مدارات

رئيس تحرير "الثقافة الجديدة" د. صالح ياسر: المجلة مشروع تنويري حداثي يروج لفكر علمي وثقافة تقدمية / حاوره: محمد الكحط

منذ صدور العدد الأول من مجلة الثقافة الجديدة في تشرين الثاني 1953، كمجلة ثقافية، مثل هذا الصدور نقلة نوعية متميزة بين المجلات والصحف التي كانت تصدر آنذاك، وكانت منذ البداية مكتملة في شروطها الفنية والإبداعية. فقد طبعت بحجم كتاب وبلغت صفحات العدد الأول 116 صفحة، والثاني 126 صفحة، ووصل عدد صفحاتها 170 صفحة، مما يعني أنها أصبحت من أكبر المجلات حجما ومضمونا ورصانة، وكان صاحب امتيازها (مهدي الرحيم)، ومديرها المسؤول (خالد طه)، أما هيئة التحرير فكانت لجنة تقوم بذلك، وبتوجيه مباشر من قيادة الحزب الشيوعي العراقي، وأشرف على إصدارها الدكتور صفاء الحافظ والدكتور صلاح خالص الذي كان يشرف على القسم الأدبي ويساعده عبد الوهاب البياتي، وعرفت نفسها بهويتها منذ العدد الأول كونها ((مجلة تقدمية تؤمن بوجود أفكار رجعية تحاول منع المجتمع وعرقلة سيره، فتحارب هذه الأفكار معتمدة على دروس التاريخ القيمة وعلى التفكير العلمي الصحيح...)).
وأهتمت بشكل خاص بالثقافة العامة والثقافة الفكرية، وأحتل الأدب حيزاً متميزا فيها ، فوجدت فيها أهم الأقلام الأدبية آنذاك ضالتها، ومن المبدعين الذين نشروا نتاجهم فيها، محمود صبري، بدر شاكر السياب، عبد الوهاب البياتي، كاظم السماوي، كوران، ديلان، شاكر خصباك، عبد الملك نوري، غائب طعمة فرمان، نهاد التكرلي، الشيخ محمد رضا الشبيبي، عطا صبري، يوسف العاني، نوري الراوي، وليد صفوت وعشرات غيرهم من المبدعين.
كذلك تم نشر ترجمة إبداعات إنسانية عالمية الى اللغة العربية منها، لـ أراغون، والبلغاري كريستو بوتيف، والأمريكي أدون ماركهام، والفرنسي بول ايلوار، والاسباني بابلو نيرودا، أنطوان تشيخوف...وعشرات غيرهم.
بالاضافة الى تقارير النشاطات الثقافية المنوعة من العراق والدول العربية والعالمية.
ولكونها مجلة فكرية بالأساس فكانت تنشر الفكر العلمي والماركسي بالذات، من خلال طروحات أفكار الاشتراكية والواقعية، وأستمرت الى اليوم تساهم في الصراع الفكري ونشر ما يعمق الوعي بالأفكار التنويرية والتقدمية.
وعلى هذا الطريق تعرضت الى المضايقات والغلق والتوقف عن الصدور عدة مرات، وواجه محرروها الاعتقالات والمطاردات والتضييق والتعذيب وحتى التصفيات الجسدية.
وفي مناسبة الذكرى الثانية والثمانين لتأسيس الصحافة الشيوعية العراقية كان هذا الحوار مع رئيس تحريرها الرفيق د. صالح ياسر عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي:
ماذا عن بدايات صدور المجلة؟
كما هو معروف، في تشرين الثاني 1953 صدر العدد الاول من مجلة (الثقافة الجديدة) يتصدرها شعارها التنويري العتيد: فكر علمي... ثقافة تقدمية !. وفي هذا العام، 2017، وحيث تحل الذكرى السنوية لعيد الصحافة الشيوعية، ذكرى صدور أول عدد من جريدة "كفاح الشعب" في نهاية تموز 1935، تحل أيضا الذكرى الرابعة والستون لتأسيس المجلة مؤكدة انها نحتت خلال العقود الستة ونيف موقعها كمنبر متميز بين منابر التنوير والثقافة الوطنية والديمقراطية في بلادنا. واليوم ونحن نستعيد هذه الذكرى المجيدة لا لنتأمل فيها باعتبارها جزءاً من ماض طواه الزمن بل لنستخلص منها الدروس والعبر لمواجهة تحديات الراهن والمستقبل. إن دروس التاريخ جديرة بالتأمل على الدوام فلا يجوز التفريط بها.

لم تكن (الثقافة الجديدة) مجرد حلم راود مجموعة من المثقفين الرواد الذين بادروا الى تأسيسها، بل كانت تتويجا لجهود حثيثة ومثابِرة حوّلت الأمر من مجرد حلم الى فعل ثقافي – فكري - سياسي نشيط. وبفضل جدّية المعنيين بصدورها آنذاك ومسعاهم الثابت الى أن تتحول المجلة الى مطبوع جديد يقدم بحق فكرا علميا وثقافة تقدمية، سعت (الثقافة الجديدة) الى تجسيد الفكرة والحلم عبر ممارسة الصراع الفكري والثقافي من خلال نقد الواقع السائد، وتفكيك خطابات القوى المسيطرة، ونشر الثقافة الوطنية والديمقراطية مستقطبة قطاعات واسعة من النخب الثقافية والباحثين الجادين. وقد ارتبط ظهورها ايضا بالأجواء السائدة آنذاك في بلادنا وفي المنطقة والعالم بعد النتائج التي ترتبت على الحرب العالمية الثانية والنهوض العاصف لقوى الديمقراطية والاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية والسلام والاشتراكية. وقد ساهم ذلك كله في بلورة فكرة هذا المنبر الجديد، وتحولها الى واقع ملموس لتكون (الثقافة الجديدة) ليس رقما عاديا من أرقام الاعلام والصحافة بل مطبوعا يبشر بجديد نوعي في الفكر والثقافة ويؤسس لنقد الواقع بمختلف بُناه، ويساعد في اعادة بناء الوعي الاجتماعي.
أشرتم الى ان المجلة صارت مطبوعا يبشر بجديد نوعي في الفكر والثقافة.. وسلك هذا المطبوع طريقا لإعادة بناء الوعي الاجتماعي ..ماهي التحديات التي واجهتها؟
لم يكن الطريق سهلا قطعا.. بل كان صعبا ومحفوفا بمخاطر وتحديات شتى.. وهذا هو طريق الجديد الناهض المتحدي والمتوثب لتكسير اصنام الوثوقية والمسلمات الجاهزة والأجوبة المعلبة "الصالحة" لكل زمان ومكان. وكان المؤسسون الاوائل للمجلة على وعي تام بصعوبة ومشقة المهمة التي اتجهت (الثقافة الجديدة) نحوها في خمسينات القرن العشرين العاصفة وبحاجتها الى المثابرة والنفس الطويل. وعلى هذا الطريق رأت المجلة، منذ عددها الأول، أنه لن يكون هناك أي مبرر لوجودها إلا في انخراطها النشيط في بلورة مشروع ثقافي- سياسي نوعي يختلف عن السائد، واستشراف المستقبل عبر الرهان والترويج لبديل وطني ديمقراطي وبناء دولة عصرية، وتحفيز النخب الثقافية وقطاعات المجتمع المتنورة للمساهمة في تحقيق هذا المشروع والدفاع عنه، والمساهمة النشيطة في تأسيس خطاب ثقافي –اقتصادي - سياسي تنويري ديمقراطي عقلاني، وإعادة صياغة المفاهيم والكشف عن الظواهر والعمليات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.. الخ وما يرافقها من تناقضات وما يترتب عليها من استقطاب وتهميش وتركز للثروة والسلطة والنفوذ.
خلال أعوامها الأربعة والستين أرادت مجلة (الثقافة الجديدة)، باعتبارها ترجمة جادة لإرادة جماعية، أن تكون منبرا يرفض أية حواجز على الفكر وتنميط الواقع بمقاسات مصممة على وفق ما يريده الحكام والقوى المسيطرة. ولذا فقد اختارت طريق الكتابة والبحث العميق والمتنوع في قضايا الفكر والواقع العراقي وبناه الاقتصادية-السياسية وتراكيبه الطبقية وإشكالياته الثقافية ودور نخبه الثقافية في التغيير المطلوب. وفي معالجاتها لهذه القضايا خاضت (الثقافة الجديدة) معارك فكرية متعددة الصُعد وسعت الى وضع قضية التغيير والديمقراطية والتنوير والحداثة في صلب الهمّ الثقافي جاعلة منها مفاهيم جاذبة وليس أساطير عصية على الفهم.
ساهمت اسماء عراقية مرموقة ومتنوعة الاختصاصات في اغناء صفحاتها، حدثنا عنها.
يحق لـ (الثقافة الجديدة) ان تفتخر بان صفحاتها وخلال اعدادها المختلفة، طيلة سنواتها الاربع والستين، احتضنت أكبر الأسماء العراقية (مع حفظ الألقاب) في مختلف الاجناس الابداعية الفنية والسياسية والاقتصادية: صفاء الحافظ ، صلاح خالص، ابراهيم كبة، محمد سلمان حسن، فيصل السامر، محمود صبري، عبد الملك نوري، بدر شاكر السياب، عبد الوهاب البياتي، عامر عبد الله، كاظم السماوي، كوران، ديلان، شاكر خصباك، عبد الملك نوري، غائب طعمة فرمان، نهاد التكرلي، الشيخ محمد رضا الشبيبي، عطا صبري، يوسف العاني، نوري الراوي، وليد صفوت واسماعيل الشيخلي، وصالح جواد الطعمة، وعبد الله البستاني، و خالد الشواف، و نزيهة الدليمي، وذنون أيوب، وسعاد محمد خضر، وفائق بيكه س، ومحمد كريم فتح الله، وصاحب حداد، وعبد الرزاق الصافي، وخالد السلام، صباح الدرة، وكاظم حبيب، ونمير العاني، وشمران الياسري (ابو كاطع)، والفريد سمعان، وكريم كاصد، وزهير الجزائري وفالح عبد الجبار وعصام الخفاجي، هذا الى جانب عدد كبير من الأدباء والشعراء وكتاب القصة والروائيين والفنانين التشكيلين والمسرحيين والسينمائيين، إضافة إلى الفلاسفة والمؤرخين والاقتصاديين وعلماء الاجتماع وعشرات بل مئات غيرهم من المبدعين. كما ونجد أسماء: اندريه موروا، و أراغون، و أنطون تشيخوف، وأميل زولا، وبيرل باك، البير كامو ، هنري ماتيس، فيكتور هيغو، هربرت سبينسر... الخ.
وبهذا الإطار اصبحت (الثقافة الجديدة) بتفاني روادها الأوائل وكتابها ومحرريها وجمهورها رافدا فكريا تقدميا فاعلا في تطوير الثقافة الوطنية الديمقراطية العراقية وذلك من خلال احتضانها ورعايتها ونشرها للإنتاج الفكري والإبداعي في بلادنا، وواصلت ذلك النهج طيلة اعوامها الأربع والستين رغم ما تعرضت له من ضغوط ومنع وعراقيل جمة، من بينها اضطرارها الى أن تصدر خارج الوطن لما يقارب العقدين والنصف، بسبب ما تعرضت له القوى الديمقراطية والحزب الشيوعي العراقي من ارهاب وقمع في حقبة النظام الدكتاتوري المقبور.
وبفضل جهود الرواد الاوائل (والمبادرة لإصدارها كانت لفقيدي الثقافة الوطنية الديمقراطية: الدكتورصلاح خالص والشهيد الدكتور صفاء الحافظ، اللذين كانا قد عادا الى الوطن بعد اكمال دراستهما الاكاديمية في فرنسا)، ممن حملوا الفكرة وحولوها الى واقع، وهيئات التحرير التي واصلت العمل خلال الفترة الماضية وبدعم قطاعات واسعة من المجتمع ونخبه الثقافية تحول اسم المجلة الى واقع مؤسس لا يسعى الى تمجيد الفكرة والحلم بقدر ما كان يعمل على بلورة أسس التغيير المطلوب ممثلا في شكل حركة فكرية تلتف حول المجلة، تعتمد التحليل والنقد وتجاوز الواقع وتطوير الخطاب بمراجعة مفاهيمه وتصوراته وآلياته. ومن المؤكد ان مجلة (الثقافة الجديدة)، كانت على الدوام ولا تزال، وستبقى أيضا، لا ترى مبررا لوجودها إلا في انخراطها النشيط في مشروع الكشف عن الواقع وتناقضاته الفعلية وطرح البديل لتجاوز هذا الواقع واستشراف المستقبل ولا ترى أي تعارض بينهما.
إنها مهمة تنويرية ولا شك. ومهمة من هذا الحجم تستدعي مواكبة نقدية لكل القنوات المختلفة التي تصب في اتجاه تواصلها. فما نشرته المجلة وتنشره من كتابات وحوارات ومحاور وملفات تشكل جزءا مكونا لشخصيتها باعتبارها تسعى الى ان تكون صعيدا مشتركا للحوار والنقاش المفتوح، ومنبرا لمقاربات ثرية وحية، لتكون بحق وفية لشعارها العتيد: فكر علمي.. ثقافة تقدمية. ولكي تواصل المجلة هذا الطريق كان عليها ان تسلك سبيل التقييم النقدي الذي لا يهادن الاجترار وإعادة انتاج "المسلمات" في الخطاب التقليدي، مصرة على ان تكون اداة فكرية فاعلة في معارك التنوير والحداثة والديمقراطية. وكان لها ذلك رغم كل الصعاب.
ما الذي يميز مجلة " الثقافة الجديدة" طيلة حوالي سبعة عقود من عمرها؟
إن ما يميز مجلة (الثقافة الجديدة)، هو مواصلتها الصدور عبر اربعة وستين عاما من عمرها المديد، متحدية الصعوبات والعراقيل الكثيرة. صحيح انه حصل انقطاع عندما عطلت السلطة الملكية الرجعية (الثقافة الجديدة) بعد صدور عددها الرابع وظل حبيساً من عام 1954 إلى أن تم الافراج عنه – أســـوة بسجناء الرأي – بعد انبثاق ثورة 14 تموز الوطنية 1958. وتكرر الأمر بعد انقلاب شباط الاسود في 1963، ولاحقا القمع والملاحقة التي تعرضت لها القوى الديمقراطية في اواخر السبعينات من القرن العشرين. ولكن المجلة واصلت التحدي وهذا بفضل تضحيات وإصرار ومثابرة العاملين فيها على تأمين صدورها وتطويرها محتوى وإخراجاً، اضافة الى الدعم المتواصل من قرائها ومن طيف واسع من السياسيين، والأكاديميين ومنتجي الثقافة ونخبها عموما، من الذين الذين واصلوا دون كلل مد المجلة بأبحاثهم ودراساتهم وملاحظاتهم بهدف المساهمة في ارساء الأسس الثقافية والفكرية التنويرية في المجتمع العراقي.
وأضافة لذلك نود الاشارة هنا الى اننا واحتفاء بهذه المناسبة العزيزة، نجد من الضروري التعبير عن اعتزازنا بما أنجز خلال اربعة وستين عاما، وننتهز الفرصة هنا للإشادة بدور هيئات التحرير المتعاقبة ورؤساء تحرير المجلة وكوادرها ممن واصلوا المسيرة وعملوا بكل جد وإصرار على أن تبقى راية المجلة مشرعة. فبعد كل انكسار في الوضع السياسي كانت المجلة تعود تشحذ الهمم وتمارس دورها التنويري مجددا. وبهذه المناسبة الجليلة، نستذكر أيضا اولئك المؤسسين الاوائل ممن وضعوا اللبنات الاولى والاسمنت المسلح لهذا الصرح الكبير والى أولئك الذين واصلوا هذه المسيرة بعد الرواد الاوئل ونقول لهؤلاء جميعا: بوركت جهودكم.. انها كانت ولا تزال وستبقى المعين الذي لا ينضب الذي يمنحنا الطاقة على مواصلة ما بذله الجميع من عطاء كبير طيلة ما يقارب الستة عقود ونصف لتبقى (الثقافة الجديدة) منبرا عاليا للفكر العلمي وللثقافة التقدمية.
ونود التنويه هنا أيضا، اننا شهدنا بعد 2003 استشهاد العزيز كامل شياع عضو هيئة تحرير المجلة ومستشار وزارة الثقافة العراقية، الذي داهمته في ظهيرة يوم 23/8/2008 رصاصات غادرة أطلقها قتلة محترفون، وكذلك رحيل الاعزاء: عزيز سباهي ود.غانم حمدون وأخيرا الدكتور صادق البلادي، والشاعر مهدي محمد علي محرر باب أدب وفن. ان رحيلهم، كما رحيل طيّبي الذكر الاخرين خلال مختلف الفترات، شكل ويشكل خسارة كبيرة للمجلة وللفكر التقدمي والديمقراطي، وبفقدهم نودع وبغصة كبيرة في قلوبنا نجوما كبيرة متلألئة في سماء الثقافة والأدب والنضال من أجل التنوير والحداثة والديمقراطية. وإذ رحل عنا هؤلاء الكبار، بعد عمر حافل بالعطاء في ميادين المعرفة وفي النضال طيلة الاربع والستين عاما، فإنهم تركوا لنا تراثاً ثريا وأرثا طيبا من المواقف الأصيلة والذكريات الجميلة والسلوك الإنساني الرفيع والروح الشفيفة التي لا تساوم على القيم والمبادئ الكبرى، وهذا كله سيظل يتحدث عنهم، ويذكر بهم، ويبقيهم أحياء دائمي الحضور بيننا.
ذات مرّة قال المفكر المصري الراحل الاستاذ محمود أمين العالم إن الذين يحتفظون بشموخ القامة الإنسانية في وجه العواصف والمحن، وينسجون الدفء والطمأنينة والاستمرار المضيء في تاريخ الإنسان، بتواضعهم ونزيفهم الصامت هؤلاء هم صناع الحياة بحق، بهم يتحرك المجتمع متطلعا إلى العدالة والسعادة والمحبة والحرية والسلام. ومن المؤكد ان هذا الوصف ينطبق على الكبار الذين غادرونا خلال مختلف الفترات من عمر المجلة العتيد. انهم نماذج أصيلة لقامات لم تنحن أمام العواصف والمحن ولم تساوم، فقد كانوا صناعاً مهرة للحياة بما قدموه من جهود ثرة لتواصل المجلة صدورها. وسيظل منجزهم محفورا في الذاكرة الجمعية، فما أكثر الأبطال الذين لم تدون أسماؤهم على مسلة، أو على ورقة بردي، أو على أثر من الآثار التاريخية الباقية ولكنهم باقون معنا يشاركوننا جلساتنا وصخبنا وأحلامنا وآمالنا واختلافاتنا حول الطرق الجديدة غير المطروقة.
ماهي طموحات المجلة بعد هذا السفر الحافل في مهامها التنويرية؟
رغم ذلك المنجز التنويري الثر الذي قدمته (الثقافة الجديدة) فاننا لن نكتفي بما تحقق فطموحنا واسع ولدينا الرغبة الأكيدة لتطوير المجلة شكلا ومضمونا. ولان (الثقافة الجديدة) هي مشروع تنويري حداثي يؤسس لثقافة ديمقراطية ويروج لـ "فكر علمي ... ثقافة تقدمية" فإنها تراهن على مساهمات نشيطة من كل من يعنيه تطوير هذا المشروع. ولدينا نحن في المجلة القناعة بأن النقد وقبول الملاحظات هو السبيل للتغلب على صعوباتنا وثغرات عملنا، وأيضا مراكمة ما تحقق طيلة الاربعة والستين عاما الماضية، رغم كل الصعوبات والمخاطر والتحديات. كما ان أبواب المجلة ستبقى مفتوحة على الدوام امام الكتاب والباحثين من مختلف التخصصات. وننطلق في ذلك أيضا من قناعة ثابتة ان تطوير (الثقافة الجديدة) هو تطوير للخطاب الثقافي المناهض لخطاب السُلط المهيمنة التي سعت وتسعى لتكريس ايديولوجيا العُقم وتعميم الصمت وتطوير آليات الحصار والإقصاء والتهميش وشيطنة الآخر و"ثقافة" المحاصصات والهويات الفرعية. لقد تعودت السُلط الحاكمة، في مختلف المراحل، ان تنسى الحقيقة المرة وهي أن الصمت لا ينتج الصمت أبدا. ولذلك كانت (الثقافة الجديدة) وستبقى صوتا مغردا خارج مسارات تلك السلط، تحرض على الترويج لثقافة جديدة عنوانها قيم الحرية والديمقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية والسلام والاشتراكية. وستواصل مسعاها هذا دون كلل، مثلما حرصت على ذلك خلال العقود الستة ونيف المنصرمة. ولاشك أن حضور سؤال المستقبل ايضا في أية ثقافة هو دليل حيويتها وعافيتها، فبقدر حضوره في تكوينها تتحدد قابليتها للتطور، وقدرتها على التقدم، ورغبتها في الإبداع الذاتـي. وعلى هذا الطريق ستواصل المجلة جهودها لرعاية الإمكانيات الإبداعية لمنتجي الثقافة والإبداع بشكل عام، وتحرير الثقافة من قيود الفكر الواحد والرأي الواحد ومن الجمود والتهميش، وإعادة الاعتبار لدور المثقف، وفتح دروب الإبداع الفكري والمعرفي له في مناخ من الحرية والاستقرار. وستبقى ابواب المجلة مفتوحة تحتضن كل الاصوات وكل الاقلام الداعية الى مثل التنوير والحرية والديمقرطية والكرامة والعدالة الاجتماعية والسلام.
كلمات اخيرة ختاما لهذا الحوار.
تحية للذكرى السنوية الثانية والثمانين لتأسيس الصحافة الشيوعية العراقية وهي تواصل جهودها، رغم كل الصعاب، ودون كلل، من اجل تحقيق شعار الحزب العتيد "وطن حر وشعب سعيد" ومن اجل المساهمة في بناء دولة مدنية ديمقراطية عصرية على قاعدة العدالة الاجتماعية !
الذكر الطيب لشهداء الصحافة الشيوعية الأبرار، والتحية لكل من واصل ويواصل الدرب من الشغيلة العاملين على هذه الجبهة الساخنة متحدين المخاطر، غير هيابين، مواصلين الملحمة الكبرى التي ابتدأها الرعيل الاول من الرواد. إن الدماء التي أرخصوها هي خلاصة المحبة، والوعي، والإرادة الصادقة، والشجاعة وروح الاقتحام. فمنذ البداية كشف الفصيل الفتي الرائد، الملتهب حُبا للوطن وبسطاء الناس أوراقه على صفحات جريدته الأولى السرية ( كفاح الشعب) حيث دعا في عددها الأول (31 تموز 1935) الى تصفية القواعد العسكرية الأجنبية وإلغاء معاهدة 1930، والى يوم عمل من ثماني ساعات وتوزيع الأرض على الفلاحين. وسرت في الشارع الوطني والأزقة الفقيرة همهمات رضا واستبشار، ولاح في العيون وميض عزم ووعد، فيما أجفل الحاكمون نفورا وخشية، وانكبوا على سيوفهم يشحذونها. وتحول الأمل منطلقا لعمل واعد منظم لا يكل، مفعم بنكران الذات والتضحية والعطاء الثر، راح يستقطب كل يوم مزيدا من الساخطين على المستعمرين واحتكاراتهم النهّابة ونظامهم الملكي شبه الإقطاعي- شبه الرأسمالي، وتواصل متصاعدا دون انقطاع رغم الكبت والعسف، حتى توج بانتصار 14 تموز 1958 الذي نحتفل هذا العام بذكراها التاسعة والخمسين.
تحية للذكرى الرابعة والستين لصدور العدد الاول من مجلة (الثقافة الجديدة) في تشرين الثاني 1953 ! وتحية لمؤسسيها الاوائل ولهيئات تحريرها المتعاقبة ورؤسائها وكتابها ومحرريها وقرائها ممن كان لجهودهم وتضحياتهم الكبيرة وشجاعتهم الدور الاكبر في ان يتواصل صدورها طيلة ستة عقود رغم كل المصاعب والمخاطر والحصارات، وأن تبقى معبرة بحق عن شعارها العتيد: فكر علمي .. ثقافة تقدمية !
ولنجعل هذه المناسبات العزيزة على قلوبنا محطة للتحدي ولمواجهة التعقيدات والتحديات الراهنة، مناسبات تشيع الأمل بالتغلب على كل الصعوبات وتفتح الأفق لحقبة جديدة من النشاط والنضال المثابر لتبقى راية الحزب خفاقة على الدوام، وليبقى كما كان على الدوام قوة للعمل والأمل، قوة للتغيير والتجديد والديمقراطية والمستقبل.