المنبرالحر

آمرلي ومالك الحزين! / يوسف أبو الفوز

كان جليل مصيبا وهو يصب لعناته على من أسماهم تجار السياسة الطائفيين:"يدينون الطائفية قولا، وأفعالهم تصب البانزين في مجمرة الطائفية". وكنا نتابع حلقة نقاش تلفزيونية، امتلأت بالزعيق والصراخ والتنابز بين المتحدثين، وفاحت منها روائح الطائفية بشكل مقزز، رغم ان المتحدثين يغلفون كلامهم بالخوف على الوطن ومصلحة المواطن. صاح جليل:"هؤلاء أخطر من الدواعش، فهم بيننا، أنيقون وناعمون مثل أفعى وللاسف ان وسائل الاعلام تمنحهم الفرصة لبث سمومهم في عقول الناس". كان صديقي الصدوق، أبو سكينة، يستمع لنا بأهتمام والحزن يغلف ملامح وجهه. في الايام الاخيرة، صار أبو سكينة محبا للصمت. يلفه الحزن وهو يتابع تفاصيل الاخبار عن جرائم وحوش "الدولة الاسلامية" بحق كل أبناء الاقليات في العراق، والرافضين لسلطتهم في المناطق الغربية من بلادنا، وأثار سخطه كثيرا الاعتداء على اعراض النساء المسيحيات والإيزيديات، وبيع بعضهن كسبايا بحفنة من الدولارات !
وجاءت وفاة "أبو سعاد"، أحد المقربين لأبي سكينة، اذ كان أبنا لرفيق طفولته وصباه، فأضافت له حزنا اخر. حكى لنا أبو سكينة عن الفقيد، كيف أنه ظل طول حياته انسانا نظيفا، مسالما، متسامحا حتى مع الذين أذوه بتقاريرهم لسلطات البعث المقبورعن علاقته بأخوته الشيوعيين الذين اضطروا لمغادرة البلاد. حكى لنا كيف أن أحد ضباط الامن البعثيين، وكان جديدا في وظيفته، استدعى ابو سعاد، وظل يبحث بين الملفات، فقال له ابو سعاد بهدوء:"اذا تبحث عن ملفي الخاص فذاك هو الأزرق الثخين !"، لم يستطع ضابط الامن الا ان يضحك.
وكنا في مجلس العزاء، وسط الحزن والدموع، حين وصلتنا أول الاخبار المفرحة من آمرلي، التي حوصرت لاكثر من شهرين، وتابع العالم، صمود أهلها الأبطال، رغم قلة الامدادات والامكانيات، وكيف لقنوا مرتزقة "الدولة الاسلامية" درسا لا ينسى في حق العراقيين بحياة من دون قيود التخلف والظلام، وفتحوا بابا للامل بأن لا بد من ان تنتصر ارادة الناس وان مستقبل العراق بين أيدي أبنائه. كانت أخبار التطورات تنتقل طازجة عبر الهواتف من كل مكان، عن نجاح القوات المسلحة العراقية الاتحادية بالتعاون مع قوات البيشمركة والحشد الشعبي في فك الحصار، ودخولها المدينة، وان المعارك مستمرة من اجل مطاردة فلول مجرمي داعش واخواتها.
تصاعدت اجواء الانشراح في المكان. بدا الامر غريبا، اذ تبادل الناس القبلات والتهاني في مجلس تعزية. وسالت دموع البعض، لا تعرف من الفرح أم الحزن. ابتسم ابو سكينة، وهو يمسح دمعة سالت رغما عنه وقال بصوت متهدج :"هذا هو العراق يا بعد شيبي، ذولة هم العراقيين. بس الأمور تمشي شوية صح، بس يتعاونون، تكون افعالهم مغيضة للعدو، مثل الضوه يشق الظلام ولا يخاف من الخفافيش، مثل طائر مالك الحزين العجيب اللي يغني أجمل الحانه وهو ينزف".