ادب وفن

مظاهر القهر الممنوع : قراءة في مجموعة «السطوع» لمحمود يعقوب / خليل مزهر الغالبي

أرخت حكايات مجموعة "السطوع" القصصية للأديب محمود يعقوب- بعضاً من مظاهر القهر المنوع الذي استهتر في ممارسته النظام العراقي المقبور على الضمير والحلم والجسد العراقي، ومن كثير تنوعه من قتل وتعذيب وتجويع وجرح كرامات الإنسان، وفق فنية السرد المتمحورعلى الاشتغالات اللغوية المعمقة في استحضارها لثيمة المضمون، وبمعتمد التصريف اللغوي ومقارباتها الأخرى في مستعمل ملفوظها المعمق لخطابها الأدبي، ومن خلال توظيف مستعمل دالة اللفظ المتداول ذات الوقع الإجتماعي المنطوق ومنه اللهجة الفصيحة للفلكلور الشعبي، لشد القارئ والأخذ به للإنغماس في اعماق المسرودات التاريخية والوقائعية وفق معايير واشتراطات فنية منحت الحضور الدرامي للسرد القصصي.
ومن القصة الأول التي تحمل اسم المجموعة والمسماة"السطوع"التي أوغلت في تفصيل شدة القسوة والألم الحاد الذي مارسه منتسبو أجهزة شرطة الأمن على معتقليهم، حد رغبة المتهم البريء باعترافه الكاذب، لينال سرعة إعدامه وتخليصه من الحصص اليومية لهذا التعذيب اليومي،وكما حصل في الاعتراف المخلص للمتهم -كريم الكردي- الذي لا تنطبق عليه التهمة ولم يمارس أي عمل يجرم به،ولم يكن منتمياً لحزب أو جهة سياسية معارضة ومحظورة من العمل.
ومن مكشوف القصة،ذكرها لعملية التعذيب المميت المسماة -الولادة- وهي تجسد الحالة الأكثر قسوة وإيلاماً في تعذيب المعتقلين وموتهم بعد سيناريو تنزيف الدم من الضحية،ومن عملية ادخال القناني الزجاجية المكسورة الفتحة والمعدة لذلك في شرج السجين ،و نزفه الدموي حتى لفظ أنفاسه الاخيرة، وهو أمام أنظار الآخرين،وكما في عملية التعذيب المميت على المعتقل- ياس-،هذا المعتقل المثير للإنتباه وهو يدفن نفسه في فراشه منعزلاً ليسطع النور الإلهي المطهر له،بعد أن يختفي بعيدا عن العالم وهو يحاكي الأرواح المستحضرة لديه.ليصبح - ياس- الأكثر حظوة عند المعتقلين و الأكثر اهتماماً ومراقبة من رجال الأمن، و كما وصفته القصة"كان (ياس) حملاً من حملان الله الوديعة، أُلقى سنا النور القدسي في قلبه، وسُكب فوق ملامحه اللطف الإلهي البهي، وتشابك رهطٌ من الفقراء معه" لذا راح رجال الأمن وفي مقدمهم" نزار الضابط العابس" المفتخر بتعذيب المعتقلين،في عمل"الولادة"له وبمرأى باقي المعتقلين لزرع الهلع عندهم والاعتراف بما لديهم من أسرار ضدية للسلطة.
ومن اهتمامات المجموعة تناولها لمأساة الحروب التي عملتها السلطة،وكما في سردية قصة - الليلة الأخيرة في مقبرة الحسن البصري- المجسدة لرفض الجندي- حسن- لمشهد قتل الأصدقاء والمعارف له في الحرب الشرسة التي أكلت الأخضر واليابس،ومنه قرر-حسن- الهروب من الجيش والإلتجاء للعيش بعيداً عن بيته في مقبرة حسن البصري،لخطورة وجود الهارب من الجيش من قبل سلطة النظام،و لجوئه لمهنة دفن الموتى،هذا العمل الذي عرضه لحالات نفسية دفعت به للرجوع الى بيت أهله الذين رفضوا هم الآخرون وجوده الخطير بينهم، وهذا ما حصل حيث تم قتله من قبل رجال الشرطة التي طاردته وهو يحاول الهروب.
ومن سردية قصة ثلاثة عشر مسمار صلب -المؤثرة والمحللة في تسجيلها لحالة السقوط الأخلاقي لحالة العسكر وهم يقتحمون المدن ويعيثون بها فساداً من نهب للبيوت التي هرب معظم أهلها،هذا الفساد اللا أخلاقي المتجسد في إقدام جمع من الجنود لمضاجعة العجوز التي تحتضر، ومنها اخذ أفراد هذا المنتج السلوكي المجسد لمديات التفكك والسلوكيات الشاذة التي خلقتها حالة تكاثر العسكرة في الحروب غير المبررة، ومن رجال لم يرتبطوا بالقيم الإنسانية، ومنها الحالة المتهرئة لشخصية النائب ضابط- خيري- والجندي السائق- سلمان-وبقية العسكر. وتعد قصة- وراء الجفون وأكثر- رؤية تحليلية لسايكولوجيا الوضع الذي عاشه احد رجال امن نظام السلطة السابقة والمسمى-حازم الطويل- بعد التغيير العراقي الكبير ،والمسمى أيضا- حازم السديناوي- والمعروف عنه بحبه لكتابة التقارير، كما يصفه القاص- محمود يعقوب- بإبداعه ودقة نقل المعلومات،التي لا يترك صغيرة منها و لا بسيطة،هذه التقارير التي تأخذ الآخرين إلى الاستجواب والسجن،ولتداعيات ذلك،أسرعت هذه الفئة للاختفاء خشية ردود الفعل من الآخرين، لذا راحوا في الانتقال إلى مدينة أخرى كما هو حازم الطويل- وانتقاله إلى مدينة الشطرة وعمله في سوق بيع الدجاج،وهو المكان المعروف بخاصيته المزدحمة بالضوضاء المزدحمة مع أقفاص وريش الدجاج و برازها وملحقات متطلبات هذا العمل وخاصيته والتي تلبي اختباء -حازم- في اختلاطه غير الكاشف والمعرف له، حازم وهو يحس بأهة تصدع وجوده الذي كان،وهو يحرص على الظهور في مظهر وقار لشخصية قيمة وجاه مؤثر ومهم في حسه الحياتي له،ومن ادخله وضعه النفسي وتفكيره هذا للإصابة بمرض توفي فيه.
وحرصت قصة- الشجرة الرابعة في تناول موضوعة الأسرى،وهي حالة صنعتها الحروب اللعينة أيضا، وقد تزامن رجوعهم ومنهم - محمود- من الأسر مع أيام الحصار، ليذهب هذا الأسير وبما يرى صديقه القديم من نصح لبيع أشياء بيته من أثاث واحدة بعد الأخرى حد بيعه لبناء غرفتين له من الطابوق والأبواب والشبابيك،لتحكي القصة في هذا التوظيف المفعل لموضوعة البؤس والفقر في حياة الشعب،وقد سرده القاص بواقعية جديدة متقدمة اعتمدت على الوقائع الأكثر معاشة وفجيعة لهم ومنها هذا النوع من البيع الرخيص والسريع لتوفير أسباب المعيشة لعائلة هذا الأسير من حروب السلطة التي دفعته حروبها لبيع بيت عائلته،وقد أشاعت حكاية القصة ذلك المناخ المفعم بالحنان المتشبع بالحسرة والحفيف كحالة غير صامته في الرفض.
واتسمت اشتغالات السرد في قصص المجموعة على مقاربات لغوية لروحية المضمون،حاول القاص من خلالها صنع المناخ المناسب لوقائع الحدث ليتنفس منها القارئ الحسية الزمكانية لها،من خلال استحضار ماضيها اللا مرئي وتجسيده أمام القارئ، كوقائع درامية مؤثرة وعاملة في الذات المتلقية،وراح القاص- محمود يعقوب-في معتمد التصريف اللغوي لتعميق منطوقه المحاكي وذكره لملفوظات تعبيرية معروفة وبما يعكس مضمون المنطوق المؤثر في تجسيده للحالة والواقعة المحكية ،وقد وفق الكاتب في مستعمله اللغوي المجسد في مقاربات هذا النوع من اشتغالات السرد، وبما يعمل على إضفاء ذلك التناسب الكبير مع ثيمته التي حرص القاص على نقلها وتقديمها للمتلقي.
وأشاعت سردية محكيات القصص الأجواء الدرامية المشبوبة بالإدهاش المتسائل للوعي القرائي المحلل،ولما فيها من خطاب حرص الكاتب في انتقاء السرد الموقن لإيصاليته الفكرية ،ومن غورية الاحداث والوقائع الموظفة والوصف المعمق للإيصالية الأدبية ،وكان لاهتمام القاص واعتماده في اقتنائه للمفردة الحياتية المحاذية لمستعملها التاريخي للسرد،لرسم واستحضار ظرفية الوقع والحدث لعمل الحضور المنسجم والنابه للمتلقي والفاعل فيه،والذي حرص القاص على تفعليه القرائي والإنصات لفكرة خطابه المحمول في سردية قصص المجموعة.