ادب وفن

بلقيس حميد حسن وهروب الموناليزا / نبيل عبد الأمير الربيعي

هنالك أهمية لذاكرة المثقف والأديب والسياسي، ولكن متى ما أفرغت هذه الذاكرة في الكتابة ليطلع عليها القراء تعتبر ذات أكثر أهمية لمعرفة التجارب التي مر بها المرء عبر أيام حياته الماضية, وقد حرصت الشاعرة بلقيس حميد حسن على كتابة فصل من سيرتها الذاتية وسيرة صديقات عرفتهن في طريق الحياة, من خلال رفاق النضال ضد أنظمة القمع والاستبداد من على ارض الوطن أبان النظام السابق, وقد حرصت الشاعرة على إعطاء أسماء أخرى لصديقاتها ومعارفها حرصا على سرية حياتهم الخاصة من الذين واكبوا النضال وساهموا في هذه المسيرة النضالية لليسار العراقي.
تضعك استعراضات الشاعرة بلقيس حسن في فصل من حياتها أمام محطات متنوعة زمانا ومكانا في مسيرة الحزب الشيوعي العراقي والحركة الوطنية وفي تاريخ العراق السياسي الحديث.صدر للشاعرة بلقيس حميد حسن رواية بعنوان (هروب الموناليزا ... بوح قيثارة) عن دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر بحوالي 275 صفحة من القياس المتوسط, وتتصدر الرواية لوحة للفنان التشكيلي فراس البصري, الرواية عبارة عن فصل من سيرة حياتها الذاتية وسيرة حياة إحدى صديقاتها الفنانات, وقد رمزت لها باسم (سومر), الرواية تحتوي على فصول بعنوان "وتري أو وترها" أي ما يخص حياة الشاعرة فهي "وتري الممنوع, وتري المرتعب, وتري الحائر, وتري الطليع" فهي ترمز لأوتار القيثارة من الآلات الموسيقية المحببة لأبناء الجنوب, أما"وترها الحزين, وترها المرتجف ,وترها المكسور, وترها المحترق , وترها المهجور, وترها الهايم, وترها المغتصب ....."فهي ترمز لمحطات حياة صديقتها سومر حيث كانت صديقتها تدفعها لكتابة قصتها مع زوجها الذي خانها ,من خلال سردها لحياتها الزوجية ورسائلها التي تقدمها للشاعرة.الرواية تبين واقع الشرقيين في المهجر وكيف تتدهور وتموت الحياة الزوجية الحقيقية مما يؤثر على العائلة وحياتها, الزوج يبحث عن عشيقة لعوب والزوجة متمسكة بزوجها وبصيانة عائلتها من التدهور والانسلاخ, والعكس كذلك من خلال التحلل العائلي أو عدم الانسجام من خلال الفوارق الاجتماعية والثقافية وتباعد وجهات النظر.
الرواية مهداة لصديقة الشاعرة الشهيدة الأنصارية (أنسام أمين منشد) التي استعارت الشاعرة اسم صديقتها الحركي (الموناليزا) حباَ لها في روايتها.
تبدأ الرواية في وقت انفراط عقد الجبهة بين حزب النظام والحزب الشيوعي العراقي أخذ جلاوزة النظام بملاحقة أعضاء الحزب الشيوعي العراقي للاعتقال والتصفية من خلال التعذيب في سجون السلطة ودوائر الأمن والمخابرات, ففكر اغلب أعضاء الحزب بالهروب من هذا الجحيم عبر الحدود ومن ضمن هؤلاء الشاعرة بلقيس حميد حسن ورفاقها.
كانت الأوكار السرية تجمعهم بظروف صعبة منها الأمنية والمادية, فاختفت الشاعرة عن عيون عسس السلطة في احد بيوت بغداد مع زوجها لغرض ترتيب طريق للهروب خارج العراق ففي ص 13 تذكر الشاعرة"كان الازدحام على الحدود عظيما, وكانت فرصة العبور إلى بلد مجاور هي آخر الحلول الممكنة هربا من موت محتم, رغم إنها أصعب الحلول بل هي مجازفة كبرى حينما تعلم مسبقا انك ممنوع من السفر بأمر الحكومة المستبدة"مع العلم إنها كانت شابة بعمر الزهور ذات الابتسامة البريئة وتحلم بيوم جميل يحلم به كل العراقيين , لكن عند رغبتها بالسفر بسيارة عبر الحدود في بداية عام 1979 وفي منتصف الليل كانت مذعورة تخاف منعها من السفر مع زوجها وهي تحمل جنينها تذكر في ص14" اخذ السائق جميع الجوازات للتفتيش.
أين موناليزا سامي الخطيب؟ صاح الضابط الذي كان يقلب أمامه ملفا كبيرا ......
قال بلا مقدمات: أنتِ ممنوعة من السفر"
تحمد الشاعرة ربها بأنها ممنوعة من السفر ولا هنالك أمر لإلقاء القبض عليها, فعادت مع زوجها إلى بغداد ووكر الحزب السري لتعرف ماذا تعمل لغرض الهروب مرة أخرى, مع العلم إن زوجها غير ممنوع من السفر لكن لا يرضى أن يتركها تعود لوحدها وهذه من صفات الشرقي الحريص على عائلته. كانت تعيش في الوكر السري بخوف وقلق وليالٍ ظلماء تقرقع بها العظام، تختلس مع رفاقها النظر من وراء الستائر المعتمة, تتذكر مقولاً لارسطو"العبد الحقيقي هو الذي لا يستطيع التصريح بآرائه" هكذا كانت الحياة في أيام النظام المستبد السابق, تذكر في فصل "وتري الممنوع" ص29 إنها مع رفيقاتها " ناضلن على جبهات عدة: السلطة والنضال الآخر الذي لا يقل عنه صعوبة, النضال ضد مفاهيم الأهل, في مجتمع لا زالت تحكمه مفاهيم بالية", كان هدف المناضلات هو التغيير, أملاَ بالخلاص من اعترافات من ألقي القبض عليهن مثل صديقتها نجية, الذي "مات طفلها ربيع أمام عينيها من التعذيب ثم وضعوا لها سم الثاليوم في الطعام بعد أن شبعوا من تعذيبها ثم أطلقوا سراحها. بعد يومين كانت نجية شهيدة نعتها صحف المعارضة لاحقا" تتذكر ذلك في ص 30 , ثم تعود الشاعرة لتتذكر صديقتها سومر ومعاناتها مع زوجها الذي تزوجها عن حب, لكن من الصعوبة على القارئ أن يفرق بين سيرة حياة الشاعرة وسيرة حياة سومر إلا بعد أن يتجاوز بعض الصفحات أو يتنبه من خلال عنوان الفصل ليعرف أي الأوتار تخص سيرتها(الشاعرة) أو سيرة صديقتها وجارتها في الغربة سومر. تتذكر الشاعرة حياة الأوربيين وأشكالهم وسحناتهم المختلفة ففي ص 45 تصف المهاجرين بان" بعضهم الهارب من ذئاب تلاحقه بصور عدة , وبعضهم البشر الذئب الباحث عن الفرائس ... ذكرني هذا البلد بتاريخ الهجرات البشرية, عندما كان الإنسان منذ بدء الخليقة هاربا, يهرب من الوحوش المفترسة, يهرب من الجفاف أو من المرض ثم يهرب من أعدائه , أخوانه البشر" قد أصبحنا نخاف البشر وأجهزة السلطة الشاعرة تذكرني بنفس الفترة التي عشتها في عراق الجحيم المستبد لتصفية معارضيه بسبب الاختلاف في الرأي والفكر ليس إلا بسبب حبهم لوطنهم ومن اجل العيش الرغيد.
في (وترها الحزين ص 53) تناقشها صديقتها سومر بما يخص الصراع الطبقي بين أبناء الشعب من خلال ما تقول "أتعرفين,لو كان الصوم يبتدئ من الظهر حتى صباح اليوم الثاني, ربما كان أكثر نفعا, كي يشعر الصائمون بجوع الفقراء, إذا لا يستطيعون النوم جياعا , أما إنهم ينشغلون بشؤون الحياة عن الجوع نهارا ويتخمّون أنفسهم في الليل ليناموا دون شعور بالجوع, فهذا لا يجدي نفعا", إنها فلسفة الحياة ليشعر الغني بجوع الفقير من خلال صوم شهر رمضان الكريم, كانت سومر في طفولتها تناقش الأطفال حول حكمة"نأكل لنعيش أم نعيش لنأكل" فهي تبين نباهة وذكاء الطفل في النقاش وإبداء الرأي, كان أجمل شيء في الطفولة هو عدم إدراكهم إنهم يكبرون, كان همهم العب بالدمى من صنع أياديهم بأبسط الأشياء.
كانت سومر تهتم بفن الموسيقى وتحب آلتها وتعشقها وتردد دائما مقولة كونفوشيوس "لو أردت أن تعرف مقدار رقي امة من الأمم فاستمع إلى موسيقاها" والكندي يقول " إن تعلّم الموسيقى كتعلّم الطب" وأبوها يؤكد إن"الموسيقى يا ابنتي تعلو فوق حكمة الحكيم وفلسفة الفيلسوف"ص90 , لذلك كانت سومر تعشق أبيها وتقول"لماذا أنت نبيل إلى هذا الحد يا أبي ؟لقد طغى مبدأ الرعاع يا أبي وصار الصدق مهمشاَ والكذب المحبوك هو القائد وهو السلطة والقوة والغنى" , إنها حكمة لشابة مثل سومر بعمر الورود يعلمها أبوها حب الموسيقى وعشق الحياة وإن الحب أثمن ما في الوجود.
ثم تعود الشاعرة لفكرة الهروب عبر الحدود التركية مع زوجها لكن يبلغها ضابط تفتيش الجوازات بأنها ممنوعة من السفر وتحاول ان تتقمص الفتاة الساذجة كي تعرف السبب وتحاوره بأنها لم تسافر إلا أول مرة فلماذا المنع, فيسافر زوجها وتنتظر العودة إلى بغداد إلى الوكر السري للحزب بعد مبيتها في بيت عائلة الضابط وانسجامها مع أطفاله, إنها معاناة اغلب أبناء العراق كسياسيين للهروب من جحيم السلطة, الرواية تبين تاريخاً نضالياً للشاعرة ورفاقها لفترة اخذ الخوف والقلق يدب في مشاعر الرفاق بسبب التصفيات الجسدية لهم أو خيانة مبادئهم والخروج سالمين من أقبية النظام الجائر.لكن طموح المرء من الهروب من هذا الجحيم لا يتوقف فيساعدها رفيقها في وكر الحزب أبو كريم الذي يعتبرها كابنته ويحاول تهريبها بهوية مزورة الى سوريا, ابان تحسن العلاقات مع الجارة سوريا والسفر بهوية الاحوال المدنية فكان اسمها وفق الهوية المزورة (حسناء أكرم صادق) كي تخلص من المنع وتعبر بأمان لتلتقي بزوجها مرة اخرى فأكملت " اجراءات السفر واتجهت نحو الطائرة , كان ذلك بتاريخ 5 آذار 1979" تاريخ راسخ في ذاكرة الشاعرة حتى الرحيل، مرحلة العذاب في دمشق والسفر إلى أوربا لكن الكاتبة هنا لم تكمل روايتها وأين وصلت بعد ذلك التاريخ فتترك ذلك لوقت آخر.الشاعرة بلقيس حميد حسن شاعرة ومناضلة ولدت في سوق الشيوخ جنوب العراق وناشطة في مجال حقوق الإنسان, عملت في هيئة تحرير صحف منذ ان كانت طالبة, اختيرت من قبل منظمة العفو الدولية مع 150 شاعرة ضمن خمس شاعرات عربيات هن: نازك الملائكة, فدوى طوقان, سعاد الصباح, وظبية خميس كاهم شاعرات في العالم , اصدرت عدة دواوين منها " اغتراب الطائر 1996,مخاض مريم1997, اجمل المخلوقات رجل 2012, كما كتبت اكثر من 300 مقال بأغلب الصحف والمجلات العربية.أتمنى ان تكون الرواية خاصة بسيرتها الذاتية، لكانت الأجمل لتسلسل الحوادث التاريخية في حياة الشاعرة مع العلم أن الرواية خالية من الأخطاء المطبعية وذات إخراج جميل للغلاف.