ادب وفن

عمار بلحسن.. مقاومة الغياب / غزلان هاشمي

"لا شيء يجعلنا عظماء غير ألم عظيم" ، هذه المقولة لدي موسيه اعتراف بأن كل منجز عظيم هو بالضرورة ما ترعرع بين جنبات الوجع أو بين مسافات الحزن حينما يسيج الكلام بصمت نبيل ليتموضع في شكل بوح إبداعي رقيق، عمار بلحسن وهو يكتب تاريخ وجعه يحاول مقاومة الموت بحياة رمزية جديدة، هي لحظة الكتابة وزمن تموضع البوح في شكله الإبداعي ،فلم تكن الكتابة في مثل هذه اللحظات تعبير عن مخاوف من العدم والانتقال إلى ذاكرة الإبداع ، إذ الخوف نفي لكل اعتبار متحقق يروم المشاركة ، وما كتابة الذاكرة إلا رغبة في هذه المشاركة.. مشاركة الحرف ولحظات الألم … ومشاركة الحرف ،عمار بلحسن يملأ فراغات النص بكل ممكن واحتمالي ويحول الموت إلى حضور ماثل في ذاكرة المجتمع ،بل نجده يربي المجتمع على استقباله بما يناقضه ، فحياة الإبداع تمثل لراهنية تتخذ أشكالا مختلفة لا تموت أبدا بل تحيا مع كل قراءة متجددة،ولربما كل العبارات التي تلت العنوان تحمل في تعدديتها احتمالية الحياة والتجدد ،إذ مع كل احتراق تنبثق رؤية للوجود ومع كل احتراق ينفتح نص جديد "كتاب متورمة ،ليليات الألم، رؤى جنائزية ،آفاق الأمل، نصوص مؤرخة بتاريخ المرض…..".
إذن مع بحثنا في تأريخ الوجع عند عمار بلحسن تنتفي التسجيلية ، وتتحول اللغة إلى إمكان يروم التحقق وتوق إلى الحضور والمثول بين مسافات البوح،فهل اللغة إذن هي تلك النجمة التي كان يبحث عنها؟.
في نصه "آه ..تلك النجمة" يتضح الانشغال بالأسئلة، وكأن النجمة في تموضعاتها المتعالية تضيء زمن النص وتشي بالاستمرارية والمثول الدائم ،لكنها تظل محكومة باستحالة التموقع ضمن سلطة النص ،حيث تظل حلما ينتظر التحقق أو اعتبارا مسيجا بهيبة الحضور المتعالي، والمقطع التالي خير دليل على ذلك، إذ يقول" كانت تبتعد .. وكنت ابتعد..
لم أعد خائفا لأن النجمة ترافقني
ألم ترافق النجوم دائما الأنبياء
المناضلين والفنانين؟".
إذن فالذات/ النص تظل تناضل من أجل الحصول على زمنها ومن أجل استرداد ذاكرة اللغة، لذلك فهي تتموضع في شكل حواري دائم لتقاوم الغياب ، وتصنع اعتباراتها من ذلك الامتداد الذي يفيض عن قيود الزمان والمكان ليتسع لأحلام التمكن ها أنا قبالتك… ممتلئ بالبحر وأحلام البر.." بل وتبحث عن التدخل القرائي العاصف برتابة المعنى من أجل تهييج لغة النص " أين الرياح الكافية لتأجيج أمواجي؟"، وتحميلها تعددية الإنجاز وتجاور العوالم الإبداعية "ثم هذه كلماتي متخمة بضجيج العوالم وصخب الأشعار"، والتي تواجه بفشل الوصول إلى المعنى الأحادي رغم وهم الاقتراب لتبقى الاحتمالية تسيج هوية النص الملتبسة ها أنا قبالتك، وها أنت قبالتي
وأراك وأسفي تهربين كطيف قبيل القبلة بطرفة عين
- فهل سترحلين عن قلبي، بحري
كالأخريات"
ها أنا قبالتك… حبيبتي
ممتلئ بالبحر وأحلام البر كأني
أدخل أجواء الله بي أشواق الخلق
فبحق هذه العشبة المراهقة..قولي لي:
- أين الرياح الكافية لتأجيج
أمواجي؟
ثم هذه كلماتي متخمة
بضجيج العوالم وصخب
الأشعار…فبحق تلك الزنبقة
البرية أومئي لي:
- أين مناطق الصمت الكثيفة
لتفجير كلماتي؟
ها أنا قبالتك، وها أنت قبالتي
وأراك وا أسفي تهربين كطيف قبيل القبلة بطرفة عين
- فهل سترحلين عن قلبي ، بحري
كالأخريات
...........
ويستيقظ النص/ الذات على فشل الاقتراب من المعنى النهائي أو الصيغة المكتملة ،حيث يعترف بفقر وسائله الاستدلالية وسلاحه التأويلي مما يجعل حلم الوصول مغتالا بسبب غموض علاقته باللغة التي تفضل الالتباس وإحباط كل محاولات الاقتراب والولوج إلى أسرارها" تحاصر أفراحي صيغ العلاقات الباردة…"لكن النص يظل في محاولاته عسى يقترب من زمن اللغة الأصيلة أو زمن الكشف عن غموض العلاقة المقدسة" فأتبعها متفردا.. متوحدا.. بي أشواق التكوين والتشكيل …… حلاجا كنت ترافقني إشراقات الصوفية وتهاليل الله"،وتتعدد محاولاته محكومة بأمل الالتقاء في زمن المستقبل" أدخل بلادا .. أخرج من بلاد..أبني أحلاما.."،حيث كلما قاربت لحظة الاقتراب توج المجهود بالفشل" وسقطت على وجهي متعبا"،لتظل الذات في تعاليها حلما مسيجا بالاستحالة ترتحل بين مسافات معتمة ،وتصنع ضياءها من عدم الاقتراب" كانت نجمة أنيقة
تصعد مشعة تحف بها أطياف نورانية تنده لي..:
وقررت الرحيل.. أليس الرحيل قدر الفنان ؟
وحيدا كعادتي… حزينا كعادتي
تغتال توهجاتي أتعاب الأيام الفقيرة
تحاصر أفراحي صيغ العلاقات الباردة
تحبط تالقاتي أشكال الجمل الفارغة
أقاوم وأقاوم
أركب سفن الخلق تزفني إلى
محيطات الإبداع أغاريد حسون ونغمة حزن
فأتبعها متفردا..متوحدا…
بي أشواق التكوين
والتشكيل.. اللعب واللذات….
حلاجا كنت
ترافقني إشراقات الصوفية وتهاليل الله
ودقات
سمفونية..
ادخل بلادا.. اخرج من بلاد
ابني أحلاما.. اهدم أشواقا..
انحت لفظا.. أشكل قلبا
ارسم نجما أصور نغما
اكتب لفظا.. اسحق حقدا
اسقط عرشا أتوج ساعدا
ارمي حرفا.. اقتل قصرا
في لحظة التطهر كنت هائجا كالبحر
بين اللغة واللغة كنت
أبحث عن لحظة معاناة تشبه فجرا ريفيا
عسلا جبليا فرحا طفوليا
أوشكت… لحظة..فقط
وأمسك بلغاتي.. يا الهي..
أين تلك الكلمة التي تملا فمي
لأصرخ بكامل قوتي:
-يا عالم… يا مخلوق الله…
لماذا وشمت على روحي كل تلك الأخاديد؟
وسقطت على وجهي متعبا..
أجهشت ببكاء حار.. ثم فتحت عيني
مثقل الروح ، ثمل الجسد
وبدأت أرى.. من خلف الهضاب الهمجية
ومن وراء سماوات الضباب…
كانت نجمة أنيقة
تصعد مشعة تحف بها أطياف نورانية تنده لي:
وقررت الرحيل.. أليس الرحيل قدر الفنان ؟
وتبقى حروب الكلام وصراعات المعاني تبحث في انتقائية واضحة عن زمن اللغة الحقيقي ،حيث يتعدد قدر التأويلات بين السقوط والجنون والبحث المتواصل رغم تعاليها وابتعادها عن قدر المكوث في مستقر المعنى" والآخرون تبعوا نجمة وما يزالون في أثرها"، لتبقى مهمة الذات مقاومة الغياب بطرح الاحتمالية والتعددية رغم خيانة التحقق الفعلي "وترشدني إلى نجمة طعنتني ذات يوم".
البعض سقط … البعض جن
والآخرون تبعوا نجمة وما يزالون في أثرها
أما أنا فقد كنت أشكل
وجها للحب والمقاومة.. أعيد صياغة القارات المنهوبة
وأندد بالسرقات والانتهاكات وأبحث عن جمل..
شفافة.. كثيفة.. قوية تقول الحب
الذي اختزنه هنا تحت الثدي الأيسر
وترشدني إلى نجمة طعنتني ذات يوم..
ويقر النص بأنه أوشك على مقاربة المعنى الأصيل والامساك باللغة ، لكن قبل نهاية التشكل سقط شهيد التحقق ، إذ قدر اللغة أن تظل في تعاليها واحتمالية منجزاتها،ليشتعل النص/ الذات احتراقا من غموض التحقق ،لكنه يواجه بغواية اللغة التي تدعوه لدوام المقاومة والمحاولة .
أوشكت أن أذوق طعم الخلق..
ولكن قبل لحظة كن فيكون
سقطت شهيد المعاناة..
وما زلت ساقطا…بين جمرات تشتعل..
بينما نجمة أنيقة تومئ إلي تند إلي:
قاوم يا بن الأرض.