ادب وفن

علي عباس علوان.. بعيدا عن التأبين (1) / مقداد مسعود

ما يواجهنا في أول المطبوع، هو آخر ما ينتجه النص، قبل الذهاب إلى المطبعة.. ومقدمة أي كتاب، هي مسك ختام الإنتاج المعرفي، وهي الخريطة التي يثبتها لنا المنتج، خريطة تجعل الطريق سالكة لنا نحن القراء، بالنسبة للمنتج، هي خطة عمله التي لم يبح بها لنا إلا بعد  تمكنه من منتوجه المعرفي وحان الوقت، انتقالها (الخريطة/ الخطة) من الكمون الى العلن، او جوانية المؤلف الى برانية النشر...
-2-
منذ السطر الأول، تفضح المقدمة تلك الكذبة الرومانسية وترد عليها بالكتابة.. أما الكذبة، فهي نبوءة ناقد العصر الفيكتوري (ماثيو أرنولد).. الذي تصور ان القرن العشرين هو قرن سيادة الشعر المطلقة حيث سيكون الشعر الحقيقة الكاملة وهو البديل عن اتصالية العلم /الدين، (لا شك أن نبوءة ماثيو أرنولد، ناقد العصر الفيكتوري، لم تتحقق خلال القرن العشرين،عندما أعتقد بمستقبلية الشعر وسيادته على كل الانواع الأدبية، بل وكل اهتمامات الفكر الإنساني باعتباره سوف يكون البديل الحقيقي عن (الدين ) و (العلم) وبأنه سوف يعبر عن (الحقيقة) ك?ملة، ويقدمها للإنسانية التي طال ترددها بين هذين القطبين /ص5)..
ثم يزيح الدكتور علي عباس علوان، ضباب الرومانسية،عن نبوءة أرنولد التي لم تحسب السرعة الضوئية..(بحيث لم تضع في اعتبارها القوانين الموضوعية لحركة المجتمع الانساني المرتبطة بتقدم الحركة الصناعية والسرعة الهائلة لانتشار الآلة وآثارها الضخمة في حياة الإنسان/ص5) إذن ارنولد لم يمسك إتصالية التقني/ الاجتماعي، بل تشرنقت رؤيته بتبئير ذاتوي..لكن أرنولد، يبدو انه كان على صواب بطريقة معكوسة،فقد أندس الشعر في القصة والرواية والمسرح والمقال، وصيرها سرودا مشعرنة، فالتقنية ليست أذكى من الانسان،إلا بالنسبة للذين لجماها بين ف?يهم.. (ومن هنا فأن قضية الشعر ظلت مطروحة في حياتهم الجديدة وستظل، على الرغم من كل الاستحداثات والموجات الأدبية والفنية التي غمرت ساحات الثقافة والفكر العربية،بسبب الانعطافة الحادة في قضايا المجتمع المعاصر وهو يدخل عصر التكنولوجيا ويتأثر تأثرا شديدا بالمتغيرات النوعية الهائلة للآلة/ص5).. كلام الدكتور علي عباس علوان.. المثبت في المقدمة المنشورة ضمن كتابه المنشور في 1975،أي في منتصف سبعينيات القرن الماضي، يومها كانت مؤثرات التقنية خالية من الرابط الاتصالي بمشتقاته خالية من الموبايل بتنويعاته، يومها اثبتت مهرج?نات المربد، سيادة الشعرالعربي، وكثافة جمهوره، واستقبال المطابع لعشرات بل مئات الدواوين الشعرية،التي كانت تتوالى اعادت طبعها.. لكن الباحث وهو يتحدث عن أزدهار الشعر يعزوه إلى (ضعف الحركة المسرحية، ولعدم رسوخ تقاليد القصة والرواية)..شخصيا وبتوقيت صدور كتاب الباحث ومع بدايات سبعينيات القرن الماضي،حتى 1977 ازدهرت الحركة المسرحية العراقية بشكل لافت للنظر، من خلال فرق المسرح العراقية في بغداد والمحافظات، وكان هناك أيضا أسبوع المسرح العراقي.. ومهرجانات ثقافية تشارك فيها الفرق المسرحية، منها فرقة(14 تموز) و مسرحيات?لا يمكن نسيانها مثل (الدبخانة) بطولة وجيه عبد الغني وقاسم الملاك.. وهناك المسرح الذي يقوده الفنان الكبير العاني قيادة جماعية مع خليل شوقي وفاروق الفياض وزينب وناهد الرماح.. وروناك شوقي..
المسرح الذي أنتج النخلة والجيران و مسرحية (الخرابة) و(الشريعة) وغيرهما من مسرحيات يوسف العاني كما ان القصة القصيرة العراقية، بلغت مكانة عليا من خلال(المملكة السوداء ) للقاص محمد خضير، و(زليخا البعد يقترب) للقاص جليل القيسي الذي اتحفنا قبلها بمجموعته المذهلة(صهيل المارة حول العالم) وكذلك فاضل العزاوي الشاعر والقاص والروائي الذي اصدر في آواخر الستينيات روايته ( مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة)، كما أصدر القاص محمد عبد المجيد، روايته (عراة في المتاهة) والروائي زهدي الداودي (رجل في كل مكان)، ورواية (اللعبة) للشاع? والفنان التشكيلي يوسف الصائغ ورواية ( يوم شديد القيظ،يوم شديد المطر) للروائي عادل عبد الجبار، وفي منتصف الستينيات ظهرت رواية عراقية حاولت الاستفادة من تيار الوعي لدي جيمس جويس للروائي العراقي المحذوف من النقد العراقي وهو الروائي ياسين حسين الذي اصدر ثلاثية روائية مميزة (الطريق المسدود) و (الصمت والحقيقة) و (كما يموت الآخرون) ولعبت مجلة الكلمة منذ عدد ها الاول في احتضان الشعر والقصة والمقالة النقدية والحوار الثقافي وصناعة الملفات القصصية والشعرية في اعدادها وهي اي الكلمة مجلة تصدر كل شهرين، (صاحبها ومديرها?المسؤول حميد المطبعي ورئيس التحرير موسى كريدي) وكانت تصدر من النجف الاشرف صدر العدد الاول منها في أيلول/ 1968
وبرهان الخطيب (الشارع الجديد/قصص) ويومها كانت قد صدرت للروائي الكبير غائب طعمة فرمان: (النخلة والجيران/1966)، (خمسة أصوات/1967)، (المخاض /1974)، (القربان /1975).. وهذه الروايات شغلت الوسط الثقافي والفني حيث تحولت النخلة والجيران الى مسرحية مدوية من خلال عمالقة الفن المسرحي العراقي: خليل شوقي/ زينب/ ناهد الرماح/ عبد الجبار عباس/فاضل خليل ، في حين تحولت رواية خمسة أصوات الى فيلم عنوانه..(المنعطف)
-3-
يتوقف الباحث، عند جهود سواه المبذولة في تقيم ما أطلق عليه (القصيدة الجديدة) وستكون وقفته وجيزة،،وحسب قوله..(اتجهت معظم الجهود الفنية،في ساحة الشعرالعربي الى تقييم القصيدة الجديدة، والاهتمام بها)، ثم يسلط الباحث الضوء على القصور في هذا الصدد..(..دون سبر خلفياتها ومشاكلها التاريخية المعقدة،أو رصد التحولات التي طرأت على القصيدة التقليدية..
رؤية ونسيجا.. حتى وصلت إلى صورتها المعاصرة).. الباحث هنا لا يذكر عنوانات معينة ولا أسماء باحثين في هذا المضمار..لكني كقارئ منتج..
سأتذكر تلك الدراسة الرصينة التي كانت رسالة ماجستير للشاعر والروائي والتشكيلي (يوسف الصائغ) والتي أشاد بها الناقد الدكتور علي جواد الطاهر..ونلاحظ أيضا أن الباحث..يكتفي بتوصيفها ب(القصيدة الجديدة) وشخصيا أرى،ان هذا التوصيف يعني أن القصيدة جديدة من الناحية الزمنية،أي جديدة في بيان الولادة فقط..وأشكالية ماسمي بالشعر الحر،هي ليست أشكالية عراقية، بل هي إشكالية عربية..
مرتبطة بالبنية الاجتماعية بتراتبها الثلاثي أعني راتوب الاقتصاد وراتوب السياسة وراتوب الفكر..وحسب قول يوسف الخال..(..المذاهب الأدبية عندنا لم تنشأ تلبية لحاجة إنسانية في وضع اجتماعي معين /ص37/ خالدة سعيد)..
لهذا الأمر لم يحدث قطع معرفي بين المراحل الأدبية..لذا مع نهوض فرسان الشعر الحر في العراق..بقي(الناس مشغولون بالجواهري المتألق في الأربعينيات والخمسينيات، يسد على تطلعات الجيل الجديد بقصيدته المصفاة المؤثرة آفاق الشعر ومنافذ الاهتمام بتجارب الشعراء الجدد وتطويع القصيدة لتقاليد جديدة تتناسب مع روح العصر وظروف الفترة المحتشدة بالاحداث والتطورات/ص549/علي عباس علوان)...وسبب هذا التداخل أو هذا الخليط الشعري في الحراك الثقافي،هو ذلك التناقض بين القوانين الموضوعية لحركة المجتمع العربي وبين القوانين الخاصة الدقيقة
والخفية لحركة الفن عامة والشعر خاصة – حسب ما جاء في نهاية المقدمة..