ادب وفن

أيام مع عبد الوهاب البياتي / هادي الحسيني

لم يمّر بتاريخ الشعر العربي الحديث شاعر شغل الاجواء الثقافية والسياسية مثل الشاعر عبد الوهاب البياتي! اختلف من حوله الكثيرون وأتهموه بالنرجسية ! بينما الحقيقة الواضحة أن اغلب الشعراء يتمتعون بنرجسيات عالية تتفوق كثيرا على نرجسية البياتي ! لا أحد يستطيع أن ينكر شاعريته ، فهو شاعر كبير وبكل المقاييس الفنية . من يقرأ دواوين البياتي بدقة سيجد أن اغلب ما كتبه خلال مسيرته الشعرية الطويلة والتي جاوزت الخمسة عقود هو شعر عالمي بأمتياز ، شعرية لم تقتصر على الزمان والمكان ولا الموضوعات التي كان يطرحها فهي في الغالب معالجات تنطبق على البشرية جمعا ، وصالحة لكل الازمان . البياتي يقف جنبا الى جنب مع شعراء العالم الكبار ! هو شاعر مقروء ومعروف عالمياً . حتى أني أذكر يوما أجريت مقابلة صحفية مع واحد من أهم شعراء النرويج واسمه ( آرلنك كتلسن ) عندما سألته عن الشعر العربي ؟ اول ما ذكر لي البياتي !
البياتي شاعر الثورة وشاعر الفقراء والبسطاء ، سخر كل طاقاته الابداعية ومنذ بداياته الاولى لنصرة المظلومين في الارض !
الملوك والرؤساء العرب والسياسيين كان خصمهم على طول الخط ! وكانوا يهابونه ويتحاشون قصائده وتصريحاته الصحفية التي عادة ما تقلق مضاجعهم !
وفي عام 1998 داخل العاصمة عمّان ذهبت مع البياتي في واحدة من كافتريات منطقة الشميساني بعد أن أتصل شخصان من التلفزيون العُماني ، جلسنا معهم واتفقوا مع البياتي على إجراء حوار تلفزيوني ، المكان كان غاليري الفينيق ، حضر البياتي عصرا وكنت معه وعلى مائدته الفينيقية ، وقبل أن يبدأ التسجيل ، قال له المحاور أنه كان في بيروت وقد أجرى حوارا مع ادونيس ! أجابه البياتي ليس ثمة مشكلة لديّ مع ادونيس !
كان المحاور على علم مسبق بالتصريحات النارية التي عادة ما يطلقها البياتي بالضد من ادونيس ، وكنت قد قرأت الكثير عن هذه التصريحات ! لكني اليوم اجلس الى جنب البياتي وفي نفس المائدة في هذا الحوار الذي كنت تواقاً لسماع تصريحاته بخصوص ادونيس او نزار قباني خاصة وأن المحاور العُماني كان همه الاول تسيلط الاضواء على هذه المسائل الشخصية والخلافات !
وقبل أن يبدأ التسجيل حاولت الانتقال الى مائدة قريبة حتى أستمع للحوار والذي على ما يبدو سيكون مثيرا للجدل ! البياتي رحمه الله رفض انتقالي وقال ليس ثمة مشكلة فأنت معي ولا بأس أن تطل على الشاشة ! أبتسمت لِما قاله ! لكني حاولت أن أبتعد قليلا عنه ليكون ظهوره في التلفزيون لوحده ! عندما بدأ المحاور يطرح الاسئلة على البياتي ، كان البياتي يتحدث بطريقة أكثر من رائعة ، لا بل إن كل جملة من كلامه كانت لا تخلو من الشعر ! حتى وصل المحاور بالاسئلة الى ادونيس ! ما هو رأيك يا ابا علي بشعر ادونيس وتنظيراته ؟ مع ابتسامة رافقت المحاور !
البياتي وبكل ثقة لم يهاجم ادونيس ولم يشتمه ولم ينتقص من هيبته كما يشاع في الصحافة ، إنما قال بالحرف الواحد : أن ادونيس لم يأت ِ لنا بالجديد ! كل ما يكتبه وينّظر لنا فيه هو نابع من اعماق تاريخ ادبنا العربي الذي يمتد الى قرون طويلة من الزمن !
وعن نزار قباني حين سأله المحاور ، قال : أن نزار قباني شاعر صاحب امكانيات محدودة وبسيطة ، شاعر يحاكي النساء والمراهقات لا أكثر !!
هذا كل ما تكلم به البياتي عن شعر ادونيس ونزار قباني !
من حقنا أن نحترم وجهة نظره كشاعر يرى بعين بصيرة وثاقبة شعراء جيله كيف يكتبون !!
تحدث البياتي كثيرا عن ابناء جيله ، السياب ونازك وبلند الحيدري وعن الشعرية العراقية برمتها ، قائلا انها تبحث عن التجديد في الشعر باستمرار!
وعلى مدى أكثر من ساعتين من زمن المقابلة ، انتهى الحوار الذي اسعد المحاور والذي أخرج ظرفاً فيه الف دولارا وهو يقول للبياتي ، الرجاء أن تعذرني على هذا المبلغ البسيط بعد هذا الجهد الكبير ، وأن نفس المبلغ بالضبط كنا قد اعطيناه الى ادونيس عن مقابلته !
في بداية الستينات كان البياتي في موسكو كملحق ثقافي للسفارة العراقية في زمن عبد الكريم قاسم وبعد انقلاب 8 شباط الاسود تم فصله !
ليعين مدرساً في معهد اللغات الشرقية بجامعة موسكو وقد ألقى محاضرات قيّمة على الطلبة حول تاريخ الادب العربي .
وأصبح عضواً في اللجنة العليا لحركة الدفاع عن الشعب العراقي برئاسة الجواهري الذي قرأ قصيدة (امين لا تغضب) ومن بعد الجواهري قرأ البياتي قصيدة عن الشهيد سلام عادل ! وكذلك قرأ حسب الشيخ جعفر وهو شاب صغير الذي صفق له الجواهري كثيرا وضمه الى حضنه ! كان ذلك في اتحاد الادباء السوفيت !
يا رفيقنا سلام
وأنت في قلوبنا تنام
تضاء ألف شمعة !
ثم فصل البياتي من عمله في الجامعة ، ليبقى في حيرة من أمره وأمر عائلته حتى بعد ايام قلائل ، أتصلت به السفارة المصرية لتبلغه أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر يعرض عليه الاقامة في القاهرة ! وهكذا غادر موسكو الى القاهرة ليعيش فيها قرابة العشر سنوات ! رحم الله البياتي الشاعر الكبير والانسان النبيل الذي كان رائعاً وطيبا وكريما !!