المنبرالحر

الطائفية وتداعياتها وكيفية الخروج من نفقها / د. عودت ناجي الحمداني

يعتبر موضوع الطائفية من الموضوعات الملتهبة في بعض الدول العربية والاقليمية ومن بينها العراق. ويمكن تناول هذة الظاهرة المرضية وفق السياق الاتي:

جذور الطائفية والطائفية في العراق

تمثل الطائفية نموذجا للفكر المتعصب لطائفة معينة واقصاء الطوائف الاخرى من خلال اشاعة الكراهية والاحقاد وعدم التواني عن ممارسة العنف والقتل على اساس مذهبي او ديني اوقومي. وتاريخيا شكل الفكر الديني اوربياً واسلامياً، بيئة خصبة لنشوء الفكر الطائفي ونزعته الدموية . فالحروب التي اندلعت بين البروتستانت والكاثوليك في العصور الوسطى في أوروبا و في إقليم إيرلندا الشمالية لسنوات عديدة هي نموذج على همجية الصراعات الطائفية التي دارت بين الطوائف المسيحية . وقد ادت الحرب الطائفية بين الهندوس والمسلمين بالهند في عقد الاربعينيات إلى انفصال باكستان عن الهند في عام 1947 والى انفصال بنغلاديش عن باكستان في عام 1971. وقد قاد الصراع الطائفي الى انسلاخ تيمور الشرقية ذات الاغلبية المسيحية عن اندونيسيا ذات الاغلبية المسلمة .
وبالنسبة الى الطائفية التي تجذرت بين المسلمين فان سببها الرئيسي هو الاختلاف الذي نشأ على الخلافة بين المسلمين حول من هو احق بالخلافة على المسلمين , مما ادى الى الانشقاق بين المسلمين والذي ادى بدوره الى نشوء طوائف ومذاهب ومفاهيم فقهية اخذت تنتقل من جيل الى جيل حتى ترسخت كعقيدة وسلوك ونهج وواقع حال .
ان الفكر الطائفي الذي يقسم المجتمع الى طوائف ومذاهب هو فكر ميت لانه يعتمد على معارك تاريخية منقرضة وبائدة ويشعل صراعات وهمية لأسباب سياسية ومصلحية ولأسباب غير دينية. فالايمان بنظرية تاريخية حول الاحقية بالخلافة منذ اكثر من الف واربعمائة عام لا يستدعي الخلاف مع الاخرين وتفتيت وحدة المجتمع. ان رجال المذاهب وسدنة الفكر القديم ابعد ما يكونون عن عملية الاصلاح خصوصا اذا كان الاصلاح يهدد مصالحهم الاقتصادية والسياسية.
وتختلف الطائفة اختلافا كليا عن الطائفية . فالطائفة : هي مجموعة الناس التي تشترك بمعتقدات وافكار معينة سواء فقهية او غير فقهية , ولا تسعى في نشاطها التعبوي الى تحقيق مصالح معينة على حساب الطوائف الاخرى. وبهذا لا تسعى الى تفضيل مصالحها على مصالح الطوائف اخرى . اما الطائفية : فهي مجموعة الناس التي تشترك بافكار ومعتقدات معينة وتهدف من نشاطها التعبوي تحقيق اهداف ومصالح معينة على حساب مصالح الطوائف الاخرى . وهو ما نشهده في بلدان عديدة كلبنان و العراق ودول الخليج . فممثلو الطائفية يسعون باسم الطائفة الى تحويل الصراع السياسي الى صراع طائفي لتحقيق مصالح ذاتية وفئوية وانتهازية . ويؤدي ذلك الى تحويل الطائفة من معتقد نزيه الى شيء اخر . ان مجرد الانتماء إلى طائفة أو مذهب لا يجعل الفرد طائفيا طالما ان نشاطه لا يلحق ضررا بحقوق الاخرين . وعليه فالطائفية عصبية تتجاوز المذهب او العرق ويحاول الداعون الى الطائفية تحويلها الى عصبية سياسية لتحقيق مطالب فئوية ومصالح ذاتية. فالنظرة الى الطائفية تكشف عن وجهين متضادين: الأول: يتمثل بالتعامل مع الأنتماء المذهبي بشكل طبيعي، كحالة فطرية متجذرة في التركيبة الأنسانية، والثاني يرتبط بالتعصب الطائفي وما ينتج عنه من انتهاكات خطيرة. ونستنتج من ذلك ان الطائفي هو الذي يفضل طائفته على الطوائف الاخرى ويصادر حقوقها.

الطائفية في العراق

تعود جذور الطائفية في العراق الى العصر العباسي الثاني حيث اتخذ الصراع في تلك الفترة اشكالا مختلفة , فقهية وعنفية ودينية ومذهبية ومصلحية وسياسية . وتشتد حمى الصراع وتخفت وفقا لما تقتضيه مصالح رجال الدين المتطرفين من كلا الطائفتين الذين يحولون الصراع من اجل مصالحهم الذاتية الى صراع مذهبي أو طائفي . ويدفع في هذا الاتجاه الحكام الطائفيون واعوانهم الرجعيون . فمن اجل الحفاظ على سلطة حكمهم وامتيازاتهم فانهم يشعلون الفتن ويؤججون الصراعات بين الطوائف. وقد اتخذ الصراع اشكالا اكثر ضراوة في عهد حكم الدولتين الصفوية و العثمانية اللتين استعمرتا العراق لعشرات القرون. وواصل المحتلون البريطانيون نهج الطائفية سواء على مستوى السلطة السياسية اوفي الوظائف الحكومية العليا او في قيادات الجيش الرئيسية , وهي سياسة مقصودة للتفريق بين العراقيين وتفتيت نسيجهم الاجتماعي واضعاف وحدتهم في مواجهة السياسات الاستعمارية وتحرير بلدهم من الاحتلال . وقد استمر الحكام في ممارسة النهج الطائفي حتى سقوط السلطة الملكية في 14 تموز عام 1958. وحلول عهد جديد ارست اسسه ثورة 14 تموز التي عملت على انهاء التمييز بين العراقيين في محاولة لخلق هوية وطنية لجميع العراقيين بغض النظر عن الدين والمذهب والقومية واللون والشكل . غير ان الحكام الدكتاتوريين من سلالة القوميين الرجعيين والبعثيين الدمويين الذين اطاحوا بحكومة ثورة 14 تموز في عام 1963 بدعم المخابرات البريطانية و الغربية عادوا الى تغذية الطائفية واعادة نهجها في الحكم . ومنذ سقوط النظام الصدامي في عام 2003 اتخذت الطائفية ابعادا اكثر خطورة بتبني الطائفية من قبل الدولة العراقية نهجا رسميا وتحولت من نهج مستور الى نهج رسمي للسلطة السياسية. وقد ساهم الاحتلال الامريكي وبعض دول الجوار الاقليمية في تعميق الطائفية السياسية وسلطتها عبر الخلط بين الديمقراطية والفئوية او بين العشائرية والديمقراطية. و يعرف العراقيون وغيرهم التوليفة التي شكلها الاحتلال وتبناها الحاكم الامريكي بول برايمر لما يسمى بالديمقراطية التوافقية في العراق التي اصبحت فزعة عشائرية ومذهبية , واصبح الشيعي لا ينتخب الا شيعيا والسني لا ينتخب الا سنيا , وهكذا الكردي والمسيحي والصابئي والايزدي بغض النظر عن البرامج التي يقدمها المرشحون.

الطائفية السياسية والدولة الطائفية

الطائفية السياسية: تعني في الجوهر توظيف الدين من منطلق طائفي لاغراض سياسية ومصلحية , والطائفية السياسية نمط من التفكير السياسي بغطاء مذهبي أو ديني. ويلجأ الى الطائفية الساسة الانتهازيون وربما غير المتدينين الذين يستثيرون مشاعر الناس الطائفية لتحقيق مصالحهم الذاتية. ان الطائفية السياسية ذات الوجهه الدينية هي ظاهرة قائمة في بعض البلدان العربية و يعتبر نظام الحكم في العراق ولبنان نموذجا لهذة الظاهرة . فالقوى الطائفية التي تفشل في قيادة الدولة وفي تقديم برامج وحلول ناجعة للأزمات التي هي السبب في اندلاعها فانها تلجأ الى الطائفية السياسية لتبرير فشلها ولحماية نفسها من المساءلة القانونية . وعندما تصبح الطائفية قاعدة لبناء الحياة السياسية في أي بلد فانها تقود حتما الى التطرف المذهبي والصراع الدامي على السلطة . ويعني ذلك ان الطائفية السياسية ذات الوجهة الدينية يمارسها سياسيون و انتهازيون ليس لهم في اغلب الاحيان أي التزام ديني أو مذهبي . وقد اثبتت الوقائع ان النظام الذي يقوم على الطائفية السياسة يؤدي حتما الى خلق حالة طائفية بكل اشكالها الفردية والمؤسساتية والثقافية والاجتماعية . ويعتبر نظام الحكم اللبناني والعراقي الذي يتبنى كل منهما الطائفية السياسة نموذجا من حيث تداعياته المدمرة على بناء مؤسسات الدولة, وانتاجه المستمر للازمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والامنية. وفيما يتعلق بمفهوم الدولة الطائفية : فان الطائفية السياسية على مستوى الدولة تعني تقسيم الحكم بين الطوائف على اساس التوازن الطائفي كما في حالة العراق ولبنان. والاختلال في هذا التوازن يؤدي الى تعطيل دورالدولة واندلاع ازمة التعايش الاجتماعي والسياسي بين الطوائف. وفي هذه الحالة تصبح الطوائف امام خيارين لا ثالث لهما : فاما العودة الى التوازن الطائفي في حكم الدولة واما لجوء كل طائفة الى الاستقلال واقامة حكمها بذاتها . و الطائفية هنا تتحمل مسؤولية هذا الانقسام المجتمعي . ونستنتج من ذلك ان الطائفية في هذه الحالة لا تنتمي الى الدين او المذهب وانما تنتمي الى السياسة, وانها أي الطائفية تشكل سوقا سوداء للسياسة اكثر مما تدعي الدفاع المتعصب عن الدين او المذهب . وفي حالة العراق تغلبت الطائفية على نظام الدولة وتحول النظام السياسي الى نظام طائفي وتحولت مؤسسات الدولة الى مؤسسات تعبر عن الطائفة . وادى هذا الوضع الى تعقيد الاوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية واغراق البلاد في ازمات مستعصية , ونشوء مناخات للصراع الطائفي الذي استغلته المنظمات الظلامية للنيل من سيادة العراق واحتلال بعض مناطقه .

العوامل المغذية للطائفية

اذا اخذنا حالة العراق فنجد كثيراً من العوامل المحلية والاقليمية والدولية التي ادت الى تفاقم النزعة الطائفية ومنها: 1- اشاعة ثقافة الكراهية بين الطوائف والقوميات سواء من قبل الحكام الطائفيين او من قبل رجال الدين المتطرفين .
2- قيام بعض الدول الخليجية والاقليمية بالتدخل في شؤون العراق الداخلية من خلال تقديم الدعم المالي والسياسي لبعض القوى الطائفية والظلامية من اجل اشعال نار الفتن بين الطوائف المسلمة 3- تزايد نشاط المليشيات التي تمارس القتل والخطف والاغتيالات لاغراض مالية وسياسية وطائفية 4-الشحن الطائفي الذي تقوم به بعض الفضائيات وبعض الصحف الماجورة في بث سموم الكراهية والترويج للحرب الاهلية .
5- يشكل التخلف الفكري والاجتماعي بيئة حاضنة للتطرف الطائفي ومصدرا لتمويل القوى الظلامية بالمناصرين والمقاتلين في صفوفها.
تداعيات الطائفية: خلقت الطائفية نظاما سياسيا عقيما ومنتجا للازمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والامنية , وحولت الطائفية العراق الى دولة فاشلة بسبب عجز نظام المحاصصة عن تقديم برامج استراتيجية للتطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي . فالطائفية السياسية تحتمي بالمقدس الديني لكي تستحوذ على المزيد من الثروة والسلطة والجاه و تشيع فلسفة التبرير لخدمة مصالحها وهي بفلسفتها هذه تحمي الفساد والمفسدين, فبدفاعها عن عناصرها الفاسدة فانها تعمل على تبرير افعالهم وابعادهم عن المساءلة. وقد ادت الممارسات الطائفية الى تقسيم الوزارات على اسس الانتماءات الطائفية وابعدت بذلك الكفاءات الوطنية عن خدمة الدولة وتطوير مؤسساتها . ومن تداعيات الطائفية إثارة النعرات المذهبية والمناطقية والقومية ومحاولة إشاعة الروح الانفصالية بطريقة تتعارض مع الروح الوطنية و تطوير البلد وتوزيع الثروة . ومن نتائج الطائفية تشكيل الميليشيات والعصابات المسلحة التي تمارس العنف والخطف والتصفيات الجسدية. لقد ساهمت الطائفية في إعاقة بناء الدولة وأصبحت مجالا لاستقطاب الخاملين والمفسدين واستشرت عمليات النهب والسلب وغابت معايير الوطنية في المراقبة والمحاسبة وحل التوازن السياسي محل المعيار الوطني. ان فلسفة الطائفية تخلق حكومة لا تستطيع العمل بشكل مؤسساتي وديمقراطي .
كيفية الخروج من مازق الطائفية

ان تبني استراتيجية واضحة لنشر ثقافة التآخي و التسامح بين الطوائف والاديان والقوميات ومحاربة ثقافة الكراهية والتطرف الطائفي والديني والقومي سيكون كفيلا بتجاوز الطائفية والخروج من نفقها المظلم. ويتطلب ذلك :
1 يجب على الدولة العراقية نبذ الطائفية ومغادرة نظام المحاصصة المقيت وتحريم العمل بما يسمى بالتوازن في الدولة لان ذلك الطريق الاصوب لنهوض العراق من كبوته وتخفيف الاحتقان الطائفي والسير على طريق التطور والتقدم والتحضر.
2- التوجه نحو بناء دولة مدنية ديمقراطية على اسس المواطنة الحقة التي تضمن المساواة في الحقوق والواجبات لكافة العراقيين بغض النظر عن الدين والمذهب والقومية.
3- ضمان حرية التدين والعقيدة وحرية الفكر و احترام الحريات السياسية والديمقراطية و الحرية الشخصية للمواطنين العراقيين دون تمييز .
4- مقاضاة المؤسسات الاعلامية و الدينية و الجمعيات الخيرية التي تحرض على الكراهية والتعصب الطائفي والقومي .
5- اشاعة ثقافة الحوار و التسامح وتقبل الراي الاخر كبديل لثقافة الكراهية و التزمت بالراي واحتكار الحقيقة .
6- نشر الوعي العلمي والثقافي لمكافحة افكار الخرافة والشعوذة التي اخذت تنتشر على نطاق واسع بسبب الاحباط والياس الذي يطال قطاعات واسعة في المجتمع .
7- توعية المجتمع وتعريفه بمنجزات العلم المادية والحضارية لتنمية قدرات الانسان المعرفية والعلمية للتحرر من افكار الجهل والتخلف.
8- نشر المراكز الثقافيية والعلمية بما في ذلك المكتبات وتزويدها بالكتب العلمية والتقدمية على اوسع نطاق في المجتمع .
الاستنتاج: ونستنتج مما تقدم ان الطائفية هي العقبة الاساسية في عدم تحقيق الاجماع الوطني وتحقيق المصالحة الوطنية لانهاء ازمة البلد الشاملة وتحرير الاراضي المغتصبة من قبضة العصابات الظلامية وتحقيق الامن والاستقرار .