ادب وفن

غبار الترجمة وأوهامها / عبد الكريم كاصد

لعلّ المحنة التي يتحدّث عنها المترجمون أو الباحثون في الترجمة ونقادها، دومًا، لا تكمن في خيانة الترجمة، ولا في اختلافها، أو اشتراطاتها، مثلما هي لا تكمن في ما هو نقيض ذلك أيضاً.. في أمانتها، وهويتها، وحريّتها، وإنما هي تكمن في اجتماع الاثنين معًا.. في اتصالهما.. في تركيبهما أو طباقهما، فلا خيانة بلا أمانة، ولا اختلاف بلا هوية، ولا حرية بلا قيد.
وفي هذه المفارقة ما يجعل الحدود أشدّ تداخلاً والمسافة أقرب متناولاً، لتصبح الترجمة لا مخاطرة حسب بل أماناً أيضًا، لأن في المخاطرة وحدها استحالة وفي الأمان وحده استحالة وشيوعًا لا جدّة فيه. آنذاك تغدو المحنة ذاتها لا تفي بالتعبير عن هذا الجدل مادامت الترجمة كشفاً وإمتاعاً.
وبين ثبات المثال وعرضية التجربة يتعانق المستحيل والممكن في الترجمة.
في الترجمة كما في الحياة تلتقي النقائض لتدخل في جدل مستمر وفي تركيب سرعان ما ينحلّ من جديد ليعاود حياته ثانية في تركيب آخر.. في ترجمة اخرى..
فمن أين يأتي إذن غبار الترجمة؟
أمن تعطل هذا الجدل؟ حين تصبح الترجمة خيانة واضحة أو أمانة بليدة، اختلافًا واضحًا أو هوية باهتة، حرية غير مقيدة بفهم، وقيدًا لا يعتمد أيّ تأويل.
بدون هذا الجدل لن تستحيل الترجمة من لغة إلى أخرى؛ بل تستحيل حتى داخل اللغة الواحدة، كما أشار إلى ذلك مفكرون عديدون: هيدغر، بلانشو، رولان بارت، رومان ياكبسون، حين يقترب فهمنا للنصوص القديمة وتفسيرها من الترجمة بمفهومها العام.
ولو أخذنا الخيانة مثلاً، فأية خيانة نعني؟
لو خيرت بين ترجمتين إحداهما أقرب إلى الحرفية، والأخرى بعيدة عن الأمانة ولكنّها الأقرب إلى روح النصّ، فأيهما أفضّل؟ الترجمة الأولى أم الثانية؟
هل الحرفية هي الأمانة؟ وأين نذهب بالفهم والتأويل؟ وإذا كان الفهم وليد التأويل، أليس اللافهم وليد التأويل أيضًا؟
لماذا نفضّل خيانة ونرفض خيانة؟
ثمة نصوص لا نفهم منها خيانة ولا أمانة لأنها بلا معنى ولأنها غير قابلة حتى للتأويل في سياق النص المترجم، ومن هنا يأتي جهدنا هذا لتبيان "لا معنى" الترجمة وخيانتها لا للأصل بل لنفسها في لا منطقها وأوهامها وافتراضاتها، وبالتالي فقدانها لهويتها فهي لا تدلّ إلاّ على هوية المترجم.. هويته التي هي: اللافهم.
وهي بدلاً من أن تنفتح على القارئ والنص تنغلق على نفسها فلا تشير إلى خارجها أبداً، حينئذٍ تفقد أخص ما فيها: لغتها، وإن كان ثمة لغة فهي حجاب .. حجاب للنصين: النص المصدر والنص الهدف.
حين يكون "البواب" في القصيدة المترجَمة "مندوبًا مفوّضًا" أنسمي الترجمة عندئذٍ خيانة أم أننا سنسيء إلى مفهوم الخيانة باعتبارها تأويلاً، وتحويلاً، وغرابة، وانتهاكاً للمقدّس، واندفاعاً للغة في محيط جديد آخر يكسبها عمقًا واتساعاً في آن واحد؟.
إننا لسنا هنا إزاء ترجمة؛ بل اقترافٍ لخطأٍ لا علاقة له بأصل ولا بنسخ؛ لأنه بلا نسق ولا تفاعل مع أجزاء النص الأخرى. إنه أشبه بالعلامة الطارئة، المعطلة لا للنص الأصليّ، وإنما للنص في اللغة المنقول إليها .. " لغة الهدف" كما يطلق عليها. أي أنه نتوء واضح حتى لو لم نرجع إلى النص الأصل.
لعلّ هذا الخطأ اللامعنى هو الذي قاد البعض إلى القول "إن الترجمة فهم" لما للفهم من ارتباط بالتأويل كما يؤكد ذلك بول ريكور وجورج ستاينر في كتابيهما: "عن الترجمة" و"ما بعد بابل". وفي اختفاء هذا الارتباط أو هذه العلاقة يختفي النص سواء أكان هدفاً أم أصلاً. وقد يضيف البعض الآخر "الحدس" إلى الفهم وهذا ما تتطلبه لا ترجمة الشعر وحدها؛ بل الترجمة عمومًا - مثلما أشار إلى ذلك أمبرتو إيكو في الفصل الأول من كتابه "?Mouse or Rat ".
إنّ ترجمة كلمة بواب في اللغة الإنجليزية بكلمة"مندوب مفوض"، أو ترجمة جملة "إنك تستهزئ بي" في اللغة الفرنسية بجملة كهذه: "إنك لتدفع لمخي ثمناً غالياً" أو غيرهما من العبارات والألفاظ التي حفل بها مقالنا الأول عن ترجمة شعر إليوت لا يمكن اعتبارهما ترجمة بل وهماً أو افتراضاً مبعثه اللافهم الذي هو نقيض الترجمة.
وقد يتسع هذا الوهم ليشمل لا النص وحده بل الترجمة وما يحيط بها من معارف أخرى، عندئذٍ يصبح الحوار، لا المعنى وحده، مستحيلاً.
لقد شاع أن ترجمات خليل مطران ترجمات رديئة، لا تستدعي التوقف عندها أو الاستفادة منها. وقد أضيف إلى هذا المأخذ مأخذ آخر أضرّ بها ألا وهو أن ترجمة مطران ليست من اللغة الأصل بل من لغة أخرى ثالثة هي الفرنسية وكأن الترجمة من الأصل؛ هي بالضرورة أدقّ من الترجمة من لغة ثالثة حتى ولو كانت الترجمة في اللغة الثالثة هي من أدقّ الترجمات، وفي هذا الرأي تعميم يلغي خصوصية المترجم وقدرته ومهارته، فليس كل من ترجم عن الأصل بقادر على استيعاب النص لترجمته ترجمة صحيحة. مثلما قد يكون المترجم في اللغة الثالثة مترجماً لا يضارع في مهارته ومعرفته بالنص الأصل. وبعد اطلاعي على الأخطاء العديدة في الترجمات المختلفة التي صدرت لـ "مكبث"، على سبيل المثال، رجعت إلى ترجمة مطران فوجدتها أدقّ وأبلغ من كل الترجمات التي سبقتها وحين بحثت عن السبب بعيداً عن قدرات مطران الخاصة باعتباره شاعراً كبيراً وضليعاً باللغة الفرنسية وجدت أن مهارته ودقته ترجعان بالدرجة الأولى إلى مهارة ودقة المترجم الفرنسي العظيم فرانسوا فيكتور هيجو الذي استطاع خليل مطران لا أن يتمثل روح شكسبير عبر ترجمته بل أن يتمثل روحه هو بالذات، ففي الوقت الذي كانت فيه جمل شكسبير تتجلى بأحسن مظاهرها في الفرنسية حتى تكاد تكون ساطعة في تأثيرها ووضوحها كان مترجمونا يُتأتئون وهم يترجمون عن اللغة الأصل؛ فالأمهات يصبحن "النساء القبيحات العجائز" والأبواب المشرعة تصبح "لقد زالت عنه الروادع القانونية"..إلخ، ولعل الغرابة لا تكمن هنا في هذه المفارقة في الترجمة من لغة أصل أو لغة ثالثة؛ بل أننا نرى نقاداً وأكاديميين لا يرون الأشياء كما يبدو إلا بالمقلوب فالترجمات المليئة بالأخطاء التي تقرب أحيانا من الهزل هي الترجمات المكتملة بدقتها وسطوعها بينما تُقيّم ترجمة خليل مطران باعتبارها نموذجاً للترجمة الرديئة المفككة المبعثرة.
هذه الأوهام وغيرها من أوهام أخرى تكتنف النص والترجمة عموماً ما أحرى بنا أن نتحدّث عنها وقد سادت زمناً طويلاً يقرب من قرن، لا لما أنتجتها من أخطاء وإنما لأنها عرقلت حركة الترجمة، وأسهمتْ في بعثرة جهودها فلا تاريخ هناك للترجمة ولا فاعلية أو تأثير مما جعل ترجماتنا تسير ولكن بشكل متعرج دون العودة إلى الأصل عبر ترجماته وتاريخه والانطلاق من كل ذلك صوب الآتي. وهذا ما راكم الأخطاء ولم يساعد على تجاوزها إن لم نقل إنه ساعد على تكريسها عبر تقييمات عامة غائمة لا تستند إلى أصل أو نسخ أحيانا، لأنها تقييمات افتراضية مليئة بالأوهام.