المنبرالحر

ميزانيات ملغمة / قاسم السنجري

بعد شد وجذب؛ وصل مشروع قانون الموازنة الاتحادية إلى مجلس النواب، لتبدأ مرحلة جديدة من الشد والجذب والمساومات من أجل تمرير هذا المشروع، الذي في أحسن أحواله لا يمكن له أن يوفر ميزانية حقيقية للبلاد التي تعتمد على العوائد المالية لتصدير النفط، وقد ابتليت بداء هبوط الاسعار.
إن مشروع قانون الموازنة بحاجة إلى قانون رديف يسهم بتوفير السيولة المالية، للأرقام الكبيرة التي ظهرت بها لتحتل المرتبة الثانية عربيا بعد السعودية بمبلغ يصل إلى ١٢٠ مليار دينار. هذا الرقم الكبير كان من الممكن أن تتباهى به الحكومة العراقية لو كانت أسعار النفط بمعدلاتها قبل الهبوط، وكما حصل في الحكومة السابقة التي كان يخرج علينا رئيسها متحدثاً عن "الميزانيات الانفجارية". وإذا كان ارتفاع موازنات الدول يدلل على سعة التنمية والتقديم للبلاد، فأن الحاصل في بلادنا هو العكس، حيث ارتفاع الموازنات يدلل على حجم الفساد الذي سيرافقها.
بعد سنوات تراكمية من الموازنات الانفجارية، غدت الميزانيات ملغمة قابلة للتفجير في أي لحظة على الاقتصاد العراقي، بسبب عمليات الفساد واختلاس وتبديد المال العام، حتى وضعت حكومة العبادي في الخانة الضيقة والحيرة من أمرها في كيفية توفير سيولة نقدية كافية لموازنة العام الحالي، بالرغم من التطمينات التي يبعثها العبادي في تصريحاته بأن البلاد ليست مفلسة.
ترى لماذا لم توفر الحكومات السابقة جزءا من ايرادات البلاد وتحتفظ بها لأوقات الشدة، كما يفعل الكثير من الدول التي تقوم بإيداع جزءا من وارداتها في صناديق سيادية. وهذا ما تفعله دول الخليج حيث تلجأ لهذه الصناديق عند ظهور أي عجز كبير لتقوم بسده في ميزانياتها أو مصاريفها. وليس غريبا أن تظهر موازنة أي دولة من دول العالم بعجز، قد يزيد أو يقل بحسب الخطط التنموية التي تضعها حكومتها، وحسب الظروف الاقتصادية والسياسية التي يمرُّ بها البلد.
ففي العام ١٩٥٩ انجز مجلس الوزراء العراقي بعد أشهر قليلة من ثورة ١٤ تموز الخالدة، قانون الموازنة العامة للعراق للسنة المالية 1959 حيث بلغ اجمالي نفقات الموازنة 104 مليون دينار، واجمالي ايرادات الموازنة 95 مليون دينار أي بعجز قدره 9 ملايين دينار. إلا أن البلاد لم تتأثر بالرغم من اوضاعها السياسية العاصفة في ذلك الوقت وانشغال الحكومة بمواجهة خصومها والمشاكل التي ظهرت بعد التحول إلى النظام الجمهوري. وقد تبدو الاوضاع بعد العام ١٩٥٨ مشابهة نوعا ما لما تمر به بلادنا حاليا من ناحية الصراع السياسي، إلا أن هذه المرحلة تفتقر إلى التخطيط السليم وتفشي الفساد بشكل كبير، والتجرؤ على المال العام المتأتي من تهاون المؤسسة القضائية في ملاحقة المفسدين وسرّاق المال العام.
وبالأمس تعالت اصوات عدد من البرلمانيين حول حجم الاموال المهدورة من موزانات العشر سنوات الماضية، والتي تقدر بحوالي ٢٤٥ مليار دولار، قالوا أنهم لا يعلمون في أي أبواب صرفت، فضلا عن كشفهم عن المتبقى من مدور الميزانيات السابقة والذي يبلغ ملياري دولار لا أكثر. إن هذا الكشف الذي لا يشكل صدمة للمتلقي لأن المواطن يدرك جيدا أن هذا الرقم المكتشف ما هو إلاّ جزء من مبالغ كبيرة ستدوسها عجلة المساومات والاتفاقات السياسية، التي اضاعت اموال البلاد في سلّة واحدة.