ادب وفن

صادق الصائغ يرسم القصيدة / قاسم العزاوي

يتمحور المنجز التشكيلي- الجمالي للفنان صادق الصائغ بعدة محاور متجاورة من :رسم/ خط/ تصميم/شعر ترتبط برابط الابداع ومقاربات جمالية ،لها عوالم التخيّل بفسحاتها الرحيبة وخازنة للطاقات التعبيرية في أخاديد الذاكرة المتراكمة والمتنامية والمتجددة في مخيال الصائغ منذ اربعة عقود واكثر، من مشاهدات وبحث وتقص لما هو جديد وقراءآت معرفية وحنين مكاني وزماني مزدحم وقادح،.. إمتدت طويلا منذ سفره للدراسة الى جيكوسلوفاكيا عام 1961 والى عودته في 1967 ومابعدها والى الان وهذا الخزين البصري والسمعي والمعرفي يمدّه بطاقات تعبيرية متواصلة وبدياناميكية باحثة عما هو جديد وحسي ،بالرسم والخط والتصميم والشعر ،واستطاع ان يخط لنفسه هويته الخاصة وبصمته المتفردة بأ ستثمار وحدة العناصر بين الرسم والخط والتصميم والشعر وما تفرزه من معان رمزية وجمالية وصياغات بتشكيلات حديثة ،منذ تجاربه الاولى في الخمسينيات من القرن المنصرم وتصميماته في جريدة(البلاد البغدادية) ومجلة (الف باء) فلقد دأب ان يخط لنفسه اسلوبيته الخاصة والمتميزة بعيدا عن المحاكاة والتقليد والاستنساخ والاقتباسات باستلهام الحرف العربي تشكيليا او تصميما، رغم ان الساحة التشكيلية العراقية كانت تزخر باسماء استلهموا الخط في منجزهم التشكيلي ، امثال: مديحة عمر وجميل حمودي وشاكر حسن ال سعيد وغيرهم..بيد ان الصائغ كان لحرفه عالمه الخاص والمميز في مجمل عمله البصري، والصائغ ينأى بعيدا عن تقليدية(الصورة المعروفة لهذا الحرف او ذاك) وانما يتحرك في منطقة المخيّال الشعري ليتغنى بحروفه المكّونة للجمل السائبة النهايات ويمحورها في مركزية اللوحة ويحيطها بالعناصر الاخرى من لون وشكل تعبيري او تجريدات بعلاقات لونية متدرجة تقترب من شفافية وغنائية الشعر وطاقاته التعبيرية والايحائية، من هناك جاء عمله البصري مكملا للنص الشعري والنص الشعري المقروء مكملا للمنجز التشكيلي بخطاب متزاوج ..وهذا ما يستقطب المتلقي الحذق بأن يبقى مشدوداً ومتأملاً ومشاركاً ايضا في اضافات يقترحها المتلقي لمنجز الصائغ،لان العمل الفني لدى الصائغ يحقق عدة قراءآت وتأويلات في آن واحد في ذهنية المتلقي مما يجعله ان يستذكر خزينه الشعري المكتسب او يترنم بقصيدة أوحته له لوحة الصائغ. فمثلا عبارة(عشقي فيك مؤبد ) في احدى لوحاته وتتوسط هذه العبارة وسط اللوحة وتسبح في فضاء قدسي ستحيل المتلقي صوب عوالم العشق الرحبة وبتأملات عدة: عشق الحبيبة وعشق الخالق عشقا صوفياً أبدياً حلولياً في ذات العاشق او عشق الاحبة والاعزاء الذين رحلوا عنا ونراهم في السماء وهكذا تؤول تأويلا مختلفاً لكل متلق وما يحضره في تلك اللحظة من تصورات تنساح دون قصدية منه وانما هذا العمل البصري من كان له دور المساعد والفارز لهذه التصورات...وبهذ الصدد يقول الفنان ضياء العزاوي (وهو يجمع بين الشعر والخط يوجد فسحات للتخيّل ،فبين نص حر مختزل وانضباطية تكوينات خطية يبقى بين صادق الصائغ قلقه الحاد كمخزون تعبيري..صورة الخط عنده تتبدل بين حرفية عالية وبين اجتهادات متنوعة تتجاوز تقليدية الصورة المعروفة لهذا الحرف او ذاك، وهو هنايقترب من نواح عدة من الرسم محتفضا بتكوينية حروفية متميزة، ميالا لان تأخذ صورة الحرف او الجملة شكلا مركزيا وحولها تبنى العناصر الاخرى (الالوان ، الاشكال الهندسية تكاملها اللوني والتكويني...ان عبور الصائغ تلك المساحة الحرة يجعله اكثر فاكثر داخل مساحة الرسم ،وهي كماتعرف مضادة لتقنية الخط بصورته التقليدية المعروفة ، حيث سطح اللوحة وتنوع بنائها وعلاقاتها اللونية والتكوينية هي اساس وجودها الفني....)
إحالات شعرية---تشكيلية
ان المتأمل لبعض القصائد الشعرية المخوطة بقلم الصائغ على دليل معرضه الاخير في قاعة اكد، وهو يتغنى بالالوان والحروف بأحالات شعرية تشكيلية ، سوف تشدّه وكأنه امام لوحة تشكيلية مقروءة بما فيها من طاقات تعبيرية شعرية وبمقاربات تشكيلية تتحول فيها الكلمة والجملة الى عمل بصري مشاهد ومقروء في ذات الوقت
أسود ُ
أسود
شقراء تتغزّلُ في شعرِ مُحمّد
اللون الاسودُ ياقوتُ
من طين الظلمة منحوتُ
والاسودُ في ثوب السهرة
فرحٌ وحنين مكبوتُ
واللون الاسود ياقوت ، بها احالات تشكيلية متصورة تشع بالياقوت وكذا ثوب السهرة يهفف في فضاء لوحة يزينها فستان السهرة الاسود ، ولا فستان في السهرة بدون مرتديه ، لذا سنتصور تلك الفاتنة وهي تتمايل بفستانها او تراقص شابا وسيما ، استطاع الصائغ ان يحيل الكلمات الى لوحات بصرية..
ونقرأ ونشاهد ايضا:
الحروفُ عطورٌ
الى جانب بعضها تنام
كلّ حرف
يتعطر بعطر الآخر
هنا، تلتحم الحروف بحميمية وتنام على رقعة اللوحة بمشهد يحيلنا الى احتضان بشري في ليلة عرس تفوح بالعطور...تتجلى هذه الاحالات الشعرية الى لوحات بصرية ، نشاهدها حينا ونقرأها ايضا ،ويبدو هذا جلياً ومؤثرا وبحساسية الفنان الشاعر وهو يتغنى باللون الاخضر :
اخضر
اخضر
الاخضر اعشاب القبر
ولاني في قاع البحر
واخير رسائلها الحرى
كانت جمرا
كانت مذ كتبت بالحبر الاخضر..يحيلنا الصائغ الى تذكر قبور الذين فارقونا بغفلة من الزمن ، وكيف ينمو العشب الاخضر حول القبور ، بلوحة تشكيلية تثير فينا الحنين والخوف من المجهول وسلطة الموت الذي نخشاه,,,,تستفزني لوحة الفنان صادق الصائغ وتثير الكثير من الاسئلة والتساؤل ، لما تحتويه من دلالات ومرموزات مخفيّة داخل النص البصري هي حصيلة تجربة فنيّة وشعرية ارتفعت الى درجات الشعرية العالية ،وبرهافة حسيّة تقصي سلطوية المعنى وتضفي ولادات جديدة تبيح اختراقية الحدود بطاقات تعبيرية ورمزية وبتأويلات متعددة في الغياب والحضور بمضاداتها المتوالدة عن جديد يقصي الاقدم لتولد من جديد ، بها من براءة الطفولة ودهشة اللحظة... والهاجس الحروفي هو ما يشغله بما يثير التأويل وتعدد الايحاءآت وهذا لايعني زعزعة الوحدات العمرانية التي تشكّل نسيج السطح التصويري ، المتمثلة بالحروف والجمل ونهاياتها المفتوحة والقابلة للاضافة والتأمل ومشاركة المتلقي بخيالاته الارحب ،المتلقي هنا يستطيع الاضافة بيد انه لايستطيع الحذف من وحدات العمل البصري ، مما يؤدي الى ارتباك واهتزاز البناء العمراني ويفقد الدهشة التي تحققها لوحة الصائغ...وتفقده من.الحلم/ الخيال المنفلت من كل رقيب /الدهشة اللحظوية/ الشد والتفاعل...التي تحققه لوحة الحداثة....لكل اغراءآت وغواية لوحة الصائغ ولشاعريتها نقول:لقد خلقت قصيدة في لوحة ولوحة تشكيلية في قصيدة ،وانت تحرك (ماوس حاسوبك) لتمنحنا هذا البهاء.....