مدارات

المناضلة سميرة علي حسن (أم لينا): تعلمت من الحزب العزيمة والثبات على المبادئ

أعد الحوار كوريا رياح، أحمد الغانم، سالم الحميد
التأريخ مليء بالشواهد على بشاعة ووحشية النظام السابق و ضباط التحقيق والجلادين في مديريات الأمن والاستخبارات والمعتقلات، والتي ناهزت 200 معتقلا رسميا في عهد صدام. هناك قصص مروية وبعضها عشناها وذقنا مرارتها ، ترى ما الذي جعل هؤلاء بمثل تلك القسوة والوحشية ..؟ اهو إيمانهم بأنهم على حق بما يفعلون؟ أم أنهم كانوا يمارسون خداعاً مع الذات بأن ما يفعلونه هو للحفاظ على الأمن والاستقرار؟ أم أنها ممارسات سادية يتلذذون بها من خلال تعذيب الغير، وأمراض سيكولوجية مثل عقد النقص والشعور بالدونية.
أم هي أوامر رئاسية كانوا مجبرين على إتباعها بعد أن صار التعذيب من ضمن الوصايا التي أمر بها صدام حسين "أوصي الأجهزة الأمنية بإلغاء الحدود لممارسات التعذيب مع أعداء الثورة دون إحراج أو خشية من مساءلة"*.
اسئلتي التي راحت تدور في أذهاننا ونحن نستمع إلى سرد أم لينا وهي تروي معاناتها في المعتقل مع زوجها الرفيق أبو لينا.
الرفيقة أم لينا (سميرة علي حسن) انتمت للحزب بداية السبعينات بعد ارتباطها برفيقها خلف الشرع (أبو لينا) وقبل ان يقدر لها أن تتحدى طواغيت البعث بإرادة نادرة وصمود بطولي، متحملة شتى أنواع التعذيب النفسي والجسدي من اجل الحفاظ على القيم النضالية المتأصلة...
الجلاد يمارس تعذيبه على ايقاع الأغاني
عن فترة اعتقالها تتحدث الرفيقة أم لينا
كنت صغيرة حين تعرفت على المبادئ الثورية للحزب الشيوعي العراقي، وكان أول نشاط لي هو تظاهرة قيام الجبهة بعدها انخرطت بالعمل الحزبي في الثورة والحرية. أثر ذلك، وأثر تنامي نشاط الحزب بين العمال والفلاحين والطلبة والمثقفين أدرك البعث أن بقاء الحزب الشيوعي يشكل خطرا مباشرا على بقائه وكنت أنا وأبو لينا ننشط في كثير من مجالات العمل الحزبي والجماهيري، فكنا مرصودين من قبل الأمن. وبعد الهجمة الشرسة على الحزب تمت ملاحقتي من قبل الأمن، وقد تنقلت هاربة من عيونهم إلى الناصرية وبعدها السماوة ومن ثم في كركوك. وهناك وبتاريخ 25 آذار 1980 تم اعتقالنا بعد أن داهموا بيتنا، وكانوا كالذئاب الضارية. جاءت قوة كبيرة من رجال الأمن أحاطوا بالبيت شاهرين أسلحتهم .. عبثوا بأثاث البيت وكانوا يبحثون عن اية مستمسكات يمكن الاستفادة منها لتكون دليل إدانة ضدنا، وأخذوا كل ما خف حمله من نقود و ألبومات صور.
وكان من جملة ما أخذوه كاسيتات لفيروز ونجاة الصغيرة وفائزة أحمد ..
كانوا يعذبوننا على إنغام تلك الكاسيتات حتى أن صراخنا يبدأ بالوهن و يتحول إلى آهات مكتومة بعد أن تنهك أجسادنا من كثرة الضرب، وكل أنواع التعذيب، وقد يغمى علينا بعد كل جولة. كنت أتمنى الموت على أن يستمر ذلك العذاب لأن الموت هو نهاية رحلة الألم .. نعم كنت متأكدة أنني سألقي حتفي أما في التعذيب أو على المشنقة .. وهذا ما أكده لي المحامي الذي أوكلت له قضايانا في السجن قال أن مادتكم إعدام، ترى ما الذي فعلتموه؟
.. شعرت بأن الدنيا أسودت بعيني، وأول ما تبادر إلي ذهني أولادي بكيت في داخلي وأنا أشعر بعتمة مصيرهم بعدي. لم أخف على نفسي كنت واثقة أن هذا هو مصير من يسير في هذا الطريق. كنت صلبة إلى حد أنني لم اكن أخاف جبروتهم وبطشهم .. لم أذق من الطعام المقدم لي شيئا، ثمة مذاق مر في لساني جعلني أنفر من الطعام .. قلت في داخلي إذا كنت سأعدم ترى ما فائدة الطعام، أخذت أجوب الغرفة المعتمة وانتابني قلق على زوجي وشقيقه، ترى ما ذا سيكون مصيرهما؟ صور كثيرة كنت أسترجعها في داخلي .. عشت هذا القلق حتى ساعة إطلاق سراحي. قبلها بساعات جاءوا لي ببرتقالة وبدت لي أنها غير طبيعية حيث أنها كانت منتفخة وممتلئة بالماء. أعطاني الشرطي إياها وطلب مني ان أكلها والغريب أنه لم يلح علي بأكلها، وهو يعلم أن هذه البرتقالة معدة لتصفيتي لا زال هذا السؤال يلح علي كلما تذكرت تلك الحادثة: ربما هي بقية ضمير لرجل الأمن هذا في لحظة لم تكن في الحسبان؟
أبو لينا كانوا قد وضعوا له (الثاليوم) ربما وهو مادة مسرطنة تساعد على انتشار الخلايا السرطانية) أو زئبق. بعد أن حضروا عليهم شرب الماء طيلة اليوم، جاءوه بلبن وطلبوا منه ان يشربه، شرب قليلا أيضا وهنا ايضا لم يلح الشرطي عليه لإكمال شرب العصير ..
قال لي ضابط التحقيق: "أنت راح تطلعين دير بالج على ولدج". ثم أضاف: ماذا تطلبين منا؟ قلت له أريد صوري وكاسيتات اخذتموها أثناء مداهمة البيت .. قال: بالنسبة للكاسيتات والصور إنسي أمرها.
كنت غير واثقة من صدق كلامهم بأني سأخرج، بل كنت أظن أن العملية مجرد تمويه. تثاقلت الساعات وأنا أنتظر مصيري: اهو الموت أم الإفراج عني. عند المغرب أمروا بشد عيوني وأخرجوني من المعتقل ووضعوني في سيارة ومعي ثلة من رجال الأمن لم أتبين عددهم ولكن كنت أشعر بوجودهم من خلال حديثهم، وأنا في السيارة سمعت أصوات مختلفة وحركة السيارات تأكدت إني في الشارع وسط المدينة، وكانت هناك رغبة تتنازعني لمعرفة المكان، لكن المسافة كانت قصيرة من مبنى الامن العامة الى ساحة التحرير. حين وصلنا رفعوا العصابة من على عيني فوجدت نفسي في الباب الشرقي. كم كانت فرحتي كبيرة حين رأيت أبو لينا. أحسست أنني ولدت من جديد. كنت أتطلع إلى وجوه الناس وكأني أتيت من عالم آخر. لم أر شقيق زوجي، أثار ذلك قلقي لكن فرحة النجاة أنستنا الكثير من الآلام والمخاوف.
لم تدم فرحة الخروج، فقد كان هناك مخطط معد مسبقا لتصفيتنا بشكل غير مباشر.
فما أن خرجنا حتى واجهنا موتا أرادوا أن يسقوه لنا دون أن نعرف، وبعد ثلاثة أيام حدثت المفاجئة، حيث أن أبو لينا ساءت صحته وبدأ يشعر بآلام غير طبيعية.. وبدأ شعره بالتساقط وبدأ هو يعزف عن الأكل، وانخفض وزنه بشكل ملحوظ، وحدث له أمساك شديد مع آلام في المعدة.
بدأت رحلة المراجعات إلى الأطباء الذين لم يعرفوا علته .. ذهبنا إلى الدكتور سالم سفر باعتباره سبق وأن اعتقل وأن له خبرة بمثل هذا المرض والذي لم يشخص من قبل الكثير من الأطباء، فقال ليس هناك ما يخيف أو يستدعي القلق .. لم تنفع الأدوية مما اضطرنا إلى جعله يرقد في المستشفى حينها سقط كل شعره حتى يئسنا من شفائه.
لكن ثمة أملاً لاح في الأفق بعد سلسلة من المراجعات دون جدوى، حين شخص الدكتور خالد ناجي حالته، فقد طلب منا تحليلا وبعدها عرف أنه كان قد أعطي جرعة من مادة كيماوية. قال الدكتور إن عامل الزمن مهم و أذا لم يحدث تحسن في صحته خلال خمسة عشر يوم فأن شفاءه مستحيل، أعطانا حبوباً تحد من انتشار المرض ..وكل يوم يمر كان يقربنا من الأمل مرة، ويجعلنا أكثر قلقا من جهة أخرى، لأن فترة الخمسة عشر يوما هي الفاصل. ولحسن الحظ تحسنت صحة أبو لينا بعدها وعاد بالتدريج إلى حالته الطبيعية. لكن تلك الحالة أثرت على مزاجه ونفسيته علما أن كل الرفاق الذين تناولوا هذه المادة قد ماتوا وكان من ضمنهم أبو ضحى.

كيف كان يجري التحقيق معكم ؟

كنت أعتقد أن أولئك الذين يحققون معنا ضباع بأجساد بشر لا رحمة في قلوبهم ولا إنسانية، تجردوا من كل القيم، طلبوا مني الاعتراف على بنت اسمها سميرة، قلت لهم أنا أسمي سميرة قال هناك واحده أخرى بنفس الاسم. ولكي يجبروني على الاعتراف مارسوا أنواع التعذيب معي.
وربما ما كنت أسمعه وأنا في سجني من أصوات الرفاق المعذبين وأصوات الجلادين قد أنساني صوت زوجي كان يصرخ بأعلى صوته نتيجة التعذيب الذي لا يحتمل، وكنت أظن أنه لشخص آخر. هذه الحقيقة أكدها أبولينا.
ومن الذكريات التي لا زالت عالقة في ذهني انني حين كنت في سجني الانفرادي كنت اسمع صوت طفلة تبكي طوال الليل بصوت يرق له قلب المصنوع من صخر. وكنت أسمع صوت المحقق يقول لها أنت شلون نقلتي الجريدة وأرسلتيها لفلان.." لكن لا جواب لها غير البكاء ..
لم تنقطع مضايقات الأمن لا قبل اعتقالي ولا بعده
وبسبب تلك المضايقات انتقلت إلى البصرة ومن ثم للناصرية وثم كان استقراري في كركوك، بقينا مستهدفين ومتابعين من قبلهم، ضيقوا علينا الخناق ظلوا يحصون علينا أنفاسنا.. حتى لا يكاد يوم يمر دون أن يأتوا للاستفسار والتحقيق معنا. وكان سؤالهم الروتيني: أين خلف شرهان؟ حتى فاض الكيل بي مرة وقلت لهم وأنا أصرخ رغبة في إسماع صوتي للجيران: ((عيب عليكم وآني مرة وزوجي عسكري، وكل يوم تأتون لتعيدوا نفس السؤال)) تداركوا الأمر وعادوا من حيث أتوا .. وانقطعوا عنا فتره من الزمان.
حتى بعد الاعتقال اعتقدت أنهم تركونا بحالنا، لكن الأمر لم يكن مثلما ظننت، حتى جاءوا بصيغة جديدة من أساليبهم القذرة والرخيصة. استدعوني إلى مديرية الأمن، وقال المأمور بتبليغي عليك ألا تخبري زوجك عن هذا الاستدعاء. لم أقل شيء ووافقت على طلبه سوى إني أدركت أنهم سوف لن يتركونا بحالنا .. قادتني خطاي إلى مديرية الأمن وكان الكثير من الهواجس ينتابتني، وكنت على يقين أن ما سأعانيه من عذاب قد لا يكون أشد وطأة مما عانيت في اعتقالي السابق . وكان معي ولدي بسيم وعمره 12 سنه.
كان رجال الأمن يقفون في باب المديرية وعيونهم تكاد أن تلتهمني. وأنا أدخل إلى المديرية قال الضابط متهكما: أهلا بالمناضلة، ترى كم من الأيام تم توقيفك؟ قلت له: لا لم أوقف، كان مجرد اشتباه وخرجنا. أضاف يعني أنت ما تعملين ضد الحزب؟ قلت له لا طبعا. ثم قال: جيد، الآن الحزب يريد منك طلبا فقلت متهكمة: أتبرع بالدم قال لا، بل أن تعملي لحسابنا، يعني نريدك أن تكونين في الأمن. فأجبته إجابة كانت مفاجئة له ربما لم يتوقع أن يرد عليه أحدا بهذه الجرأة قلت (أن أخلاقي لا تسمح لي أن أتجسس على العالم. فقال بعصبية: يعني أحنا بلا أخلاق. قلت له لا لكن كل له طبعه ولما ألح حسمت الموضوع قائلة: لو نصبتم مشنقة لي على باب المديرية على أن أعمل مثل هذا العمل لقلت لك أفضل المشنقة. لم أدرك سر القوة التي تملكتني حينها. قال نحن نخصص لك عائلة تراقبيها فقط تخبرينا عن تحركاتهم. قلت له مستحيل، أنا لا أقدر على ذلك. زم شفتيه ثم قال: أذهبي إلى بيتك الآن. وقبل خروجي قلت له أنظر من النافذة، قال ماذا؟ قلت له: الواقف هناك هو زوجي خلف، وأنا أخبرته بكل شيء. أنت طلبت مني ألا أخبره لكن أنا وفية لزوجي لذا لا أستطيع الخروج من البيت إلا وأخبره.
في الختام قالت لنا الرفيقة ام لينا:
أنا أكسبني الحزب قوة كبيرة أحسد نفسي عليها، ومنحتني فترة السجن القدرة على الصبر والصمود لم أكن امتلكهما سابقا .. ازددت إيمانا بقضيتي وأصبح لدي يقين أن دولة الخوف والرعب زائلة .. مهما امتد بها الزمان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* "كراس وصايا صدام حسين إلى الأجهزة الأمنية".