مدارات

مناضل من ذلك الزمان.. عمره عمر الحزب وذكرياته حافلة / حاوره : محمد الكحط

أحتفل الرفيق نوري عثمان قبل بضعة أشهر بعيد ميلاده الثمانين، سابقا عمر الحزب بقليل. وهو من الرفاق المناضلين الذين يعملون في الظل كجنود مجهولين. أمتاز بصموده وتحمله المهام الصعبة، وقد قضى سنوات طويلة وعائلته في ظروف ٍ صعبة للغاية. أعتقله المجرم ناظم كزار، ونال ما نال من صنوف التعذيب في أقبية الحكام المجرمين. استشهدت والدته وأستشهد أبنه كاميران في ظروف مؤلمة جراء المعاناة من جور الدكتاتورية.
ولد الرفيق أبو شيرزاد في كركوك سنة 1933 لعائلة متوسطة الحال، وأنهى فيها دراسته الابتدائية والمتوسطة والإعدادية، ومن ثم أنهى الدراسة في معهد المعلمين سنة 1959 في كركوك نفسها، ليصبح معلما. عمل في وقت مبكر في مديرية البيطرة في كركوك سنة (1954)، وتعرف على أفكار الحزب الشيوعي في المرحلة المتوسطة، وتربى على حب الآخرين ومساعدتهم. شارك وهو في السادس الابتدائي في تظاهرات 1948و 1949 ضد الحكم الملكي وحكومتي صالح جبر ونوري السعيد، ويتذكر أنهم كانوا يهتفون (نوري سعيد... وصالح جبر قيطانه).
عند تأسيس أتحاد الشبيبة الديمقراطية العراقي، كان من مؤسسيه في كركوك ومن ثم سكرتيره، وأنتظم في صفوف الحزب بعد ثورة 14 تموز 1958. واعتقل سنة 1959 ابان أحداث كركوك، لنشاطه الواضح في صفوف الشبيبة، ونقل مع آخرين إلى سجن بعقوبة. وبعد أسابيع نقلوه من هناك إلى غرفة انفرادية مدعين أنه يتصل بالحزب خارج السجن، وحكم عليه بالسجن 3 سنوات، وسجن في العمارة. وهناك أصبح عضو لجنة تنظيم السجن ومسؤول النشاطات الفنية.
أكمل المحكومية سنة 1961 وعاد إلى كركوك، لكن كانت هناك مشاكل جديدة منها قيام (الطورانيين) بأيذاء المناضلين السياسيين، فأنتقل إلى بغداد، ليعمل مع التنظيم المركزي، وكان مسؤول التنظيم في حينه الرفيق حسين عوينه. وطلب منه عدم ممارسة نشاطات سياسية لكي يبقى غير معروف، وليكون حلقة حزبية بين الرفاق وقيادة الحزب. وكان يعمل في مطعم للمأكولات الشعبية.
ويستذكر قائلا: «بعد انقلاب شباط الأسود 1963 جرت اعتقالات في منطقة باب الشيخ، فذهبت إلى السليمانية وكتبت رسالة إلى قيادة الحزب في الإقليم. بعدها جاء القرار بأن أعود فورا إلى بغداد من أجل إعادة الاتصالات. وجاء رفيق من التنظيم المركزي فتقابلنا، ومن ثم جاء شخص آخر طلب أن نخرج لأمر ضروري، وكان هذا الشخص هو المجرم ناظم كزار، فكانت عملية اعتقال. أركبونا سيارة بباب واحدة، ففهمت بأن هناك رفاقاً قد أعترفوا عليّ. سألت الرفيق هل نحن معتقلون..؟ قال لي لا، وبعد لحظات ترجل ناظم كزار من السيارة، فطلبت من السائق أن أشتري سكائر، فرفض فعرفت بأنني معتقل. استثمرت الفرصة وفتحت باب السيارة وهرولت. كنا في الشورجة فتوجهت الى شارع الشيخ عمر ودخلت أحد الأزقة وهم ورائي يصيحون (ألزموه، الزموه) وأنا أصيح كذلك. لكن السائق استطاع اللحاق بيّ، وجاء ناظم كزار وضربني طلقة في فخذي، وهو يقول أقتلك، وضربني بالأخمص على رأسي، وقال (لا أقتلك لأن عندنا معك شغل)، غطوا عيوني وأخذوني بالسيارة، ومن ثم أخذوني الى قصر النهاية. قدمني ناظم كزار للجلادين قائلا لهم، (جيتكم بضيف دارو زين)!
أدخلوني غرفة وجدت فيها رفيقا مسيحيا من كركوك ملقى على الأرض جراء التعذيب وهو الرفيق الشهيد جمال ماربين. سألته فقال لي كل المعلومات الحزبية معروفة لديهم، واضاف ((أنهم يريدون أن يأخذوني الى كركوك لاعتقال الرفاق، وهذا الشيء لا يمكن أن أفعله)). بعد فترة صعدوا على بطنه بأحذيتهم، فأغميّ عليه وضربوه حتى أستشهد.
أخذوني إلى غرفة أخرى علقت على أحد جدرانها لوحة مكتوب فيها أسم السكرتير سلام عادل وأعضاء اللجنة المركزية للحزب وأسماء لجنة التنظيم المركزية، فأشروا وقالوا لي هذا أسمك الحزبي، ثم أرجعوني إلى نفس الغرفة.
أصعدوني على كرسي وربطوني بالمروحة ، وبدأوا بالضرب بالكابلات وضربوني على عيني. طلبوا معرفة بمن اتصلت عندما سافرت إلى السليمانية، وقالوا نريدك أن تأخذنا إلى بهاء الدين نوري. قلت لهم أنني لم أتصل بأحد ولا أعرف بهاء الدين نوري. أستمر التعذيب ثلاثة أيام، ونزف الجرح وتورم وصار عندي ما يشبه الشلل جراء التعذيب. قلت لهم لو أعرف بهاء نوري لأخذتكم وأرتحت.. بقينا هناك حتى حزيران 1963. أتوا ببعض المعتقلين من قياديي الحزب الديمقراطي الكردستاني، إلى قصر النهاية، وأخرجونا إلى ملعب الإدارة المحلية في المنصور، ووضعونا بالمنزع، صار لدينا بعض الحرية للاتصال بالأهل فجاءوا لمواجهتي. بعدها كتبت أم شيرزاد عدة عرائض للحاكم العسكري، وبعد الإلحاح تم اطلاق سراحنا بكفالة. ومن المفارقات أنني بعد إطلاق سراحي اتصلت بالرفاق وأخبرتهم عن الاعتقال وما جرى وما شاهدته، لكنهم قرروا سحب عضويتي، الا اني لم أتذمر وترشحت من جديد وأخذت العضوية سنة 1964.
عدت إلى الوظيفة سنة 1968 في بغداد ثم تم نقلي إلى السليمانية أواخر 1971. وأتصلت بالرفاق هناك وكلفت بمهمة مسؤول خلية. وبعد وصول ترحيلي أصبحت عضو محلية السليمانية، ومن ثم عضو مكتب السليمانية حتى 1979.
سافرت إلى موسكو مع 20 رفيقا في دورة حزبية مع أبو آسوس لمدة شهرين، بعد أنتهائها طلبت من الرفاق أن أدخل دورة حزبية لمدة سنتين، لكن لم أتلق جوابا، وعرفت ان الأوضاع في العراق بدأت تسوء. خلال ظروف الجبهة وأستشهاد فكرت جاويد طلبوا مني ان أكون عضو لجنة الجبهة مع شيخ سعيد فرفضت ذلك وأخبرتهم بأنني لا أستطيع العمل مع البعثيين، فكلف عوضا عني ملا علي. بعد فترة بدأت الاعتقالات وجاءت التوجيهات بتقليص التواجد في المقر لكن صدر قرار بأن أبقى أنا ومام قادر نتناوب على التواجد في المقر كي لا يعتبرونا منسحبين، لكن تم اعتقالي من الدائرة، وعلمت أنه تم الاعتراف عليّ كوني في المحلية. لكنني أخبرتهم بأنني تركت السياسة والحزب منذ زمان، فأمروني بالجلوس في البيت وترك النشاط السياسي. فخرجت وأخبرت الرفاق، كانت زوجة أخي معي في الدائرة وهنالك رفيق من كركوك مختف في منزلي، فأخبرت الرفاق بضرورة تركه المنزل كي لا يعتقل، فتم توفير مكان آخر له.
بقيت في اتصال خيطي مع الرفيق أبو علي (عزت فرخه)، حتى 1988، لكننا كنا نتجنب اللقاء، وفي سنة 1988 أخبرني أبو علي بضرورة الهروب إلى أربيل ومن ثم إلى الجبال مع أخي عرفان والعوائل. ذهبنا إلى أربيل في بيت حزبي مع العوائل ووالدتنا وعائلة أبو علي أيضا، كل على حدة، وفي أول ليلة غادرنا المنزل علمنا أن رجال الأمن جاءوا لاعتقالنا، فكسروا الأبواب لكنهم لم يجدوا أحدا. علما أن أحد رجال الأمن يسكن أمام منزلنا ويراقبنا ليلا ونهارا، وأستغرب مغادرتنا دون علمه، بقينا في أربيل حتى عيد نوروز، كان المطر شديداً، سافرنا خارج أربيل بأتجاه (آشكوتي)، وبقينا هناك مدة، وكانت قوات الجيش العراقي تتقدم، فطلب الرفاق منا أن نبتعد أكثر فقلت لهم نقاتل مثلكم، فقالوا لا، اصحاب العوائل عليهم أخذ عوائلهم والابتعاد والصعود. هيأوا لنا أوراقاً وأجرنا بغالا وصعدنا جميعا عدا والدتي التي بقيت مع عائلة أبو علي. ذهبنا إلى (رزكه)، حيث مقر قاطع رفاقنا، وهناك الرفيق مسؤول القاطع (سليمه سور)، مررنا بعدة مقرات، وسأل أخي عرفان الرعاة عن بعض المقرات التي كان يعمل فيها، فأخبروه بأنهم تركوا المكان. كانت هناك خيمة لمقر الاتحاد الوطني الديمقراطي فيها عوائل من حلبجة، يسألون عن مصير ابنائهم. كانت الخيمة مزدحمة، وعرفنا ان رفاقنا يأتون كل يوم ويأخذون مؤونة ويصعدون. فصعدنا معهم، ولكن الرفاق هنا أيضا قالوا عليكم المغادرة مع العوائل ونرسل معكم دليلا ليوصلكم إلى (دولا كوكا)، على الحدود الإيرانية. الدليل كان أخو زوجة عرفان، وواجهنا صعوبات الثلوج وفقدنا الاتجاه مرارا حتى وصلنا بعد أن أنهكنا التعب. بعدها وصلت والدتي مع عائلة أبو علي مع رفاق من قاطع السليمانية. كانت والدتي مربوطة على البغل بالحبال كي لا تسقط، لكنها وبسبب طول المسافة ووعورة الطريق أنسلخ جلدها وتورم. وبعد أيام استشهدت ودفناها هناك على الحدود. وبعد شهر من استشهادها، أستشهد أبني كاميران بسبب عدم اليقظة والحذر خلال نقل وإزالة قنابل فارغة، فدفن جنب جدته وكأن القدر أراد أن لا تبقى وحيدة في ذلك المكان الموحش. تحركنا بعد فترة إلى الحدود إلى (جويزية)، بقينا فترة هناك، وأثناء ذلك أنفجر لغم تحت رجل ابني البيشمركة سركوت المعروف بالرفيق (درسيم)، فانقطعت رجله اليسرى من القدم حتى الركبة. بعد ذلك قرر الرفاق إرسال أبنتي النصيرة روناك إلى موسكو للدراسة، وكنا نحن قد وصلنا إلى (بانه)، ومنها الى (سقز).
بقينا هناك سنتين، بعدها سافرنا إلى موسكو، حيث كانت روناك وشيرزاد وسركوت يدرسون هناك. بعد بضعة أشهر توجهنا إلى السويد، وحصلنا على اللجوء السياسي. رفيقة دربه السيدة خيرية أم شيرزاد، والتي تحملت معه كل تلك المصاعب والمعاناة، كانت له عوناً في تنفيذ مهامه. لم تكن منتظمة في الحزب لكنها أدت العديد من المهام الحزبية السرية، وكم مرة نقلت البريد بين بغداد وأربيل، وكم مرة حافظت على البيوت الحزبية. لقد تحملت البقاء وحدها مع الأطفال عندما أعتقل أبو شيرزاد، وكانت تبحث عنه في السجون، وهي خائفة من طرق باب المنزل، كما أضطر الأبناء الى ترك الدراسة مرارا.
في سنة 1963 عندما أعتقل أخوه الشهيد نجم الدين (أستشهد بعد عودته من الدراسة في بلغاريا على أيدي زمرة عيسى سوار سنة 1973)، من قبل الحرس القومي في بغداد، كانت أم شيرزاد تخرج كل يوم صباحا لتبحث عنه في المعتقلات، إلى أن تم اطلاق سراحه.
في مناسبة العيد الثمانين للحزب قال لنا الرفيق نوري عثمان: «عند دخولي الحزب كنت أحد الكادحين وأتعاطف مع المظلومين كي ينالوا حقوقهم، ناضلت بكل إمكانياتي، واليوم أنا فخور بالحزب وبانتمائي له ولأفكاره، كما افخر بمكانته في المجتمع العراقي. لكن مع الأسف بعد التغيير لم تسر الأمور كما نريد، فقد ناضلنا من أجل وطن حر وشعب سعيد، ولكن اليوم نأمل أن يرى أحفادنا هذا الهدف وقد تحقق. اقول عاش الحزب، عاشت الذكرى الثمانون لميلاد الحزب الشيوعي العراقي».