ادب وفن

«الخيانة العظمى».. ضوء من بعد آخر / محسن حسين عناد

إذا كانت الرواية؛ شخصيات وأجواء زمانية ومكانية يطاردها الكاتب ويتوسع فيها ليظهر مادته الروائية كاملة الأبعاد والغايات، وبجهد موضوعي يعتمد الصور والعلاقات الاجتماعية والمواقف والأفكار والموهبة الفنية التي يدلف منها بعيداً عن سرد جاف يسيء للكلمة، فان القصة القصيرة رؤية خاصة تختلف عن الرواية في تشكيل العالم وتفسيره وتحديد رؤيته وفق موقف وحكم خاص يعتمد على موهبة الكاتب وثقافته ووعيه ومزاجه الذي يكون كفيلاً بتصوير دقيق للتجربة، كون القصة القصيرة بحثاً فنياً عن معنى الوجود وسعياً حثيثاً للإمساك باللحظة المغلقة وإيقاف الذكريات والصور الهاربة للاستفادة منها في تشكيل العالم الذي يوصل الم?اني إلى إشعاع هادئ هو النضج في التناول. لأن فقر الموهبة يقصي الكاتب عن فهم الطبيعة المعقدة للنفس الإنسانية. فالتعجيل في التقديم للنص يبعده عن استثمار التنازع بين الغرائز والمشاعر في نفس الإنسان الذي يمنح القصة عمقاً وحيوية لا يمكن بدونه أن يكتسب جواً درامياً.
اذاً القصة القصيرة جداً لا تبتعد كثيرا عن أجواء العوالم الأدبية الأخرى إلا بقصرها واختزالها للمواقف والأحداث ضمن محيط جديد وصعب. فهي قصة لها مقوماتها وميزاتها التي تجعلها عالماً فيه رغبة وعقل وتطلع. لأن حالتها ككيان جديد ومستقل تنبثق من دراما مكثفة تتوهج مثل قدحة شرارة واثقة وسط الظلام. لذلك اكتسبت هذه القصة نبرة خفيفة متوهجة يجتهد الكاتب في إبقائها سرية محاطة بليل يكشف أدق الأشياء. وضمن هذا التوصيف للقصة القصيرة جداً كان للكاتب حنون مجيد اسهامة أدبية جميلة ضمت أكثر من مئة قصة قصيرة جداً وتحت عنوان «الخيان? العظمى». المجموعة رافد جاد وإنساني يسعى لترسيخ مفاهيم وأفكار يضيفها إلى ما كتبه من روايات وقصص قصيرة أسهمت في تحصين وعي القارئ وتطلعاته.
لقد أوجدت قصص «الخيانة العظمى» وفرة فنية جميلة تعتمد الإيجاز الدال ذا الشروط والمواصفات. لأن مثل هكذا قصص تتطلب أولاً ذكاء من نوع خاص وقدرة كبيرة على الصياغة والخلق الفني حتى يستطيع الكاتب وبوعي ان يعبر الى تفاعل التجربة مع أعماق الذات ومن دون خسارة للنضج الفني وإسهام الخيال كقوة خلاقة في إضاءة التجربة والانفعال. كون مهمة الأدب عموماً هي إعانة الإنسان على فهم ذاته وارتفاع إيمانه بنفسه وتطوير عاطفة الصدق عنده وإيقاظ العمل بداخله.
فقصص الخيانة العظمى اسهامة طيبة وذكية من حنون مجيد، كونه كاتباً ذا خبرة طويلة وتجربة أدبية ناجحة ودربة ودراية بما يكتب وهذا يعود كله لوعيه وثقافته وإدراكه بطبيعة ومشكلات المجتمع. لذلك جاءت قصص المجموعة متميزة بالجمع بين سرد لبق ذي الجمل والتنقلات الرشيقة وبين الحلم والتداعي مما أفرز ظاهرة الاستباق والتمهيد في رؤيته ككاتب، فدخوله للقصة جاء متأنياً حالماً بخلق عالم من لحظة زمنية حياتية عاشها خياله فبنى منها نسيجاً لرؤى زاخرة ومملوءة بحيوات إنسانية محملة بالحزن والفرح والألم والبؤس ومؤمناً بعالم جديد يحقق ا?صلة بينه وبين الحياة. هذه الرؤية تمثل في عالم قصصه موقفاً او وعياً او حمىً خاصاً يسجل لإنسانية الإنسان انطلاقا من الواقع بكل موجوداته الفكرية. كون القصة القصيرة جداً ترتكز اصلاً على الهم الاجتماعي كمحرك داخل بنية السرد وفق لغة جميلة ومعبرة ومتحررة تتناسب مع الوعي الذي تمتلكه القوى المساهمة في تنامي الاحداث وبلورتها. لأن هذا الفن الصعب يعبر عن وقائع الحياة السريعة التي تتطلب الاختصار في كل شيء، فعملية التحكم فيه لا تقل أهمية وصعوبة عن إبداع أي نص أدبي آخر وما تحتويه القصة من مقدمة ومتن وخاتمة تحتاج ايضاً ال? تكنيك خاص في الشكل والاختصار في حجم الكلمات المعبرة عن الموضوعة المطروحة.
فقصة فقراء «لأننا فقراء. تتكدس في بيوتنا السلع التالفة».
وقفة تأمل عميقة للقصة تظهر مشاهد واسعة يعيشها الناس. الناس الذين لا يملكون من حياتهم سوى القهر والجوع والفقر. هذه التأملات والهواجس التي تملأ وجداننا وتضعنا في حقيقة ان الكاتب سبقنا كثيراً في التعامل مع الحدث والمفردات وبمهارة فنية وطريقة عالية مع البناء واختزال الحدث والاشتغال بمعان واسعة ومعبرة اختصرت المسافة وخلقت الضربة النهائية الناجحة فكان للإبداع الأثر الكبير في نجاح القصة وتأسيس جنس أدبي قائم على الالتزام بالقيم الجمالية والوعي ونقل العوالم المادية المحسوسة عبر لغة مكثفة الإيقاع السريع للحياة.
ومن قصة ابراهيم: «اسمه ابراهيم يبيع الحلوى على الصغار. فيفرح بالمحصول. ثم إذا مضى يوم بعد يوم صغر ابراهيم الحلوى اصغر من قطعة النقود. ولأن ابراهيم شيوعي خرج تواً من سجن 63، استحى من عمل مشين كهذا. وسرح عربته مع الريح».
قصة ذكية محملة بكم هائل من الدلالات والمعاني والافكار والتاريخ. حاول حنون مجيد توظيفها فنياً ليعطي للقارئ صورة صادقة عما كان يحدث في فترة مظلمة من تاريخنا ويوضح من خلالها مجتمعاً نعيشه مليئاً بالجور والجوع والاستغلال. هالة الرفض التي اشرتها القصة توضح فهم سياقات المعاني تلقائياً وبتأثير مباشر من وعي القارئ وإدراكه لتاريخه. فرفض إبراهيم لبعض ممارساته جاء من المرارة التي يراها مسيئة لأفكاره وتوجهاته وما يؤمن به. وهي حالة صحو تميز بها إبراهيم فأعطاها بعدا إنسانياً صنف ضمنه قدرته على التحكم والتحدي في المواقف? كون نقاوة افكاره صافية تحمل ديمومتها وبقاءها.
بهذا النفس الصافي تربى ابراهيم وشب على حب الناس والاخلاص لقضاياهم، لقد كان لهذه القصة وكغيرها من القصص مقدمات عدة أبرزها الاثارة والاندهاش والانطلاق من موقف لآخر وبأسلوب موجز مركز يختزل صراعات الإنسان مع هذا العالم المخيف. وفي تكثيف بعيد عن الحشو أو الفائض في النص ينقي الكاتب ألفاظاً تتشبع بلغة الايحاء والترميز آناً وبالمفارقة آناً وصولاً الى القفلة الذكية غير المباشرة في نهاية النص. لان القصة القصيرة جداً تعتمد على فكرة ناضجة مختبئة في عقل الكاتب وفي مكان ما من ذاكرته يخرجها من مكانها ليصوغها ويقدمها للق?رئ على شكل قصة مثيرة للاهتمام وليست مجرد حدث.
هذه التجارب الكثيرة والمتعددة تحتاج الى موهبة تصنع عملاً فنياً له قيمته. فقصة ابراهيم تتصدر قصص المجموعة وعياً وحبكة لامتلاكها ادوات صعبة تستجيب لمجمل الظروف السياسية والاجتماعية المتشابكة والتي اقلقت الإنسان وما تزال تقلقه.
أما في قصة هذا اليوم: «كان معلمنا يذكرنا بالشتيمة الساخرة التي تقول، يا له من زمن سيىء هذا التي تتساوى فيه القرعاء وأم الشعر. ولم نكن رأينا ذلك حتى جاء هذا اليوم». لكي يصل الفعل الابداعي لأكثر الناس، هناك أمور اهمها الوضوح في التناول والمواكبة واللغة السليمة الخالية من القسوة التي تنكر صفو الحدث. لان اللغة السليمة تكسب القصة النجاح سواء في السر أم في الموقف الذي يربط أجزاء السياق.
هذا الجو الفني هو من أعطى لقصة «هذا اليوم» ديناميكية برغم محدودية النص. لكن المعنى الكبير والبعيد فيه كان عاملاً أكد حقائق ملموسة وموجودة أفرزت وقائع ذات تأثير في حياتنا. وهذا النجاح يقره الإدراك الجدلي للحقيقة التي جاءت بانسيابية هادئة حددت مراحل الإيقاع الداخلي وتناوب الانفعالات في الموجة النفسية لحركة الحدث المحصور بزمن ومشهد قصيرين ومتسارعين. وبالرغم من ضبابية الزمن فيها إلا انه موجود فعلاً من خلال الشكل الشعوري. فلا غرابة انه يتخذ طابعاً محدوداً غير مطلق. فكان للقصة قوة مؤثرة وتوضيحية استفاد الكاتب?منها ضمن التركيب الداخلي للحدث الذي يعطي مؤثرات ورموزاً لكل الأزمان التي تخضع وما تزال للخطأ الاجتماعي.
ان ثيمة وجدلية هذه القصة مردها الحس التعبوي التحريضي المتسامي بنفس إنساني رافض للتشويه ومتحصن بروح مضحية وكبيرة لرؤاه وأفكاره اعتمده الكاتب وسيلة لخفاء متعمد يسلكه أدواته لا لشيء سوى امتحان لوعي القارئ. لان النص لا يكتمل عنده إلا بتحقيق التفاعل البحثي الاكتشافي معاً.
وفي قصة ثم يبكي: «صديقك في البلد الغريب يضحكك يطلي لك حديثه، يزين لك وحدته، يلقي عليك الطرفة تلو الطرفة ثم يبكي».
يبقى التدفق اللغوي في القصة يحمل من الغرابة والمفاجآت الشيء الكثير حيث يزين للقارئ المتعة والسؤال وتفيض مضامينه نسقاً درامياً ذا مدلول جمالي منضبط يخلق التوتر والتأويل. فتمجيد الألم تنفيس عن طاقة مضطربة نتيجة عنف التجربة وهذه مسألة نفسية تجسد بوضوح حب الوطن والانتماء له، وهذان عنصران يمنحان تدفقاً يقوض المآسي. لأن السمو على الآلام قدرة على تحمل واقع الحياة.
فوحدة الإنسان المغترب ثيمة اساسية تمثل رغبة مجنونة ضمن اجواء وعادات وابتعاد مفروض. هذه تتوضح بنبض حياة حبيسة تواجه خطراً في أية لحظة. فالتعامل بصميمية معها ورصدها بدقة يشكل طقساً حياتياً او نسقاً سرياً متوهجاً كون قلق الإنسان عاملا مضافاً للاغتراب والبعد.
اذاً القصر والإيجاز المكثف والتلميح في القصة يرسم نفساً موسوماً بالتوتر والتأزم اللذين يسبحان في النخيل والاختزال. فالكاتب يظل وعلى مدى تفاعله مع الحدث مشاركاً أساسياً في إظهار فنية النص بعيدا عن التعقيد الذي يضع القارئ أحيانا تحت سطوة النص من بدايته حتى نهايته فيكون عند ذاك في حالة وجدانية خاصة تبعده عن روح النص.
فمحدودية المشهد واكتناز المضمون بالفعل التهكمي والسخرية من واقع غريب ومريض يعتمد على لقطات قصيرة جداً وسريعة تجعل الإمساك باللحظة الهاربة متاحاً وتجعل الإلمام بالتفاصيل المسكوت عنها مهمة مسندة لخيال القارئ.
تبقى قصص «الخيانة العظمى» للكاتب حنون مجيد سباقة في الاضاءة للنبض السردي الحاد والمضطرب في بقعة مهملة من الوعي الإنساني القابع في زاوية من زوايا التجربة الإنسانية.