ادب وفن

الشعر الشعبي صناعة أبجدية أم سذاجة وعفوية ؟ / لفته عبد النبي الخزرجي

في مؤلفه الصادر عن دار الشؤون الثقافية العامة « أسطورة عبد الله الفاضل... ومقالات أخرى»...وفي الجزء الأول منه... يتحدث الباحث الأستاذ عامر رشيد السامرائي. عن الأدب الشعبي بشكل عام...والشعر الشعبي خصوصا.. ويجهد نفسه في إيجاد تعريف يناسب نظرته الخاصة لهذا الأدب.. ويحاول قدر المستطاع أن يثبت ان الأدب الشعبي يجب ان يكون "مجهول المؤلف" وأن يتصف بـ "السذاجة والعفوية".
ثم ان الباحث الجليل..يعطينا صورة عن هذا الشعر فيعرفه بالقول هو «تعبير عن انفعال عاطفي او فكري يتخذ اللهجة العامية اسلوبا له في التعبير تطغى على معانيه السذاجة التي يتميز بها ابن الشعب المحروم من الثقافة ، ولكنها سذاجة لا تخلو من إرهاف الحس وبراءة وعفوية في إطلاق المشاعر والأحاسيس...وصدق يتجلى في رسم الصور للبيئة الاجتماعية والفكرية بلا تصنع وصدق في استعمال الألفاظ والأساليب واختيارها «.ويضيف السيد الباحث
وهو يحدثنا عن الأدب الشعبي انه «على سذاجته لا يخلو من الاقباس الفنية والموهبة الحساسة» ويضيف أيضا «وتختار له الألفاظ الموحية او ذات الجرس الجميل او المعنى الدقيق»1
والآن نحاول ان نناقش هذه الأطروحة التي تفضل بها الباحث الفاضل:
1- إذا كان الأدب الشعبي يتصف بالسذاجة والعفوية فمن أين يأتيه الحس المرهف؟
2- وإذا كان الأدب الشعبي يمثل انفعالا فكريا ، فكيف لايكون صناعة؟
3- وإذا كان الأدب الشعبي لا يخلو من الاقباس الفنية والموهبة الحساسة.. فكيف يوصف بالسذاجة والعفوية؟
4- وإذا كان الأدب الشعبي يجب ان تختار له الألفاظ الموحية او ذات الجرس الجميل او المعنى الدقيق.. فكيف نحكم عليه بالسذاجة والعفوية وأنه ليس صناعة كما يقول الباحث الكريم؟
إننا نعتقد ان الشعر الشعبي صناعة فنية وقدرة لغوية وقريحة تستوعب معاناة الإنسان وتتفاعل معه وتستطيع ان تعبر عن آلامه ومعاناته وتباريح حياته ، وهذا لايحصل إذا لم يكن هناك حراك عقلي ونشاط فكري خارج إطار العفوية والسذاجة والفطرة ، رغم علمنا ان الفطرة هي من أوليات التمكن على صناعة الشعر وصياغة الحرف والنفخ في الكلمات لإعطائها القدرة على اللحاق بموكب التطور السائر دوما الى أمام. كما ان الفطرة تحتاج هي الأخرى لأدوات صناعة الشعر.. وهي مواكبة الحياة بمسيرتها المدفوعة الى مديات أوسع في المعرفة والعلم والتحول بإتجاه?التقدم وعدم الركون للواقع الرديء.
ونحن نشعر بالغرابة لان الباحث يعطينا تعاريف للادب الشعبي ويعود ليؤكد لنا انه لا يعترف بهذا الادب ولا يقبل ان نطلق عليه صفة الادب الشعبي ، ولذلك نراه يتساءل «هل يدخل النتاج المذكور تحت تسمية الادب الشعبي؟ « وهو يقصد بالنتاج.. كل ما انتجته قرائح الشعراء الاوائل البسطاء – حاج زاير وحسين القسام والآخرين و امثال المسرحيات والأغاني الشعبية وما شابه ذلك – ولذلك فهو يجيب وبقوة شديدة وإصرار عجيب « إن الجواب على ذلك هو النفي القاطع «.
إن الأدب بشكل عام هو قيمة اجتماعية إنسانية.. وهو صناعة إنسانية متقدمة.. ومع كونه صحب الإنسان منذ نشأته الأولى... وهو يدب فوق كوكبنا.. إلا أنه كائن حي يتأثر ويتطور وتجري عليه التغييرات تبعا لتطور الإنسان وقدراته المتعددة والمتقدمة والمتسارعة.
ومن العوامل الأساسية التي تساهم في صناعة الأدب وتمنحه القدرة على الإبداع والتفاعل مع الحياة:
1- الملكة الطبيعية: وهي من أهم عوامل الإبداع والخلق وصناعة الحرف والمفردة والأدب ومن العوامل الرئيسية في قدرة الإنسان على امتلاك ناصية هذه الصناعة الإنسانية المتقدمة.. وهي التي توجهه وتمنحه الثروة الفنية والإمكانية التلقائية للمساهمة في إنتاج هذا الفن الرفيع من فنون الحياة الإنسانية.
2- العقل المبدع: وهذا من أساسيات العمل الإبداعي والصناعة الأدبية. والعقل المفكر المبدع عامل جوهري في هذا الإطار.. وله دور مهم جدا في عملية الخلق والإبتكار للارتقاء بهذا الفن السامي..
3- توفر عنصر ألإنفعال والمشاعر والعاطفة: لأن الإنسان عندما يمتلك ألإحساس المتقدم والمشاعر الجياشة والعواطف المفعمة بحب الحياة بما يجعل تلك الاحاسيس والمشاعر والعواطف...تتحرك بإيقونات متقاربة السبك والحبكة والجمال... بما يمنح الأدب صفة الإبداع والتألق والرفعة والسمو نحو آفاق المعرفة والحضور الأدبي متعدد الجوانب.
4- الإناقة والذوق ومتعة الجمال: وهذه من العناصر الأساسية في صناعة الادب.. لأن طبيعة الأدب هو الذوق والمتعة والإحساس العالي بالجمال (فالذوق هو النظرة التي تدرك سر الفن ، والمقص الذي يشذب...والريشة التي تزاوج بين الأصباغ... والأصبع التي ترافق الأصابع على الاوتار فلا تنطقها إلا بالرائع)
وعن اهمية الادب الشعبي عموما والشعر الشعبي بالخصوص وكونه عملا إبداعيا يجدر بنا ان نقرأ ما كتبه المؤرخ المشهور عبد الرزاق الحسني في كتابه «الاغاني الشعبية»:
((إن الشعر العامي وهو ما نظم على غير العربية الفصحى كان يسمى قديما بشعر – الحسكة – وقد يسميه الكثيرون بهذا الاسم اليوم وذلك نسبة الى ناحية الرميثة وعشائرها من بني زريج والبوحسان والظوالم وغيرهم. وإنما سميت بذلك لكثرة ما كان ينبت في اراضيها من الحسك... فأهلها كانوا يجيدون النظم في هذه اللغة بجميع انواعه.. خصوصا الحماسة والمديح والتأبين ، ولم يقتصر الرجال فيهم على نظمه فقط بل نبغت فيهم عدة نساء أجدن من النظم فيه ك – فدعة ودراغة وشيخه وكثير من امثالهن ولا يزال نظمهن محفوظا مستحسنا الى اليوم)).
ونقرا للشاعر الكبير الاستاذ عريان السيد خلف ، وفي المقدمة التي كتبها في « اوليات الحداثة – في الشعر الشعبي العراقي – دراسة تحليلية تراثية « للباحث السيد غالي الخزعلي يقول..وهو يعطينا نظرته للشعر الشعبي حيث يؤكد انه (نتيجة الإستلاب وإنسحاق الذات تحت وطأة الصراعات الطبقية والمنازعات والمعارك والغزو إنبثق الشعر الشعبي كضرورة إجتماعية لظرف إقتصادي وتأريخي وإجتماعي معين).
وكما اطلعنا فإن الشعر الشعبي « هو ظاهرة اجتماعية وفنية « كما يقول السيد غالي الخزعلي في المصدر السابق.
ولما كان الأستاذ السامرائي قد ذكر إبتداء ان الشعر هو العفوية والسذاجة..لكن العفوية والسذاجة ليست فنا.. وفي هذا الإطار يذكر الدكتور علي جواد الطاهر ((ان الشعر فطرة....وما كان فطريا كان اصيلا في الإنسان.. وما كان أصيلا اكتسب صفة الدوام)). والخلاصة التي لابد ان نخرج بها هي ان الشعر الشعبي.. نشاط إنساني تكون الفطرة سلاحه والقريحة دافعه والمجتمع بشكل عام وما يعيشه الإنسان من تنكر لحقوق أخيه الإنسان وتهميش لدوره واستلاب قدراته وسحق موهبته.. هي المهماز الذي يدفعه للذب عن حقه في ان يعيش كما الآخرين ولا يتعرض لما ?نتقص من آدميته. وهو بسلاح الشعر يمكنه ان يتولى الدفاع عن نفسه... وإظهار عيوب جلاديه والمتسلطين عليه والقابضين على رقبته.
وعلى سبيل المثال.. نقرأ هذا الدارمي:
حط يمنته بيمناي... وبيسرته يبوگ
غرتني كل الحيف... حبات الحلوگ
وهذا في التقييم العلمي.. يعتبر في منتهى الحس الطبقي... لأن الإنسان وعندما يعي مسئوليته لابد وان ترافقه القدرة على إكتشاف هذا النوع من الإبتزاز...
او كما يقول هذا المهوال... الذي لم تزحزحه المصاعب ولم ينحن بوجه الطغاة رغم انه كان يئن تحت هاجس العوز والفقر والحاجة:
إمشاجف والزمان مرادف الطگات
وأريض إهموم وكتي بصفنة الهوسات
تمطر غيض روحي مرافجة اللچمات
وانشدنك يعمري على الزمان الفات
«إمشاجف دوم إمشاجف لاچن يالحر ماذليت»
ونقرأ ايضا لهذا المهوال.. وهو فلاح من الجنوب يحكي معاناته مع سياط الجلادين واعداءه الطبقيين.. إضافة لتعرضه للجوع والحرمان والقهر:
عله الله والعلى الله بضاعة المسكين
بشواربنه ولحـانه لأمرك مطيعين
تطا لبني على حگي وآنه اطلبك دين
« لازم يصدف يوم.. الدنيا تحول الراكب»
ويقال ان التاريخ يعيد نفسه او كما يقول المثل «ما اشبه الليلة بالبارحة«
في بدايات القرن الماضي، كان الشعراء الشعبيون يمارسون دورهم في نقد الحالات والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وقد برز العديد من أولئك الشعراء الذين أسهموا في ان يكون الشاعر لسان حال شعبه.. وان يسهم في إعطاء صورة صادقة تعكس مدى تفاعل الشاعر مع معطيات واقعه وما تفرزه البيئة الاجتماعية والسياسية ومحاولة كشف الظواهر المتدنية وغير المرغوب فيها والتي تعتبر تراجعا ونكوصا وتخلفا.
وهكذا نقرأ للشاعر الملا عبود الكرخي:
نصبر على الحصرم غصب... لازم وأن ناكل عنب
ويقول ايضا:
ميصـير دوم ... هم ربك يصحيها
ومن روائع ما ترك لنا الشاعر الشعبي المرحوم « عباس اللامي « قصيدة شعبية أوردها الباحث الأستاذ علي ألخاقاني في كتابه (فنون الأدب الشعبي – الحلقة الثانية). وحملت عنوان:
«شو ماله حس هل مهيوب؟ « وهي من القصائد المعبرة وذات النكهة الشعبية المفعمة بالحس السياسي المتنور. وكان ذلك في العام 1935 م: 4
والقصيدة تتحدث عن معاناة المواطنين مع مرشحيهم والذين أوصلوهم إلى البرلمان في تلك الفترة.. وكيف أن أولئك قد خذلوا ناخبيهم وأداروا لهم ظهورهم حينما تربعوا على الكراسي... ورغم الفارق الزمني الذي يزيد على سبعين عاما... لكن الأمور ما زالت كما صورها لنا الشاعر الشعبي في العام 1935م.
شو حسه ما يطلع سكت... وتناوش الكرسي ونبـت
والناس ماتت وإنسبت... وتزينت بالمگـلوب
شو ماله حس هل المهيوب؟
يشرب ويطرب بالفرح... ومكيف وصدره إنشرح
ما يحچي بس گاعد شبح... سكاتي مثل المصلوب
شو ماله حس هل المهيوب؟
سكاتي بس يرفـع رفع... بيده مثل باجي الربع
شاف الفلس واصبح ضبع... كارص وبس يملي جيوب
شو ماله حس هل المهيوب؟
إنترس جيبه وما شبع... ومن الشعب حبله إنگطع
باع المبادى بالطمع... ويدور وبعده يلوب
شو ماله حس هل المهيوب؟
يلـوب ويبوس اللحه... ولابسله ستره مشلحه
يركض برجله وما إستحه... يتوسل ويطرق بوب
شو ماله حس هل المهيوب؟
يتوسل وينطي سـند... عل مبدأ وعل معتقد
ما يصفن وعايش رغد... مثل الصدگ هم مندوب
شو ماله حس هل المهيوب؟
• المصادر:
1- أسطورة عبد الله الفاضل ومقالات اخرى- عامر رشيد السامرائي /ج1
2- اوليات الحداثة في الشعر الشعبي العراقي – غالي الخزعلي
3- العبارة وردت في المصدر السابق
4- فنون الادب الشعبي – الحلقة الثانية – علي الخاقاني
5- الاهازيج الشعبية في المثنى – زهير هادي الرميثي – منشورات مجلة الشرارة
6- حنا فاخوري – الجامع في تاريخ الادب العربي القديم
7- الاهازيج الشعبية – علي تايه