- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الإثنين, 15 آب/أغسطس 2016 19:25

جيكور يا جيكور
شدت خيوط النور
ارجوحة الصبح
فاولمي للطيور والنمل من جرحي
وقع نبأ موت الشاعر الكبير بدر شاكر السياب في 24 كانون الاول 1964علينا موقع صدمة. وشعرت وزملاء جمعتنا محاولات كتابة الشعر والقصة وقراءة الاعمال الادبية مشحونين برغبة التغيير والانقلاب على الواقع المعاش حينذاك، شعرنا بالخسارة الفادحة، زادها ما نشرته الصحف العراقية عن ان ثمة عدة اشخاص فقط شاركوا في تشييع جنازة رائد الشعر الحر، وانه مات غريبا، في مستشفى في الكويت.
وقال الشاعر المصري احمد عبد المعطي حجازي في مقالة تأبينية رقيقة في مجلة الهلال الصادرة حينذاك "لقد مات اعظم شاعر عربي معاصر" ومجد قصيدته الرائعة "انشودة المطر"، لقد الهبت كل تلك الاحداث، وربما عوامل اخرى زادتها، في ان موت الشاعر العظيم يجب ان لايمر دون ضجة، وعلى الناس وبعيدا عن الحكومة ومؤسسة الدولة تأبين شاعرهم الكبير، وربما داخلها شيء من مشاعر الطفولة الطازجة والرغبة لاجتراح فعل ما، وعدم تفويت حدث كبير ألمّ بالأمة وبالوطن ان يمر هكذا، كل ذلك ألهمني وصديقي عبد الحسين المالكي الذي كان يكتب الشعر واصبح بعد ذلك مهندسا واحتفظ يشفافيته وروح غذاها الشعر، ان نزور جيكور رأس مسقط الشاعر الكبير، التي رسمت قصائده عنها في اذهاننا صورة خيالية، قريبة من ان تكون منطقة الخلاص الابدي حيث السلام والامان والحب الابدي بعيدا عن اليومي الزائل والتصاقا بالمستديم.
لقد لاح لنا حينذاك اننا نقوم بمغامرة من اجل ذكرى شاعرنا، السفر نحن ابناء الرابعة عشرة بمفردنا من مدينة العمارة الكسيحة الى البصرة الميناء الصاخب، ومن ثم ... الى جيكور التي لم نعرف اين تقع بالضبط، سوى انها في ضواحي ابي الخصيب.
وصلنا ابي الخصيب بعد منتصف النهار، وبدت لنا المدينة بائسة مثل كل المدن العراقية القاحلة، شارع رئيس مترب وبيوت من الطين ذات طابق واحد ووجوه متعبة، واقترنت ابو الخصيب في مخيلتنا بثورة الزنج في البصرة حيث انطلقت من هناك شرارتها او كانت احدى بؤرها الرئيسة كما قرأنا في دراسة فيصل السامر الرائعة والوحيدة حينذاك عن ثورة الزنج، ورحنا نسأل عن جيكور موطن بدر شاكر السياب. ولم يعر لنا احد الاهتمام فابناء البلدة نسوا او لم يسمعوا بواحد من افضل مواطنيهم، الذي جلب اسمه، الشهرة والمجد لبلدتهم، لا يقل شأنا عن شهرة ثورة الزنج. انه الشاعر السياب. لقد نسوا ان القبائل العرببة في غابر الازمنة كانت تقيم الاحتفالات بمولد الشاعر بينها وتروح تفتخر به بين القبائل الاخرى فكيف بالسياب الذي كان واحدا من أولئك الذين احدثوا طفرة ونقلة في مسيرة الشعر العربي برمته.
واخيرا تطوع معلم بمرافقتنا الى جيكور. لاح طيبا وكان مخمورا بعض الشيء، قال انه يمت بصله لعائلة السياب، واشترط ان ندفع عنه اجرة الحافلة التي تقلنا الى جيكور القرية النائية ذهابا وايابا، ولم يكن امامنا سوى خيار الموافقة مع الامتنان له. ولاحت جوانب الطرقات من وراء زجاج نافذة السيارة التي اقلتنا ثرية باللون الاخضر والماء والسماء الزرقاء الصافية، بيد ان الطرقات كانت وعرة وكأننا نعبر طرقا لم يمر بها الانسان، وامتدت قرى وبيوت تفوح من جوانبها رائحة الفقر والعوز وانها تئن من شظف العيش وغياب العدالة ومن الاهمال.
صدمتنا جيكور التي يقول فيها السياب:
جيكور يا جيكور: اين الخبز والماء؟
الليل وافى وقد نام الادلاء
والركب سهران من جوع ومن عطش
والريح صرّ وكل الافق اصداء
بيداء ما مداها ما يبين به
درب لنا وسماء الليل عمياء
جيكور مدي لنا بابا فندخله
او سامرينا بنجم فيه اضواء
غابة غير متناهبة من النخيل. ورحنا نسير في دروب ضيقة بينها حتى بلغنا بيوت عائلة السياب. "خرائب فانزع الابواب عنها تغدو اطلالا" كما قال عنها السياب بعد ان أصبح شاعرا كبيرا. وشاهدنا البيت حيث ولد السياب. قلعة كبيرة، لايمكن الافتخار بمزاياها المعماربة. انه باحة كبيرة تحتوي على غرف، مما يوحي ان عائلة السياب كانت كبيرة ومعروفة في المنطقة.
واشار لنا المعلم الى شباك في بيت مقابل وقال انه "شباك وفيقة":
شباك وفيقة في القرية
نشوان يطل على الساحة
كجليل تنتظر المشية
ويسوع وينشر ألواحه
ايكار يسمح بالشمس
ريشات النسر وينطلق
وذهب بنا الى نهر بويب، الذي ارتسم في اذهاننا من خلال قصائد السياب عنه بانه يعبر عن الخلود وانه مصدر الديمومة ونضارة الحياة. وكم كانت خيبة الامل لأنه جغرافياً بعيد عن الصورة الشعرية التي اضفاها السياب عليه. فبدا لنا ساقية طويلة تخترق غابات النخيل ولكن ماءها جار وحيوي، اذن فهو ماء الحياة. ولماذا سمي بويب. ومن أين يأتي بمائه. لم تبدو تلك الأسئلة لنا بأنها اسئلة حيوية، لاننا نتعامل مع نص شعري لا جغرافي:
اليك با بويب
يانهري الحزين كالمطر
اود لو عدوت في الظلام
اشد قبضتي تحملان شوق عام
في كل اصبع كأني احمل النذور
اليك من قمح ومن زهور
وتجولنا في غابة النخيل اللامتناهية، كانت "الريح تسف" كما يقول السياب. وتميل كل نخلة بهدوء كأنها تلامس جارتها فينشأ حفيف رقيق وشفاف ليخلق همسا متواصلا، ولغة لا يمكن ادراكها الا بالحس والشعور الداخلي. انها لغة الروح. وحينها خطر لي خاطر أنه من اجل ان تفهم السياب عليك بزيارة هذه الانحاء. وان شخصا كالسياب لابد ان يخلق شاعرا بفضلها. وهناك في تلك الاصقاع النائية والبدائية تعثر على قاموس السياب الشعري، ومنها مصدر قصيدته.
ولم يجب المعلم الكريم على اسئلة كثيرة كانت تلح علينا عن شخصية السياب، انسانا وشاعرا. ولذلك اكتفى بان اعطانا عنوان ابن عمه وصديق طفولته وشبابه (مع شديد الاسف نسيت الان اسمه) الذي دعانا بكرم إلى زيارته في منطقة الونبي الصغير في البصرة.
وقبل ان نتوجه الى زيارته، قررنا ان نضع اكليلا من الزهور على قبر الشاعر الكبير في مقبرة الزبير. ومع شديد الاسف، لم نشهد حينها ان قبر السياب الكبير كان يتميز عن القبور الاخرى بلوحة او رقيم، ليضاف على القبر ما يليق بمكانة نزيله في الثقافة العربية والعراقية. ووضعنا الاكليل المتواضع ونحن نشعر بالغصة.
وراح يحدثنا ابن عمه الرجل الوقور بودّ وحبّ وأسى عميق عن السياب، فهو قريب له ومحب للشاعر الكبير. فالسياب كأيّة شخصية مبدعة عبقرية كان موهوبا في العديد من المجالات، وخاصة برقة احساسه. واتذكر انه خص منها ان بدرا كان عازفا ماهرا على الناي، وانه كان يرسم وله ذوق لغوي رفيع وكان متفوقا في الدراسة وامتاز دائما عن اقرانه. وضمن ردود على اسئلتنا قال ان السياب لم يترك مذكرات او يوميات نثرية خاصة، وبقناعته فان مذكرات السياب او سيرته الذاتية الحقة، هي قصائده. وصدق في ما قال. وعن التقلبات السياسية التي اشتهر السياب بها وبرأيه فان السياب كان حساسا ورقيقا وكان من السهولة التأثير عليه، لذلك نراه والحديث لابن عمه، ينتقل من انتمائه الشيوعي الى القومي ومن ثم يتعاون مع مؤسسة الثقافة الحرة الاميركية مما اثار اللغط غير العادل حوله، وتحدث بأسف بالغ عن ظروف دفن وتشييع السياب. ناهيك عن العدد القليل الذي رافق جنازته. وحدثنا عن ان مدير عام الموانئ العراقية، قد أمر ـ حال سماعه نبأ موت السياب ـ عائلته المكونة من زوجته اقبال ونجله غيلان ابن الستة اعوام حينذاك، بإخلاء البيت الذي كانوا يسكنونه والعائد لادارة الموانئ. فالسياب كان موظفا في مديرية الموانئ.
وافاد بان الشرطة حضرت مساء يوم التشييع وأخلت البيت بالقوة، ورمت بأثاث عائلة الشاعر بلا رحمة على قارعة الطريق فاضطرت عقيلته وطفلها إلى الانتقال الى بيت اخيها. واعطانا عنوان اخ عقيلة السياب اقبال التي كانت تسكن عند اخيها، لزيارتهم.
ورغم ان اخا اقبال، استقبلنا بترحاب، الا انه ابلغنا باستحالة الالتقاء باقبال، لعدم مرور 40 يوما على موت "بعلها" السياب وفقا لاحكام الشريعة الاسلامية. واعتذر ايضا في ان ينظم لقاء مع نجل السياب "غيلان" الذي ذهب توا الى المدرسة الابتدائية، وفسر ذلك بان العائلة لم تبلغ الطفل عن موت ابيه وقالت له ان اباه في سفر، وان التقاءه بغرباء سوف يثير شكوكه.
استقبلنا كل ذلك بتفهم. واكتفينا بالحديث عن السياب وعلاقاته العائلية وعلاقته بزوجته "اقبال" التي صدر ديوانه الاخير باسمها وكتب اخوها هذا مقدمته.
بعد فترة من عودتنا الى العمارة، وصلتنا رسالة رقيقة بخط تلميذ الصف الاول الابتدائي غيلان، يعرب فيها عن امتنانه لزيارتنا له ورغبتنا في التقائه وأسفه انه كان حينها قد آوى الى فراشه.
هكذا يعيش الشعراء بيننا، وهكذا تتعاطي مجتمعاتنا مع شعرائها، وليس معهم فحسب، ناسية ان الشاعر الكبير ظاهرة سحرية لا تتكرر وكنز لا يمكن التفريط به، فهل يمكن القول انها مجتمعات حية، طامحة لمستقبل افضل، وقابلة للصعود على سلم التطور والارتقاء، لأن التعامل مع السياب حيّا على قيد الحياة وميتا كان اشارة خطر. فهل نستفيق.
اين ابي وامي ... اين جدي واين ابائي
لقد كتبوا اساميهم على الماء
ولست براغب حتى بخط اسمي على الماء
وداعا يا صحابي يا أحبائي
إذا ما شئتموا ان تذكروني فاذكروني ذات قمراء
والا فهو محض اسم تبدد بين اسماء
وداعا يا احبائي