المنبرالحر

بين شعارات تظاهراتنا وشعارات المقامة الساسانية! / حيدر الماجد

في الأيام الأخيرة، ومع تصاعد موجة الغضب العارم وخروج الجماهير في تظاهراتها الغاضبة، انفتحت شهيةالكثير من الناس على رفع المطالبات والتباري فيها، فصرنا لا نلحق على بوستات فيسبوك وتغريدات التويتر والشعارات التي يرفعونها: نطالب بـ.. ، ندعو الى..، هدفنا هو..، لنعمل جميعا من أجل..
وصار البعض منهم يطلق العنان لخياله ويتفنن في اقتراح القوانين والقرارات ورسم صورة المدينة الفاضلة التي يحلم بها: * أطالب بتعيين الجميع. قلع شلع من الدنكة للدنكة! * أطالب بتزويج جميع الشباب والكهول والعوانس والأرامل والمطلقات! * أطالب بإقالة معاون مدير تربية ..! * أطالب بإعادة ضم ناحية .. الى قضاء..! * أطالب بمنع أغنيات المطرب..! * أطالب أبي بزيادة مصروفي اليومي! * أطالب برفع نسبة الغيابات في المعاهد والكليات! * أطالب بمنع وضع الكشمش في الكبة!
* أطالب باستيراد حكومة يابانية! * أطالب بنفي حماتي الى المريخ! * أطالب بنظام لا رئاسي ولا برلماني! * أطالب بسحل مراسلي القنوات الفضائية المشبوهة! * أطالب ببطل عرق لكل مواطن مع الحصة التموينية! * أطالب بعُمرة مجانية لكل مواطن! * أطالب بتخفيض درجات الحرارة!
رغم أن البعض من هذه الشعارات ليست سوى وليد للحس الفكاهي الظريف لرجل الشارع، ورغم أن بعضها لا تتجاوز «التحشيش» ورغم أن بعضها الآخر نتاج عقليات غريبة الأطوار، لكنني أتفهم طبعا كون شعارات التظاهرات في غالبيتها العظمى تعبيراً عن مطالب مشروعة، وأن رفعها صرخة بوجه الحيف والظلم والانتهاكات والفخاخ المحكمة الحكيمة التي طالما نصبت لهذا الشعب ليسقط فيها المرة تلو المرة! وبنجاحٍ ساحق عبر تاريخه المجيد! ولكن يا أحبتي، يا أصدقائي، يا تاج رأسي: رفع العشرات من المطالب مرة واحدة (وبعضها مبالغ به أو لم ينضج وقته) يشتت الجهه ويقلل التركيز على الأهداف الأكثر إلحاحاً وأهمية ويتيح للطغمة الحاكمة التملص منها أو اللعب على حبال تناقضاتها أو تنفير الناس من كثرتها وطبيعتها السابقة لأوانها.
يا أصدقائي، يا أحبتي. وحدوا الشعارات والمطالب، قللوا عددها، ركزوا جهودكم فأنتم تجابهون عدوا قويا، خبيثاً، ماكرا. ولا تكونوا مثل كتيبة بني ساسان التي صورها بديع الزمان في مقامته عن بني ساسان حين حدّث الأنام، على لسان عيسى بن هشام فقال:
((أَحَلَّتْنِي دِمَشْقَ بَعْضُ أَسْفارِي، فَبَيْنَا أَنَا يَوْماً عَلى بَابِ دارِي، إِذْ طَلعَ عَلَيَّ مِنْ بَنِي سَاسانَ كَتِيبَةٌ قَدْ لَفُّوا رُؤُوَسُهمْ، وَصَلَوْا بالْمَغْرَةِ لَبُوسَهُمْ، وَتَأَبَّطَ كلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَجَراً يَدُقُّ بِهِ صدْرَهُ، وَفِيهِمْ زَعِيمٌ لَهُمْ يَقُولُ وَهُمْ يُرَاسِلونَهُ، وَيْدعُو وَيُجَاوبُونَهُ، فَلَمَّا رآني قَالَ:
أُرِيدُ مِنْكَ رَغِيفـاً *** يَعْلُو خُواناً نَظِيفـاً
أُرِيدً مِلُحاً جَرِيشـاً *** أُرِيدُ بَقْلاً قَطِيفـاً
أُرِيدُ لَحْماً غَريضاً *** أُرِيدُ خَلاً ثَقِـيفَـاً
أُرِيدُ جَدْياً رَضِيعـاً *** أُرِيدُ سَخْلاً خَرُوفَا
أُريدُ مَاءً بِـثَـلـج *** يَغْشَى إِناءً طَرِيفاَ
أُرِيدُ دَنَّ مُـــدَامٍ *** أَقُومُ عَنْهُ نَـزِيفَـا
وَسَاقِياً مُسْتَهَـشّـاً *** علَى القُلُوبِ خَفِيفَا
أُرِيدُ مِنْكَ قَمِيصـاً *** وَجُّبةً وَنَصِـيَفـا
أُرِيدُ نَعْلاً كَثِـيفـاً *** بِها أَزُورُ الكَنِيفَـا
أُرِيدُ مُشْطاً وَمُوسَى *** أُرِيدُ سَطْلاً وَلِيفَـا
يَا حَبَّذَا أَنا ضَـيْفـاً *** لَكُمْ وَأَنْتَ مُضِيفـا
رَضِيتُ مِنُكَ بِهَـذا *** وَلَمْ أَرِدْ أَنْ أَحِيفـاً))
و... بس!!شفتوا مطالبهم شلون متواضعة ومحدودة؟!
ولا يقل أحدٌ منكم إن متظاهري مقامة بديع الزمان (مو مثلنه) وإنهم مجرد (حفنة ضالة ومندسة من المتسولين والمكدّين الوقحين الذين تحركهم أيادٍ خارجية) فمطالبهم، إن أردت الحق، مثل مطالب متظاهري اليوم، كانت كما يبدو من (الردح) أعلاه، عادلة بسيطة لا تخرج عن لقمة نظيفة وثياب لائقة وبضع كؤوس تدوخ الجمجمة وتهوّن عليهم قسوة الحياة في ظل لصوص المنطقة الخضراء. عفواً، أعني دمشق الغرّاء.
الكلمة ومعناها:
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
الخوان: ما يوضع عليه الطعام عند الأكل، صينية، جريدة الخ. اللحم الغريض: التازة. خل ثقيف: كلّش حامض. دن المدام: دَبَّة عرق. النزيف: السكران الفاقد. النصيف: أي شي يغطي الراس. أحيف: أروح زايد!