المنبرالحر

حرف "لو " بين الثورتين المصرية والعراقية / رضي السماك

" لو " في اللغة هي من حروف المعاني ، يمتنع بها الشيء لامتناع غيره ، كقولك لو جاء زيد لأكرمته، وهنا امتنعت الكرامة لامتناع المجيء . و "لو" تُعد من حروف الأماني أيضاً، كقولك : لو قدِم زيد لولد لنا كذا، وقد يُكتفى بهذا من الجواب . وقد تكون "لو" موقوفة بين نفي وامنية كقولك : لو أكرمتني ، أي لم تكرمني .
بيد ان " لو" دخلت في كتاباتنا العربية السياسية المعاصرة من اوسع ابوابها في سياق التأسف والتندم على وقوع الوقائع والاحداث الني لم نكن لنرغب في وقوعها ومن ثم توظيفنا " لو" في باب ما نتمنى لو ومالا نتمناه أن يحدث ، وبخاصة فيما يتعلق في هذا الخصوص بالأحداث والوقائع الكبرى التي ارتبطت بمصائر شعوبنا وامتنتا العربية جمعاء والتي ما برحنا نعاني من نتائجها وتداعياتها المتوالية لكن " لو" إذا ما اُستخدمت تاريخياً وسياسياً بغية اتعاظ الدروس والعِبر فإنها تغدو مفيدة للمراجعة وتفادي أخطاء الماضي وعثراته وعدم تكراره ولاسيما المتصل منها بأحداث ثورية كبرى وقعت في تاريخنا العربي الحديث . واشير هنا علي وجه الخصوص والتحديد لثورتي تموز / يوليو المصرية والعراقية عامي ١٩٥٢ و١٩٥٨نظراً لما يربطهما من اوجه تشابه عديدة من الظروف والسمات المشتركة لدى وقوع كل منهما في كلا القطرين . فكلاهما وقعت الثورة فيه تحت الاحتلال الكولونيالي الانجليزي ، وكلاهما وقعا قبل ذلك تحت السيطرة العثمانية المديدة ، وكلاهما اُقيم فيه نظام ملكي دستوري شكلياً بتوجيه من السلطة الاستعمارية الانجليزية ويخضعان لمشيئتها . وكلتا الثورتين ارتكزتا في الاساس على انقلاب عسكري اطاح بالملكية وقاده مجموعة من الضباط الأحرار كما سموا أنفسهم بذلك في مصر اولاً ثم في العراق، وكلتا الثورتين حققتا تحولات سياسية واجتماعية ثورية لشعبيهما في مدة قصيرة لكن سرعان ما تم الاجهاز عليهما من قِبل قوى الثورة المضادة لأسباب يرتبط جلها بتغييب النهج الديمقراطي في السلطة لدى تحقيق تلك التحولات وتغليب نهج حكم الفرد القائد او الزعيم. ولنبدأ زمنياً بمصر اولاً :ًولنطرح هذه التساؤلات حتى في سياق ما سُمي بالشرعية الثورية :
فماذا لو لم تكن علاقة عبد الناصر بالمشير عبد الحكيم عامر قائد الجيش والنائب الاول للرئيس بتلك الحميمية الوطيدة المفرطة الي درجة تغاضي الاول عن كل أخطائه القاتلة بحق الثورة وبحق مصر ؟ هل كانت خسائر مصر في المعارك التي خاضتها خلال العدوان الثلاثي العام 56 بذلك الحجم المأساوي تحت قيادة المشير ؟ وهل كان الانقلاب العسكري ضد الوحدة في سوريا ينجح لولا لم يوله على سوريا رغم فشله الذريع في حرب ٥٦؟ بل هل كانت مصر والدول العربية تُمنى بتلك الهزيمة الساحقة الماحقة امام اسرائيل في يونيو ٦٧ ؟ وهي الهزيمة التي قصمت ظهر مصر والعرب لولا لم يكن المشير على قيادة الجيش المصري رغم ما هو معروف مقدماً بسقوطه في تلك الفترة في براثن الفساد هو وشلة الضباط المحسوبون عليه ؟ واخيراً ماذا لو تحسب عبد الناصر مقدماً لقرب أجله نظراً لتعاظم خطورة مرضه بالسكر بشهادة طبيبه السوفييتي يفجيني تشازوف حيث عزل أصدق المخلصين لنهجه الثوري السياسي علي صبري كنائب له قبل تسعة شهور فقط من وفاته وعين بدلاً عنه انور السادات بالرغم مما هو معروف عن هذا الاخير بتملقه لعبد الناصر وعدم ايمانه الحقيقي بمبادئ ثورة يوليو وبالناصرية وحيث انقلب عليها بزاوية ١٨٠ درجة فور استلامه السلطة غداة رحيل الأول ؟ وادار ظهره لحلفاء الثورة الدوليين ، الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية. فهل كان لقوى الثورة المضادة ان تحقق كل تلك النجاحات التي اجهزت على مكتسبات الثورة الاجتماعية؟ وتخرج مصر بقيادته من. حلبة الصراع العربي الاسرائيلي وترهن نفسها للتبعية الامريكية والرجعية العربية فهل كانت الثورة المصرية تنتكس لو تحسب عبد الناصر مقدماً لقرب أجله ولم يُعين السادات الذي اهال التراب غداة وفاته علي كل ما يُمت بالناصرية بصلة؟
ورغم اختلاف مسار وقائع واحداث الثورة العراقية عن مسار احداث ووقائع الثورة المصرية الا انها تكاد تلتقي معها في جوهر العوامل التي أفضت الى انتكاسة كل منهما ، وعلى رأسها العامل الديمقراطي . فماذا لو باشر قائد الثورة الزعيم الركن عبد الكريم قاسم غداة انتصارها في الشروع باتخاذ اجراءات جادة تمهد للانتقال الفعلي من المرحلة الثورية المؤقتة الى المرحلة الدستورية الديمقراطية الدائمة ؟ هل كان للثورة ان تتعثر سريعاً وتنقض على سلطتها قوى الثورة المضادة في انقلابها الدموي الاسود صبيحة الثامن من شباط ( الرابع عشر من رمضان ) من عام ١٩٦٣؟ وهو الانقلاب الذي اُرتكبت فيه على أيدي البعث وحلفائهم القوميين المتطرفين مجازر جماعية ضحيتها آلاف الشهداء من خيرة الشعب العراقي من السلطة القاسمية نفسها وعلى رأسها زعيمها قاسم نفسه والشيوعيين ولفيف متنوع من القوى الديمقراطية الشريفة . ومعظم تلك المذابح ، كما نعلم ، نفذها الفاشيون في حزب البعث وحلفاؤهم من القوى القومية اليمينية خلال اسبوع واحد فقط من انقضاضهم الدموي على السلطة .
هل كان قاسم ينتهي وثورة تموز التي قادها بتلك النهاية المأساوية الفاجعة لو لم يكن متردداً ومتذبذباً في علاقاته مع قوى الثورة الحقيقيين من شيوعيين وديمقراطيين ؟ و هل كان لقاسم ان يتعرض لذلك الانقلاب الدموي الذي أودى بحياته وبالثورة خلال فترة وجيزة لا تتعدى الخمس سنوات لو لم يول ثقته للعناصر البعثية والقومية اليمينية ويُعين العديد منها في مناصب ومفاصل خطيرة من عصب دولة الثورة وعلى الاخص في جهازي الجيش والأمن ؟ وهل كانت قوى الثورة المضادة تتمكن من التسلل الى السلطة لو كان قاسم اتاح لأحزاب جبهة الاتحاد الوطني ان تُمثل بصورة ديمقراطية في النظام الجديد الذي اقامته الثورة ولاسيما قواها الديمقراطية واليسارية والتي ساهمت في التحضير للثورة على المستوى الشعبي والسياسي وجندت كل طاقاتها لحمايتها طوال السنوات الخمس من عمرها ؟ ورغم ان ابرز تلك القوى الوطنية ممثلة في الحزب الشيوعي قد اُحيطت علماً مقدماً بموعد الاطاحة بالنظام الملكي الرجعي المقبور، الا انه هو نفسه قد أحاط قاسم واوصل اليه رسائل بما يُدبر بليل ضد الثورة للإطاحة به وبها ..لكنه للأسف لم يعر اهتماماً بتحذيرات الحزب الشيوعي وأبقى عناصر قوى الثورة المضادة في مواقعها الخطيرة في الجيش والامن ولم يتنبه لخطورة ما تبيت له من غدر وخيانة للإطاحة وبالثورة برمتها ولم جهاز استخباراته بتلك الفعالية واليقظة ليباشر في تطهير ذينك الجهازين العسكري الامني من تلك القوى قبل فوات الاوان . ان هذه الاخطاء القاتلة وان كان يتحملها بصورة اساسية قاسم وسلطته ونهجه تفرده في السلطة ، الا ان ذلك لا يعفي القوى والاحزاب المؤيدة والمساندة للثورة من اخطاء جسيمة هي الاخرى وقعت فيها ومن ضمنها بوجه خاص الحزب الشيوعي العراقي ، ولعل هذه المسألة تستحق وقفة خاصة منفردة ليس هنا موضع تناولها في هذه العجالة .
و الحال انه منذ فجر التاريخ السياسي للمجتمعات والدول والتاريخ لا يسير وفق الرغبات للأفراد والشعوب في مسار مستقيم بدون تعرجات وانحناءات وإلا لما كان التاريخ. تاريخاً بخيره وشره والتاريخ الحديث لا يمكن التحكم في مسار احداثه ووقائعه لصالح الشعوب الا وفق الحركات الثورية الواعية التي تعي معمقاً قوانين سيرورة تطور المجتمعات وقوانين هذا التطور وفي قلبها في عصرنا الراهن الايمان بصيرورة واهمية العملية الديمقراطية بمفهومها الشامل سياسياً واجتماعياً كوسيلة للتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للشعوب .