ادب وفن

مقاربات قرائية في «أطراس حارس الزمن» / ناهض الخياط

بعد مجموعتيه الشعريتين: (الطريق إلى غرناطة) و(النزول إلى حضرة الماء)، أصدر الشاعر كاظم اللايذ مجموعته الثالثة (أطراس حارس الزمن) عن اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين في البصرة.
تشتمل المجموعة على عشرين قصيدة ، تنهض أغلبيتها على إيقاعها الداخلي، وبقيتها على وزن المتقارب والمتدارك، وفي كلتا الحالتين، يعبر إيقاع القصائد عن حراك مساراتها بتجارب صادقة وخبرة طويلة في صياغة نص متوفرعلى اكتمال عناصره، بمضمونه الثري، وشكله الأنيق المنضبط . وقد استطاع الفنان «هاشم تايه» الأحاطة بمحتوياتها، فجسدها في لوحة فنية متقنة، تكثف بجمالية ٍ سريالية ٍ مرموزات عنوانها بالمفاتيح الثلاثة , وهي محور لوحته ، وقد استوحاها من قصيدة الشاعر»حارس الزمن»:
عداد الليالي البيض
عداد الليالي السود
حمال المفاتيح لأسرار النجوم.
في هذه المجموعة، يأخذنا الشاعرفي رحلاته مرتديا قناع السائح ( ابن بطوطة ) ، ليعرّفنا على الأماكن التي أحبها، والأشخاص الذين أعجبوه ، عبر الزمن الذي استغرقته سياحته:
على الساحل الأطلسي
عند زاوية يثوي بها ابن بطوطة
مد لي هذا المسافر القديم يده
ودس في جيبه كتابه
«قصيدته: العجوز بن بطوطة السائح».
ومن أولى القصائد ( تاج محل من كلمات ) ننطلق مع الشاعر من رؤية الهندوسي العجوز ( حامل سلال أساطير الشرق ) وأن يبني ( تاج محل ) من كلمات الشعر،( ذلك الصرح الذي شيده ( شاه جيهان ) لحبيبته ( ممتاز ) . ويلتقط ( اللايذ )من متحف الزمن صورة المسلمين المبشرين بدين ( محمد ) ص ( عندما نبحتهم على حين غرة \ بوارج الأنكليزفي البحر ) . بعدها قصيدته ( 3 بورتريهات ) يصف لنا المجاهد ( عبد القادر الجزائري ) : (على فرسه في الساحة المرمرية ) ثم ( المهاتما غاندي ) : ( لم يكن بشرا آدميا ) \ لقد كان روحا ) .
وفي البورتريه الثالث ( علي بن أبي طالب ) ع : ( إلى قبة في الأعالي \ يطير إليها الحمام ) . وفي قصيدته الثالثة ( مدن في جواز سفر ) نرى المدن كما شاهدها : ( لطنجة بوابة | باتجاه الرياح \ تروح إلى البحر \ يغلقها العسس الملكيون عند المغيب . و ( كربلاء) : ( هنا كربلاء \ هنا إذ يمر الفرات \ يبدّل ألحانه \ واليمام المهاجر \ حين يحط هنا \ يستطيب البكاء ) ، ثم ( المحمرة ) : ( وكان النخيل يصاحبني \ أينما سرت ) وبعدها نرى ( تاج محل ) : (لتاجك ذلك الذي صاغه الله من لؤلؤ\
ثم راح يقلّب عينيه في صنعه) . وأخيرا بلدة (حسين وادي) الجزائرية : ( وليس بعيدا عن البحر \ وقفتُ أراقب رتل الغيوم ) .
وبعد أن ألقى الشاعر عصا ترحاله عجوزا متعبا لا يملك من دنياه غير أطراسه ، التي أودعها أفكاره ورؤاه ، وهي زوادته في رحلاته التي جعلته جسدا هزيلا ، ووجها حفرته الغضون:
من هذا الشبح الماثل في المرآة
يحدق في عيني طويلا .. ويلاحقني ولمن هذا الوجه اليابس والذقن الأعجف والعينان الغائرتان \ قصيدته : ( شبح )
وتأتي قصائده الأخرى لتوضح لنا أن الشاعر ( كاظم اللايذ ) اسم على مسمى، والمسمى هنا هو الشاعر الذي كظم حزنه وألمه بصبر الحكيم المتعايش مع واقعه لائذا بثقافته وموهبته ، ليتيح لنفسه التمتع بحياته ، متفاعلا مع زمنه في يقظته، وفي حلمه، ولحظات تأمله الشامل العميق، مستظهرا ذلك في عزلته ، لتتولى أطراسه حفظها إمتاعا وتذكرة ، خارج دائرة المباشرة الهاتفة ، بما اجترحه من أسلوب شعري مركب من السرد القصصي ، والسيناريو بحركة مشهده ولقطته ، وغنائيته الهادئة ، لتسير قصيدته خارج وتيرة السياق على سكة واحدة . فقصائده ، ومنها ( العجوز بن بطوطة )مثلا ، يتحرك سياقها بانتقالات خمس ، إذ تبدأ بالسرد هكذا:
في بيت منعزل
عند حافات العالم
تطل نوافذه على الظلمات
ويرقد على كائنات نثيث الغبار
أستلقي بذقن غير حليق..
ثم ينتقل من المشهد الحسي الخارجي إلى ما ترسمه تداعياته النفسية بمشاهدها المنظورة والمتخيلة:
هنا
يتاح لي أن أراقب أيامي كيف تهوي
من روزنامة الحائط وأراقب يدي كيف ترتجف..
وفي انتقالته الثالثة، يترك المشهد الكئيب لذكرياته الجميلة عن شبابه القوي بجسده المعافى الذي طاف به السهول والبحور والجبال:
جسدي الذي ظل يخب بي
ضاربا مغاليق الأرض
حتى أوصلني إلى بحر الظلمات
وفي الرابعة ، يتحدث لنا تفصيلا عما سمعه في البلدان النائية ، وما انعكس منها عليه:
من يومها
صارت صلاتي ( قصرا )
وصار صيامي مؤجلا إلى عدة من أيام أخر
وفي انتقالته الخامسة ، يعود إلى المشهد الأول \ إلى المنزل الذي ضمه أخيرا عجوزا ذاويا
بآلام روحه وجسده:
في المنزل
المطل على الظلمات
عند حافات العالم ...
أتحسس لحمي ...
أحقا ً
هذا الجسد الذاوي
جسدي ؟!.
ومع اعتمادنا قصيدته ( العجوز بن بطوطة ) لتحديد سمات شعريته وخصائصها التي تمثلت، أيضا، في قصائده كلها، تظل قراءتنا المبتسرة لها قاصرة عن الأستيعاب العميق لدلالة أطراسه لغة ً، وما تحتويه، وعن العلاقة الكامنة بين قصائده ، وما يشع من إيماءاتها الفكرية والنفسية عن زمن ، تبنى الشاعرصياغة مدوناته وحراسته . فالأطراس لغة ً، ومفردها ( الطرس )هو الكتاب الذي تعاد كتابته بعد محوها، حتى تستقر على قرار. إذن ! فالشاعر كان يمحو ما يراه خطأ ، أو مضللا لفهمنا عن حركة الزمن في مراحله المتعاقبة ، والأسباب الحقيقية لحركة مسيرته ، ليعيد كتابته وفق ما يراه .
لقد كان الرفض والألغاء والمحو، وتجليات أحلامه ، هي المهيمنات في قصائده ، التي تبنى ( اللايذ ) بها حماية الزمن ، وتصحيح مسيرته ، عبر الصراعات الحاسمة بكل أشكالها ، وانحيازه للرؤى المناضلة ، المبشرة بالخير والسلام . وعلى الرغم مما يتعرض له الشعر عموما من التقريرية الجافة، والهتافية العالية ، حين تخوض ميادين الصراع الأجتماسياسي ، والفلسفي . إلاّ أن ( اللايذ ) بموهبته المبدعة ، وخبرته الطويلة في حقول الأبداع الأدبي واعتماده الأسلوب الفني الملائم لمثل هذه المنطلَقات ، إضافة إلى تجليات صدقه بموسيقى غنائيته التي رافقت مشاهد أطراسه منذ استهلالها حتى الختام ، إستطاع أن يكون بها قامة شعرية مميزة بين القامات المبدعة في مديات شعرنا الحديث.