ادب وفن

قراءة في «يدي تنسى كثيراً» للشاعر مقداد مسعود / محمد عبد حسن

القصيدة
(*)
زقاق بنصف إغماضة
لظهيرته
صمت منتصف الليل
هنا يمكن لعاشقين
أن يتهامسا
15 دقيقة..
دون عاذل أو طفيلي
يكون الهمس برعاية
نافذة عالية
تقف خلفها واحدة من
الفتيات الثلاث..
القراءة:
"يد".. كلمة مؤنثة تتكون من حرفين، وتجمع على "الأيادي" في حال التفضل والعطاء.. وعلى "الأيدي" إذا أريد بها الجارحة. وتطلق على الجزء الممتد من المنكب إلى أطراف الأصابع، في حين يقصرها البعض على الكف.
وتخرج كلمة "يد" من معناها اللغوي أو المعجمي إلى العديد من المعاني والدلالات المصاحبة، فحين نقول:"يد الفأس" نعني مقبضها، وَ"أطلق يده".. جعله يتصرف بحرية، وعندما نقول "في يدي".. نعني في ملكي وفي حوزتي، "وضع يده على شيء".. سيطر عليه، وتشير أيضًا، فيما تشير إليه، إلى القوة والوحدة، "فهم يد واحدة على عدوهم". وحملها القرآن الكريم معنى آخر بقوله:"حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ".. التوبة.. أي عن ذلّ واستسلام. وبشكل عام تتأرجح دلالات كلمة "يد" بين مجالي القوة والعطاء.
فحين "يدّعي" الشاعر مقداد مسعود أن يده "تنسى كثيرًا" فإنه بذلك ينسب لليد فعلًا غير مألوف.. لي أنا على الأقل. فما نعرفه عن "اليد"، إضافة إلى كونها الأداة الأساس لحاسة اللمس، أنها عضو تابع يأتمر بأوامر الدماغ، وأن نسبة "النسيان" إليها يعطيها ذاكرة هشة لا تحتفظ بالكثير.
ما أفهمه من هذه الذاكرة "المفترضة" ونحن هنا نحاول قراءة قصيدة- هو عجز اليد عن ملاحقة التدفق الشعري لحظة الإبداع، وبذلك تكون قد نسيت الكثير مما أراد لها الشاعر أن تتذكره، فيما بعد، لتدوينه، ومن جملة ما "نسته" أنها تركت قصائد الديوان، جميعها، من غير عناوين أو ثريّات "على رأي الأستاذ الراحل محمود عبد الوهاب" يهتدي بها القارئ لتنير له، ولو خطواته الأولى، وهو يدخل إلى النص.. تاركة له مساحة واسعة للتأويل بدءًا من وضع عنوان مفترض يحاول صنعه القارئ تحت تأثير سلطة النص بعد قراءته.
تجدر الإشارة هنا إلى أن القرآن الكريم أعطى "لليد" صفة الشاهد، والشاهد، كما هو معلوم، اسم فاعل قام بفعل المشاهدة واحتفظ بما شاهده في ذاكرته لحين استدعائه للشهادة، "يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ".. النور. وهذا الأمر ليس بعيدًا عن التكوين المعرفي للشاعر المجاهر بيساريته على الدوام، فهو يشغل حيزًا كبيرًا من الموروث الذي تطفح به بيئته.
ينقلنا الشاعر، وربما يده.. بما تبّقى لها من ذاكرة، إلى:
"زقاق بنصف إغماضة
لظهيرته
صمت منتصف الليل"
وهذا مشهد سبعيني، أجزم بذلك كي لا أتجاوز موضوع "شهادتي"، وإن كان في الحقب السابقة مثل ذلك.. فلأترك لمن هم أكبر منّي سنًّا تأكيده. ما نسيت "اليد" قوله هنا هو: أن الوقت صيفًا، ففيه، فقط، يكون لأزقتنا "صمت منتصف الليل":
"هنا يمكن لعاشقين
أن يتهامسا
15 دقيقة"..
للنهار عيون.. كما يقول أهلنا، واختياره وقتًا للقاء يؤكد نبل العشق خصوصًا وأن مكان اللقاء هنا.. مكان مفتوح، بعيدًا عن الأبواب المغلقة وتحت سلطة عيون تنظر، ولو عن بعد، كما سيأتي. وَ "15 دقيقة" هو أقصى ما تستطيع فتاة أن تغيبه عن البيت وإن كان الغياب هنا ليس غيابا كليا، فهناك من يراقب:
"يكون الهمس برعاية
نافذة عالية".
و"للرعاية" هنا عينان، عين على الخارج.. وأخرى على الداخل، وهي جاهزة لإطلاق صفّارة إنذار إن تطلّبً الأمر. مشهد كهذا لم نعد نراه، فقد أزاحته ثورة الاتصالات بعيدا حتى أننا لم نعد نتذكره. وحسنًا فعلت "يد الشاعر" أن احتفظت بما تيسّر منه.
ما يريد النص، أيضًا، قوله هو أن "الفتيات" أكثر حذرا من "الرجال" في موضوع كهذا، ولذلك ما يبرره في مجتمع شرقي. ففي حين تحدّث النص عن رجل واحد لم يذكره منفردًا وإنما جاء كأحد "عاشقين".. رسم لنا صورة "فتاتين" من الـ "الفتيات الثلاث".. ناسيًا "الثالثة"، وقد اعتذر الشاعر، مبكرًا جدًا، عن هذا النسيان على غلاف ديوانه محمّلًا "يده" مسؤولية ذلك.. ولكني أراها هناك على طرف الزقاق البعيد ملتفّة بعباءتها ومراقبة فضاءً لا تغطيه "النافذة العالية" متمنية أن تنقضي هذه الـ "15 دقيقة" دون "عاذل أو طفيلي" حتى تتخلص هي من الحمي? الذي تصبه الشمس فوق رأسها لتعود إلى برودة الظلّ.. وإلى دفء الهمس الذي تنقله الفتاة وهي تحدثهما بما جرى.