ادب وفن

في ذكرى رحيله المتجددة .. شمران الياسري ..أبو كاطع / إحسان شمران الياسري

من خاصرةِ المحن، وعذاباتِ الشعب التي لم تتوقف مذ أطاحت زُمرٌ غاشمةٌ بجمهوريتنا الأولى.. ومن بين المآسي التي توالت تترى كأنها مواعيدٌ للوفاءِ بالنذورِ، تُطيحُ بكلِ أملٍ أو حُلمٍ، ومن تحتِ سقوفِ الخيباتِ التي كنا نتنقّل بينها كأننا مأسورينَ لوعدٍ أسودٍ، تحل ذكرى رحيل الرجل الذي كان يحلمُ مثلنا، ولنا، بأيامٍ يتحدّدُ فيها الفرحُ ويُسمّى، ويتحدّدُ فيها الإنجازُ والحساب..
ذكرى رحيل الكاتب الباهر شمران الياسري - أبوكاطع، الذي قضى في طريق مسيرته من المنفى الى الوطن، الى كوردستان حيث توجه للعمل في إذاعة «صوت الشعب العراقي». غير أن المنيةَ مثل أوقاتنا المفزعة، ترصّدتهُ في الطريق، وأزهقت روحهُ التي كانت مبتلةً بندى الحنينِ للوطن..
شمران الياسري... الصوتُ الذي غرقتْ في ثناياه كل الاصوات العذبةِ والنبيلةِ، لترّددَ نشيدَ الوطنيةِ، ولتسجّلَ الغيرةُ العراقيةُ في سجلِ سِفرها المجيدِ، صوتاً مليئاً بالحريةِ، خالياً من الزيفِ أو الاغترابِ، مُنتمياً لطينِ الرافدينِ، ومخلوقاً منه، ذرةً فذرة، لا تفارقُ أنّات القصبِ صوته، ولا يحيدُ لونُ البردي ولونُ النخلِ الباسقِ عن لونه، ولا تغيبُ عن رائحتهِ رائحةُ العنبر المشخابي..
كلُ شعرةٍ في شيبتهِ المُبكرةِ كانت عنواناً لألفِ سنةٍ من تاريخِ العراق.. توافدت في مُهجتهِ النقيةِ قوافلُ السومريينَ، والآشوريينَ، ومَن سكنَ أرضِ الرافدينِ من الأنبياءِ والأوصياءِ والذائدينَ عن حياضِ أرضهِ ومائه وسمائه..
كان الدينُ عند شمران الياسري الكلمة والإيمان والصدق، وقوة الخالق في ضمائرِ الناس. وكان الحب عند شمران ملايين المساكينِ الذين وقفوا على أبوابِ الحياةِ، يلفظهم الطغاةُ والفاسدونَ، وتتمنّعُ عن نصرتهم أقلامٌ بائسةٌ تُحاكي السلطانَ وتمجّده، وتبيعُ لهم الوعودَ الزائفة..
وكان شمران، مثل عشراتِ المبدعين الذين وقفوا عند حافةِ الموتِ، كي لا يقولوا (نعم) في معرضِ قولِ الحقيقةِ بوجه الظالم .. ولم يتردّد في قولها، فكان موتهُ عند كلمةٍ تجرح أو تُزعج، أو تهزُّ الظالمينَ والفاسدينَ والمُتلونينَ.. وكانت السلطةُ تتوقفُ عند كلِ كلمةٍ يقولها، بل كان فيلقُها الإعلامي المتمرّس يحلّلُ كلَ مقالةٍ يكتبها، لأن الناسَ كانت تنشغلُ بهذهِ المقالات وتنتظرها، بل وتسعى الى الصحيفةِ من أجلها..
مات أبو كاطع يوم 17 آب 1981 وهو في طريقه من تشيكوسلوفاكيا الى هنغاريا، ليودع ولده جبران، قبل ان يتوجه الى كوردستان.. وقد هزَّ موتهُ المُبهمُ والمُريب، في حادثٍ قد يكون بألف سبب، آلاف المثقفينَ والمُعجبينَ والسياسيينَ، الذين اعتبروا موته، موتاً لمسيرةٍ حافلةٍ بإنجازٍ من نوعٍ خاص، وطرازٍ قد لا يتكررُ من أدب رفيع.. أدبُ الصوت المتماهي مع تفاصيلِ حياةِ الناس البسطاء، بُناة العراق في ريفهِ وحضرهِ وجبلهِ..
ماتَ رائدُ الصراحةِ البهيةِ المُجلجلةِ.. وماتت ضحكاتهُ وسُخرياتهُ من الظالمينَ والفاسدينَ والجهلة..
وفي كلِ عامٍ، تستذكرُه صحفُ «طريق الشعب» و «التآخي» ومجلة «الثقافة الجديدة» وكل الصحف التي كتب فيها، وصحفُ هذا الزمن، التي لم ينسَ كتّابها هذا المبدع الجسور.
وفي كلِ عامٍ، يستذكره أبطالُ رواياته (الزناد، بلابوش دنيا، غنم الشيوخ، فلوس احميد، وقضية حمزة الخلف)، حيثُ وضع لكلِ واحدٍ منهم قضيةً وناموساً، وأعاره قلماً ولساناً ليدافع عن حريتهِ، وحرية الناس..
ويستذكرهُ (خلف الدواح)، الذي تمدّدَ في شخصيتهِ حتى طغى على شخصياتِ زمانه، فكانَ صوت الفقراءِ والمعوزينَ والذائدينَ عن حرياتهم وحريةِ العراق..
لكَ المجدُ يا صاحبَ الصنيعِ بالكلماتِ، إذاعياً هادراً في برنامجك الجميل (احچيها بصراحة)، وكاتباً روائياً كبيراً، وصحفياً من طراز عجيب..
لكَ المجدُ فلاحاً، وكاتباً موهوباً، وانساناً مُرهفاً..
لك المجدُ حيثُ تغرقُ حياتنا بالظلام والأسئلة، وحيث نبحث عن أجوبتها، ونبحث عن صوتكَ ليدوّي في وجوه الذين اصطنعوا، أو حاولوا ولم يفلحوا..
أنتَ صوتُ الفقراءِ، وصوتُ المظلومينَ، وصوتُ الفلاحينَ و(صوتُ الصيّادين) على شطآن الرافدينِ وفي الأهوار.. وصوتُ الجنودِ في ساحاتِ المجدِ، حيثُ يُحيطُ بنا الأعداءُ، لا نعرف من أين وردوا، ومن صنعهم أو أرسلهم أو موّلهم..
لكَ المجدُ أبي، حيث أقف يومياً بين يدي الله تعالى أدعو لك بالرحمة والمغفرة، وحيث أقف يومياً مشدوهاً أمام هذا المجد الذي صنعهُ عقلكَ النظيف وضميرُكَ العفيف..