ادب وفن

جلال .. الحاضر دائما بكل ما فيه وبتفاؤله / كامران قرداغي

كيف يمكن ان أتحدث عن صديق أعرفه عن قرب منذ عقود، ويصعب أن أتصور أنه بعد هذه العشرة الطويلة رحل عنّا الى مكان بلا عنوان؟
عرفته للمرة الأولى في موسكو التي وصلتها للدراسة في 1961 وكان هو قد سبقني اليها. لم تجمعني به وقتها صداقة قريبة لكنني كنت قد لاحظت أنه كان واحدا من أصغر الطلبة العراقيين عمرا إذ لم يتجاوز وقتها السابعة عشر عاما. بعبارة أخرى كان لايزال مراهقا مشاكسا يفيض حيوية وحركة ومرحا ومزاحا. الى ذلك كان لافتا أنه وفريق صغير من أصدقائه القريبين يجمعهم حبهم المعرفة والقراءة والآداب والفلسفة والمناظرات والتمرد على المألوف، وهي صفات لازمته حتى النهاية.
تقاطعت طرقنا كثيرا. في بغداد عندما عدت اليها مطلع 1968 بعد التخرج كان جلال يعمل في الصحافة ويجمع بين عملين في المركز الثقافي السوفياتي ووكالة "تاس" السوفياتية للانباء. كنت وما أزال أقول إن جلال من أحسن العارفين باللغة الروسية لذا سررت جدا بشهادته وقتها بأنني "متمكن" منها الأمر الذي دفعه الى ترشيحي لشغل مكانه في المركز الثقافي الذي كان جلال قرر ان يترك العمل فيه وفي "تاس" بنية العودة الى موسكو للدراسة فيها مجددا. في المرة الاولى من دراسته اختار جلال معهد الطاقة للهندسة لكن يبدو ان حبه الآداب والصحافة جعله يعود الى العراق قبل اكمال دراسته. في المرة الثانية انضم الى كلية الصحافة في جامعة موسكو حيث تخرج حاصلا على الماجستير وقرر البقاء هناك والعمل في القسم العربي في المقر الرئيس لوكالة "تاس". لكن الأديب في جلال تغلب آنذاك على الصحافي فيه فانتقل الى العمل في دار نشر "التقدم" (بروغريس) حيث ترجم عددا كبيرا من الكتب في الادب والسياسة والاقتصاد والعلوم. في التسعينات انضم جلال الى الاكاديمية الديبلوماسية التابعة لوزارة الخارجية الروسية وحاز فيها على درجة الدكتوراه.
لقاءاتي مع جلال بدأت عندما كنت أزور موسكو في السبعينات وزادت لاحقا في الثمانينات بعدما غادرت العراق الى لندن وكان جلال يدعوني الى الاقامة في بيته ضيفا خلال فترات الزيارة، وبالتالي كانت العلاقة بيننا تزداد قربا ومتانة وخصوصية. يتعين علي هنا ان أشير الى الضيافة الأسطورية التي كان يوفرها جلال لأصدقائه. بيته كان مفتوحا لهم وكان لا يرد لهم طلبا عند الحاجة. أصدقاء جلال كثيرون سواء المقيمين في موسكو أو الذين يزورونها من العراق ودول أخرى. بيته في موسكو كان مكانا نجتمع فيه للحديث والنقاش في السياسة والآداب والفنون وكان النقاش عادة يحتد ويسخن قبل أن يهدأ ويخمد.
الى جانب اصدقائه العراقيين لجلال نخبة من أصدقاء روس بينهم زملاء عمل معهم وكتاب وأكاديميون وصحافيون وسياسيون كنت أعرف بعضهم من قبل وتعرفت على بعضهم الآخر عن طريق جلال. في مطلع 1988 أنضممت الى الفريق المؤسس برئاسة الاعلامي جميل مروة لاعادة اصدار جريدة "الحياة" التي اسسها والده الراحل كامل مروة، وكلفت بالعمل محررا ديبلوماسيا للشؤون السوفياتية. وكان الاتحاد السوفياتي يمر وقتها في مرحلة "البيريسترويكا". أذكر هذه المعلومة لانطلق منها الى دور جلال في تلك المرحلة، ولأذكر معلومات عنه قد لا يعرفها كثيرون. سافرت الى موسكو متطلعا الى اقناع جلال بالعمل مراسلا لـ "الحياة" في موسكو. اقتنع جلال وسرعان ما اصبح مديرا لمكتب الجريدة هناك. خلال فترة الاعداد لاصدار الجريدة بين شباط وتشرين الأول من ذلك العام استطعنا الاتصال بنحو 200 كاتب سياسي واكاديمي وصحافي بينهم عدد من ابرز الخبراء في شؤون الشرق الأوسط للمساهمة بكتاباتهم في الجريدة. ولعلها كانت المرة الاولى التي اسهم فيها كتاب سوفيات في صحيفة أجنبية مباشرة. أكثر من هذا استطعنا تعيين كاتب صحافي سوفياتي في مكتب الجريدة والحصول على موافقة رسمية بتعيينه وتزويده بهوية صحافية من قبل الدائرة الاعلامية في وزارة الخارجية التي هي مسؤولة المكاتب الصحافية الاجنبية في موسكو، وكان ذلك للمرة الأولى ايضا. ذلك الصحافي السوفياتي الذي عمل مساعدا لجلال كان صديقه المستشرق إيغور تيموفييف (توفي قبل سنوات) الذي كان يجيد العربية بطلاقة.
كان مهما جدا تغطية التغيرات الدراماتيكية في الاتحاد السوفياتي آنذاك ولا ابالغ بالقول ان "الحياة" انفردت وقتها بين الصحافة العربية بتغطيتها العميقة، إن عبر تقارير مكتبها في موسكو أو الكتاب السوفيات الذين استكتبناهم. هنا كانت أهمية الدور الذي لعبه جلال بفضل معرفته الفريدة بالأحداث والتطورات التي غيرت تاريخ الاتحاد السوفياتي. أذكر في هذا المجال قصة لها مدلولاتها. كانت السعودية في تلك الفترة تدرس مسألة اعادة العلاقات الدبلوماسية مع الاتحاد السوفياتي. ذات يوم طلبني رئيس التحرير وكان وقتها جهاد الخازن، الذي كان قد عاد لتوه من زيارة الى الرياض، الى مكتبه وأثنى على عمل المكتب في موسكو وتغطيته التطورات هناك. اضاف انه عندما كان في الرياض زار وزير الخارجية الراحل سعود الفيصل ورأى على مكتبة حزمة كبيرة من أعداد "الحياة" وقال لجهاد ان الجريدة صارت أحد المصادر لفهم التطورات التي في ضوئها ستتخذ الرياض قرارها في شأن العلاقات مع موسكو.
من مكتبي في "الحياة" كنت أهاتف جلال يوميا. نتناول الأحداث وأهميتها ومعانيها ونتجادل ونتفق أو نختلف فنغضب من بعضنا ونصرخ ونقطع المكالمة قبل ان نتصل من جديد لنواصل الحديث ونتبادل التنكيت والمزاح كأن شيئا لم يكن! هكذا كان الحال يوميا طوال عشر سنوات من عملي في "الحياة" وطبعا تخللتها فترات كنا نلتقي فيها، خلال زياراتي الى موسكو او زياراته الى لندن أو لقاءاتنا في المؤتمرات السنوية للتحرير هنا في لندن او في القاهرة او في الدار البيضاء. وبين 1998 و2004 عملت في براغ فيما واصل جلال عمله في "الحياة".
ومجددا تقاطعت طرقنا، في بغداد هذه المرة. جلال بصفته مديرا عاما لشبكة الاعلام العراقي وانا بصفتي عضوا في مجلس الامناء للشبكة، قبل ان يصيبنا الاحباط ويطفح الكيل ويبلغ بنا السيل الزبى. أنا قاطعت العمل في المجلس وجلال استقال من منصبه. وفي 2005 عدت الى بغداد للعمل مديرا لمكتب الرئيس جلال طالباني. ووقتها كان جلال رئيسا لتحرير صحيفة "النهضة". وعندما قرر ترك العمل فيها اقترحت على الرئيس طالباني أن يضمه الى المكتب مستشارا له فوافق، ففاتحت جلال ووافق أيضا. هكذا بدأت مرحلة جديدة من عملنا معا.
الكيمياء بين جلال ومام جلال كانت واضحة منذ لقائهما الأول، وسرعان ما منحه الرئيس ثقته. في صباح كل يوم كان مام جلال يحضر الى مكتبه فنذهب اليه: جلال والمستشار الاعلامي هيوا عثمان وأنا. كان مام جلال يرتاح الى جلال ويسأله رأيه في الأوضاع ويحترم ردود جلال الذي كان صادقا في آرائه ويعبر عنها بصراحة، حتى لو لم يتفق معها مام جلال. جلال يبني تقييمه للتطورات على مصادر اساسية: يقرأ الصحف ويتصل بمصادر عدة من مسؤولين وسياسيين ونواب وصحافيين مضافا اليها ما يسمعه من الاصدقاء والمعارف والحارس وسائق السيارة وعامل المطعم. ومن مواهبه انه كان سريع القراءة ويهضم ما يقرأه جيدا، فيشخص المهم والضروري في النص الذي يقرأه. كان هناك على مكتبي يوميا سيل من الرسائل والكتب الرسمية وتقارير أخرى سياسية وأمنية واستخباراتية وغيرها، بعضها يحتاج وقتا لقراءته واستيعابه، لكن لم يكن أمامي متسع من الوقت للقيام بذلك. فصديقي العزيز من قديم الزمان ورئيسي وقتها، مام جلال، كان قد كلفني اضافة بإدارة مكتبه وان اكون ناطقا رسميا باسمه، زائدا القيام بعمل رئيس ديوان رئاسة الجهورية وكالة، "وقتيا" كما قال. لكنني واصلت وقتيا نحو سنتين! جلال أنقذني. كنت أحول اليه التقارير، فكان يعيدها بعد ساعة بهوامش تختصر مضمونها بدقة متناهية، لأقدمها بدوري الى مام جلال الذي كانت تلك الهوامش تزيده اعجابا بجلال. مرة وأنا أحدثه بأمر يتعلق بجلال، قال لي مام جلال: "كامران، من حسناتك انك قدمت لي جلال الماشطة"!
الحديث يطول ويطول عن الصديق جلال الماشطة، الحاضر دائما بكل ما فيه: بضحكته، بابتسامته، بجديته، بمرحه، بعصبيته، بمساجلاته، بهدوئه، بتسامحه، بحبه الحياة. وأخيرا بتفاؤله الدائم الذي يصل الى حد اللامعقول بمستقبل العراق.
وأختم بكلمات في معنى الصداقة لأنطوان سانت أكسيوبري أحد الكتاب المفضلين عند جلال:
"في الحقيقة لا شيء يمكن ان يعوض عن فقدان رفيق. لا يمكن صناعة رفيق قديم. لا شيء يمكن ان يساوي خزين كل هذه الذكريات، كل الأوقات السيئة التي تحملناها معا، كل المشاجرات والمصالحات والدوافع الصادرة من القلب. صداقة كهذه لا يمكن اعادة صناعتها. اذا زرعت شجرة بلوط فانك تأمل عبثا أن تجلس سريعا تحت ظلالها. وهكذا هي الحياة. نغتني عندما نزرع في السنوات الباكرة، لكن بعد ذلك تأتي السنوات التي يبدأ فيها الزمن بتفكيك عملنا وقطع أشجارنا. واحدا بعد الآخر يحرمنا من رفاقنا ومن ظلالهم، ومن خلال أحزاننا الآن نشعر دائما بسر أسانا، لأننا نشيخ. وإذا بحثت في ذاكرتي عن الذين يبقى طعمهم، وإذا كتبت كشفا باللحظات التي تستحق فعلا، فسأجد حتما اللحظات التي لا يمكن ان تشتريها لي أي ثروة. لا يمكنك ان تشتري صداقة رفيق ربطتكما الى الأبد المحن المعاشة معا".
عزيزي جلال، تحياتي والى اللقاء!