ادب وفن

حين كان جواد سليم في موسكو / د. هادي الصكَر

ها هنا أجد نفسي اليوم واقفاً أمام إحدى ذكرياتي التي مضى عليها أكثر من 45 عاما لكن هذه الذكريات ما اختفت حتى الآن من عيني اللتين ما زالتا تريان عطاء الفن العراقي وبعض تضاريسه بريشة الفنان الرائد جواد سليم.

في يوم من أيام عام 1978 كنت في العاصمة الروسية موسكو، حين كان مداها متسعاً إلى حد التألق الفني العالمي، حين كانت الفنون السوفييتية مصقولة بالحب والسلام والطبيعة الرحبة، الجميلة. ليس فيها أي افتراض من افتراضات التجارة في الفن أو الثقافة. مضيتُ، بتلك الفترة، لزيارة (متحف فنون الشرق) الذي ضم مقتنيات وتحفاً فنية قديمة وحديثة من جنسيات شرقية مختلفة استحوذت على قرارة قلوب المشاهدين وهم يتطلعون بشغف كبير إلى معروضات كثيرة تتراءى للجميع ضوءاً باهراً يشع في القلوب.
سرعان ما أخذتني المفاجأة قارعة ً أجراسها في أعماقي بفرح وسرور وأنا أجول في القاعة الكبيرة المخصصة للأعمال الزيتية.
المفاجأة أجبرتني على الوقوف متأملاً إحدى اللوحات المعلقة في زاوية من زوايا تلك القاعة، مفضلة نفسها من دون جميع الأعمال المعروضة، حتى أنني شعرت بإحساس هو أقرب إلى اللقاء بعزيز عليّ فارقته منذ زمان بعيد كأنني التقي به، على حين غرة، في خضم من زحام وفي مكان لا يخطر على بال.
اقتربتُ أكثر وأكثر من هذه اللوحة لأجد نفسي أمام جواد سليم، أمام لوحة من ألواح منهجيته الفنية كأنها كانت تنخرط في هذا الجمع الحاشد ليس لنيل الشرف أو المكانة، بل لمعاقبة الحكام في بغداد ممن لا شأن لهم غير مطاردة الفنانين العراقيين وتهجيرهم عن وطنهم.
كانت اللوحة مهيمنة وصاعدة وهي تحمل عنوان: (في محفل الخليفة) وهي على ما أظن من بغداديات جواد سليم .
اقتربت أكثر من تفاصيل هذا العمل الخلاق بعينين باحثتين مستغربتين ثم سألت نفسي سؤالا غريبا متعجبا: كيف وصل هذا العمل إلى هذه القاعة.. تـُرى من جاء به إلى موسكو.. من هو الذي اقتناه أول مرة وأهداه إلى هذا المتحف؟
وجدت عملا متفردا استحوذ ليس على المكان كله رغم مساحته المحدودة التي لا تتجاوز المتر المربع الواحد، بل وجدته نفسي في حالة من حالات النصر للفن العراقي حيث كانت أذناي تسمعان عن قرب بعض خواطر المتفرجين الآخرين، معربين عن تقييم منبهر بنتائج المشاهدة.
أحاطتني نفسي بأسئلة كثيرة ولكن لا جواب عندي رغم أنني وجدت كل الأجواء منفتحة أمام إعجاب متعدد الأنواع ومن أعمار مختلفة كنت اشعر به من الزائرين. وجدت آخرين من المواطنين الروس وغيرهم من المستعرضين والنقاد قد انبهروا بهذا الأثر الفني وقيمته الفنية والتاريخية.
كما سألت نفسي في تلك اللحظة: هل يعقل ان يحظى رسم من رسوم جواد سليم بكل هذا الاهتمام وهو فنان عراقي عاش حياة قصيرة وظلت أعماله الزيتية محدودة ومعروفة في الوسط العراقي النخبوي حسب وقد لا تتجاوز العشرين عملا وكانت لوحة (في محفل الخليفة) آخر عمل من أعماله الزيتية ذات المثال الفريد والممتاز قبل ان ينصرف إلى جدارية (نصب الحرية)؟.
كان الأجدر برأيي - الاحتفاظ بها داخل العراق وعدم تركها للضياع أو تسربها إلى خارج الوطن، على الأقل اعتزازا بفن جواد سليم وبلمساته الزيتية وتعزيزا للأثر الذي تركه لنا بعد ان غادرنا إلى الأبد بموته المبكر. تألمت وما زلت متألما ان الفن يعامل كسلعة رأسمالية نادرة أو كمادة خام نفيسة تخضع لأساليب الغزو والتهريب إلى خارج أرضها التي ولدت فيها أو عبرت عن جغرافيتها وآمالها وآلامها.
لكن، على ما يبدو، أن من وهب أو نقل أو باع هذه اللوحة الزيتية كان جاهلا كل الجهل بأهميتها وقيمتها الفنية التي لا تغرب عن عين أي متخصص في عالم الفنون التشكيلية.
قلت لنفسي حينذاك: يا لفداحة هذا التجني، سواء كان مقصوداً أم غير مقصود.
ربما حصلت هذه الجناية الفنية في غفلة من زمن الذين لا يهتمون بتراثنا.. ربما حصلت على يد أحد المهربين النفعيين.. ربما حصلت من قبل أحد العاملين غير الواعين بالسلك الدبلوماسي وهو لم يفقه حقيقة الثروة الوطنية الفنية التي تحيط بهذه اللوحة.
كنت قد شعرت بالخذلان في تلك اللحظة التي كنت أشاهد فيها لوحة جواد سليم رغم ان ألوانها كانت تشعرني بالألفة والدفء والطمأنينة، خاصة وان ما كنت أشاهده هو نسخة أصلية بألوان جواد سليم الخالصة.
مع هذه المشاعر المتناقضة التي انتابتني لكنني كنت فخورا أمام زملائي وأصدقائي من الروس والأجانب عموماً لأنني كنت متأكدا ان جواد سليم ولوحته استحوذا على القاعة وعلى زائريها فقد كانت اللوحة متميزة بين جميع الأعمال المعروضة التي تكتظ بها القاعة من كل جنس ولون.
كان عمل جواد سليم فريداً في مساحته وفي تكوينه البارع وفي ألوانها كلها التي تنقل مشاهديها إلى عالم أساطير ما بين النهرين. شخوص اللوحة مليئة برشاقة وخفة وبراعة فرشاة الفنان جواد سليم كونه نحاتاً يمتلك حساً مرهفاً. فنانٌ حقٌ يتعامل بمرونة وعفوية عبر حِرفية عالية قل نظيرها.
انه يجعلك تتأكد أن الفن إنساني بطبعه وأصوله بالدرجة الأولى. لأن فنانا مثل جواد سليم بعيد كل البعد عن التساهل أو القبول أو الرضا بأية لمسة لا تحقق تأثيراً سريعاً وحاسماً في عين الرائي بمعنى انه يستهدف من عمله الفني ان يحدث تداعياته الفنية بعمق وتعبير وتحد. بهذا الأسلوب الفاعل استطاع ان يستحوذ على هذا المكان العالي شانه فنياً، بعمل واحد اعتبره النقاد والزوار تحفة نادرة تستحق التقييم والتقدير.
الأمر الآخر الذي أثار الشك والظنون هو أن لوحة كانت على ما يبدو ضمن مجموعة أعمال وصلت إلى هذا المتحف ضمن اتفاق عرضها وإعادتها من دون أي إشارة في أي منشور من منشورات هذا المعرض وهذا المتحف مما يشير إلى أن القائمين من الجانب العراقي على متابعة هذا الأمر إلى نهايته بإعادة اللوحة العراقية إلى مكانها الأصلي.
إن المتابعين لم يكونوا يملكون الدراية الكافية بتقدير الفنون العراقية وضرورة المحافظة على أصولها ورسومها ولوحاتها.
جبرا إبراهيم جبرا في كتابه عن جواد سليم ونصب الحرية كان قد أشار إلى هذا العمل إشارة خاطفة يعده من المفقودات.
لم يحقق أحد بعد صدور هذا الكتاب عن مصير اللوحة لان أحدا في الدولة العراقية أو من موظفي وزارة ثقافتها لا يدركون معنى خروج لوحة (في محفل الخليفة) من بلادهم لأنهم لا يملكون مهارة الحفاظ على الثروة الفنية العراقية مثلما لا يملكون ثقافة تؤهلهم لتقييم حقيقة المفقودات الفنية.
يا لخيبتنا في كل العصور لم نقدر تراثنا ولم نحافظ عليه حتى أننا أهملنا مخطوطتين لمقامات الحريري الأولى. مخطوطة شيفر المصورة من قبل الواسطي محفوظة في باريس والثانية مصورها مجهول وهي محفوظة في بطرسبرغ.
أي سحر هذا الذي كان يمتلكه جواد سليم في تطويع الخامة التي تعامل معها قادرا على منحنا جواً ساحراً أليفاً حتى لقد أخذتني ألوانه إلى أجواء بساتين النخيل في البصرة في صباح يوم شتائي مشمس يلفه الضباب الكثيف، كما يطلق عليه أهلنا هناك (المريخان)..
كم أتمنى وجود هذه اللوحة الآن في بغداد أمام ناظر الأجيال الفنية الجديدة ليروا فيها عجباً وغرابة وألواناً وتناظراً.. إنها قطعة فريدة مليئة بالطرب في جو موسيقي بغدادي وهي من بغداديات جواد سليم المستوحاة من ألف ليلة وليلة وأجواء بغداد الأثيرة على نفس الفنان فهو كما في جميع أعماله يذهب إلى استخدام الحلول الهندسية في ملء الفراغ.
أعمال جواد سليم الزيتية رغم قلتها تمثل انعطافة هامة في مسار الفن التشكيلي العراقي الحديث من حيث تميزها عن سائر أعمال الفنانين الآخرين من معاصريه. تمتاز أعماله بخصائص أهمها :
هندسية التكوين وبراعته.
رهافة حركة الخطوط وعفويتها .
الإحساس اللوني الساطع رغم قلة الألوان المستخدمة ومحلية الأشكال والشخوص.
الجو البغدادي الذي يسم كل عمل تناوله
بصورة عامة فأن أعماله جميعها قريبة إلى روح المتلقي العراقي وألوانه مؤثرة على المشاهد الأجنبي أيضاً.
انه يشعر كل مشاهد إلى لوحاته كأنه واقف أمام شيء عزيز يجب المحافظة عليه.
انه يمتلك القدرة الوافية في تحديد وتنظيم مساحة العمل ويشعر مشاهدي لوحاته أنهم أمام تحفة نادرة يجب الحفاظ عليها.
في غالب تاريخ الفنون التشكيلية العالمية كان أهم دافع للفنانين العالميين ارستقراطياً في أصوله غير أن جواد سليم على ما يبدو كان يرسم لوحاته بمفهوم الشرف الوطني.. كان يرسم ليس من اجل أن يخلق لوحة فنية حسب، بل كان يريد أن يعطي للزمن معناه الذي عاش فيه ، وما القلادة التي أهداها إلى بغداد إلا خير دليل على زمنية فرشاة جواد سليم ولوحاته.
أما نصب الحرية فهو أحسن وأجمل أداء في القدرة على تحويل الصمت العظيم إلى صوت أعظم.. نصب الحرية يظل شاهداً صامتاً ينطق زمنا يستمر متفوقا بنوره على لجج الزمان الظالم