلى البيت لتضاف إلى الجريدة اليومية التي شارك فيها والدي لتصبح جزءاً من حياتنا. كل العائلة تتصفحها تباعا، وعندما أهداني شقيقي راديو صغيراً كان له وقع كبير عليّ، وميزني عن أقراني، فبدأ تذوقي لبرامج الإذاعات وموادها الوطنية والحماسية. كل ذلك مهد لي وبسلاسة ودون تصنع أو تردد الدخول في معترك النشاط السياسي في مرحلة الدراسة المتوسطة. كانت انتفاضة 1956، ابان العدوان الثلاثي على مصر، وكنت حينها في الأول المتوسط، كانت هي الانطلاقة في العمل السياسي ولو بشكله البسيط الذي يتناغم مع عمري. فتعرفت على زملاء يتحدثون بالسياسة وبكتمان شديد وشاركت للمرة الأولى في تظاهرة تضامنا مع مصر، وفيها عرفت الخوف وجدية النشاط السياسي، عندما باغتتنا قوات الشرطة بالهراوات وإطلاق الرصاص في الهواء. وتكررت التظاهرات ومعها بدأ مسلسل البحث عن المشاركين والقيام بالاعتقالات. في عام 1957 كنت لصغر سني أجدني مع قريب لي يكبرني سناً، وهو يتحدث معي عن أفكار الحزب الشيوعي وعن الثورة البلشفية، ولا زلت أتذكر اليوم الذي دسّ فيه بيدي ورقة مطوية قال أنها جريدة الحزب مستنسخة باليد وبخط دقيق، وطلب مني قراءتها وإعادتها خلال ساعة فقط، ولأتعلم للمرة الأولى الضبط والتنفيذ والعمل السري. وعندما تكررت التجربة في قراءة أدبيات الحزب آنذاك، أصبحت لدي فكرة عما قرأت مثل الجبهة الوطنية. كذلك أدركت في ما بعد أنني قد قرأت دعوة الحزب لاستخدام النفط كسلاح في المعركة ضد المستعمر، وكنت أسأل قريبي عن أشياء لا أفهمها، مثل الخروج من كتلة الإسترليني وسحب الأرصدة في الخارج، وإذا لم تخن الذاكرة فقد قرأت وعلى ورقة زرقاء بخط اليد معلومة مفادها ان قيادة الحزب اعترفت بأن التغيير صعب بالطرق السلمية ويستوجب النضال المسلح.

للحزب تأثير مشهود في الساحة الفنية والثقافية بشكل عام في تاريخ العراق الحديث، كيف تقيم هذا الدور؟

لا أستطيع أن أحدد بالضبط، لكن كنا نحس من خلال النشاطات الفكرية والاجتماعية والفنية في شتى المجالات، حيث كانت تتصدرها شخصيات معروفة بميولها للفكر الماركسي والتقدمي، وبذلك أصبح اقتران تلك النشاطات برفاق الحزب وأنصاره ومؤيديه بمثابة تحصيل حاصل، وأصبح شائعا بين الناس ان الشخصية المثقفة والمستقيمة في سلوكها تنسب إلى اليسار في الغالب. وأتذكر عندما كنت موظفا، انه تم استدعاء الفراش من قبل الإدارة وهدد بأنه سيطرد اذا وجد وهو يتحدث معي، فأخبرهم بشيء إيجابي عني فحذروه بأن ذلك ما يخشونه، لأن هؤلاء الشيوعيين يجذبون الناس كالمغناطيس عن طريق أخلاقهم ولسانهم.

هل لك أن تخبرنا شيئاً من الذكريات والمواقف التي تتعلق بمسيرة وتجربة العمل الثقافي؟

لم يلزم الحزب رفاقه بقراءة نوع محدد من الكتب والإصدارات، إلا في الحالات التي يجدها ضرورية للتثقيف بها. ذلك لأن معظم هؤلاء هم من النخبة المثقفة التي كانت تجد ضرورة الاطلاع على شتى الأفكار والأطروحات. لا أتذكر ان الحزب قد منعني من قراءة كتاب معين، ولكن كانوا ينقلون فقط رأي الحزب وكنا نتفق مرة ولا نتفق مرات، وكنت قد عرفت في السياسة والصراع الطبقي وطبيعة الأفراد والمجتمع قبل الحزب من خلال المضامين والأفكار وبشكل غير مباشر كنصوص في كتابات القصة والرواية في أعمال جبران خليل جبران ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وأنيس منصور وغيرهم. وعرفت في الستينيات والسبعينيات آراء وفلسفات لا تتفق مع فكر الحزب ولكنني قراتها بشغف من باب المعرفة الواعية والفضول مثل كتب سارتر وفرانسوا ساغان وغارودي وكولن ولسن وغيرهم، ولا يمكن أن أنسى متعة القراءة وجاذبيتها في مجلات وكتب دورية عريقة تابعتها، ولا زلت أحتفظ بنسخ قديمة من تلك الإصدارات.
الساحة بدت لنا أرحب بعد ثورة 14 تموز عندما أصبحت المحرمات والمحذورات من الكتب تباع علنا، لكبار الروائيين الروس مثل تولستوي وغوركي وتشيخوف ودستوفسكي، وفي تلك الفترة أتذكر أمرين، أن هذه الروائع كنا نناقشها في أمسيات يومية في مقار الشبيبة وأنصار السلام واتحاد الطلبة، حيث كانت تلك المقار منابر للثقافة وتبادل الأفكار والآراء. أما الأمر الثاني فهو أخفاقي في استيعاب رواية الحرب والسلام لتولستوي فلم أكملها لكني عدت لقراءتها بعد عشر سنوات تقريبا.

كيف كان تأثير الحزب الشيوعي على توجيه الشباب والنساء والطلبة والمثقفين؟

للحزب دور واضح وفعال عبر تاريخه في توجيه وتوعية وتنوير أجيال متعاقبة من الشباب عبر مختلف منظماته مثل الشبيبة والطلبة ورابطة المرأة، وكلها كانت ثرية بنشاطاتها، ومن خلالها تعلمنا في ظروف سياسية قاسية وصعبة أسلوب التمويه والمناورة كي نحقق الهدف دون أن نوفر للسلطات أسباب إدانتنا. وأنا شخصيا وبسبب نشاطي القيادي في المجال الطلابي والشبيبة أتذكر كيف استطعت الإفلات من تبعاتها مثل استثمار عملي كمحرر ومصمم في الصحافة لأنشر ما ينسجم مع النهج الإعلامي والثقافي للحزب. وأتذكر أنني كنت أدير وأتابع فرقة كبيرة للشبيبة في أواسط السبعينيات، لكننا كنا نعاني من مشكلة المكان للتمرين وبحيث يكون في مأمن من الرصد وإثارة الشكوك. فانتهزت مقابلة في الإذاعة لأعلن عبر الأثير بأن جمعية التشكيليين العراقيين لديها مفاجأة سارة لأعضائها وبالطبع كان الخبر عبارة عن تمهيد لإعلان تشكيل فرقة فنية للموسيقى والغناء خاصة بالجمعية ونجحنا حيث أصبحت التدريبات تتم في مبنى الجمعية. وهناك حالات أخفقنا فيها مثل مشاركتي في لوحة تدين التعذيب كي تذهب معي كعضو في اللجنة التحضيرية لمهرجان الشبيبة العالمي في برلين عام 1973، حيث سحبت من بين الأعمال المشاركة مع تهديد بالتحقيق لاحقا.

هل من كلمة في الذكرى الثمانين لميلاد الحزب الشيوعي العراقي ؟

اليوم ونحن في هذه الذكرى، يكون العالم المعاصر قد مرّ بمنعطفات حادة وتحولات جوهرية في السياسة والفكر والأخلاق والتقنية العالية، وخلالها وبالضرورة تغيرت الأساليب والمناهج والاهتمامات، بل والمفاهيم والعادات والأهداف. وهذا يعني ان يضعها الحزب كلها في مختبر التطوير والتجديد الجذري في الأشكال وفي المضامين على حدٍ سواء، وبدون ذلك يعني اللاجدوى والمراوحة في المكان!
الآن وفي ظروف النشاط العلني تغيرت الصورة تماما وأصبحت أكثر تأثيرا ومردوداً، والمعضلة في كيفية استثمارها عملياً، يجب تجاوز النشاطات التقليدية في إصدار الأدبيات وإقامة الندوات والأماسي في القاعات المغلقة المعروفة سلفاً بجمهورها التقليدي المحدود. لا حلول ولا بديل واقعياً إلا وسط الجماهير مع مطالبها الكثيرة الجادة التي تنقصها القيادة الواعية. وهذا لم ألمسه بعد منذ التغيير. لا بد أن يكون للحزب دور واضح في مسيرها.