المنبرالحر

البصرة ينبوع الحركات الفكرية والثورية في التأريخ القديم والحديث / د. صبيح الجابر

احياناً كثيرة يلجأ الحكام الطارئون إلى الغاء الماضي والتعتيم عليه، وربما يلجأون إلى شطبه اذا وجدوا أنه يتعارض مع وسائلهم و اساليبهم في الحكم مثلما فعل متآمرو البعث مع ثورة 14 تموز 1958 عندما جعلوا من انقلابهم في 17 تموز 1968 بديلا عن ثورة العراق في 14 تموز 1958. ما يدعونا الى الحديث اليوم عن البصرة التأريخ والحاضر هو ذلك النفر من الحكام المتسلطين على رقاب البصريين الاصلاء والمدعين بخصوصية البصرة، وتكييف هذه الخصوصية مع طبيعة سنوات حكمهم العجاف، وهم بادعائهم هذا قد أضاعوا ماضي البصرة المشرِّف وحاضرها المشرق.
ان البحث في تأريخ السلطات الحاكمة فيه الكثير من الاشكاليات، لكن هذا لا يعني طمس معاناة الناس وتضحياتهم الجسيمة او تشردهم واذلالهم وتعذيبهم. فتعالوا معنا من خلال هذا العرض السريع لمحطات ثورية وفكرية ظهرت في تاريخ الدولة الحاكمة وآيديولوجيتها على مدى قرون من الزمن لنقف أمام الحركات الفكرية والثورية، لنرى ان جميعها كانت قد ظهرت في البصرة، وانتشرت على مساحات واسعة. واستمرت قرونا طويلة.
ان علماء البصرة ومفكريها كانوا يقفون في مقدمة الجماهير الغفيرة المضطهدة والمقموعة والجائعة،يحثونها على الثورة ضد الظلم والقمع، ولا يريدون ان يتزعموها او يحكموها او يذلوها، أو يسرقوا قوتها اليومي، ولكنهم كانوا يزرعون في عقولهم وعياً وفكراً حتى نضجت الثورة في نفوس ابناء البصرة، وتجذرالفكر في عقول علمائها، وما نعرضه من شواهد الثورة والفكر لأبناء البصرة ما هو الا شيء قليل من اشياء كثيرة اختزنها التأريخ من خلال مسيرته الطويلة، سواء في المجال الثوري الجماهيري، او في المجال الفكري والعلمي.
في الثورة والانتفاضة
كانت انتفاضة الفلاحين في البصرة أيام ولاية الحجاج الذي كان يحكم باسم الأمويين هي من اولى الانتفاضات التي قادها البسطاء من أبناء البصرة ضد سلطات القمع التي كان يقودها الحجاج نفسه. وقد انضم الفلاحون إلى المنتفضين بعد أن هربوا من ظلم جباة دولة الخلافة، وبعد أن علموا بأن المعارضين للسلطة يساندون المظلومين من أهل الريف. ومن ابرز الثورات الشعبية، ثورة الزنج في البصرة التي ارتبطت ارتباطاً مباشراً بأسوأ ظواهرالاستغلال الاقطاعي للقوى البشرية المشتغلة في الارض، كما أنها كانت مواجهة بين الفلاحين ومالكي الارض.
والمشكلة ان الفلاحين الاصليين في البصرة كانوا يرزحون تحت وطأة الضرائب، وقسوة الجباة، ما اضطرهم إلى هجرة العمل خصوصاً بعد أن اصبحوا لا يملكون منها شيئاً، منذ أن اقتطعتها دولة الخلافة إلى كبار التجار الاثرياء، لتوظيف اموالهم في استملاك المزيد من اراضي الفلاحين الصغار الذين يشكلون اوسع الجماهير الفلاحية، الامر الذي تطلب توفير المزيد من الايدي العاملة الرخيصة التي تم استجلابها من شرقي افريقيا بأعداد كبيرة وصلت إلى ستة آلاف من زنوج افريقيا يقابل ذلك هجرة الفلاحين الاصليين من ريف البصرة إلى المدن تخلصاً من ظلم الاقطاعيين الجدد، فوقع هذا الظلم على الزنوج، وكان سبباً في اشتعال ثورتهم في البصرة.
وقد وجد هؤلاء الثوار من الزنوج والفلاحين المضطهدين، وعموم الكادحين في شخص (علي بن محمد) المعبر الشجاع عن معاناتهم، والمنظم المقتدر على قيادة هذه الثورة، فكانت استجابة الجميع للثورة سريعة فأحدثت ثورة الزنج هزة عنيفة لأركان دولة الخلافة، بما اكتسحت من مدن وقرى واراض عامرة لمدة خمسة عشر عاماً. ثورة الزنج هذه هي الثورة الثالثة في البصرة، وان كانت هي الكبرى، وكانت طبقية ولم تكن عنصرية بين السود والبيض، بدليل ظروفها الاقتصادية وقيادتها من البيض، من علي بن محمد إلى علي بن أبان، ويحيى بن محمد او محمد بن سلم كما ان جماعات كبيرة من الاعراب ومن الفلاحين من غير الزنج قدموا لهذه الثورة مساعدات قيمة من حيث تموين جيوشها. هذه هي البصرة وهذه حركاتها وانتفاضاتها الثورية المستمرة ضد الظلم والقهر والاذلال.
في مجال الفكر والعلوم
بعد ان اصبح معبد الجهني اولاً وغيلان الدمشقي ثانياً ضحيتي رأييهما في (نفي القدر عن فعل الانسان) جاء بعدهما الحسن البصري الذي حمل راية هذه الفكرة التي اصبحت قاعدة اساسية ينهض عليها بناء مذهب عقلي يصبح منطلقاً حقيقياً لمجرى تأريخ تطور الفكر العربي نحو الفكر الفلسفي، الذي هو مذهب المعتزلة القائم على حرية الرأي والذي يسعى إلى فتح الابواب أمام المظلومين والمضطهدين.
لكن مذهب الجبرية الذي اظهره معاوية وتمسك به، لتبرير افعاله بقضاء من الله وقدره، فرضه على الدولة وجعله قانوناً ظل ساريا بعد ذلك في حين ان (مذهب القدرية) أوجد للمعارضين، وخاصة الفئات الاجتماعية التي تعاني مظالم هذا الحكم، أوجد لهم آيديولوجية مقابلة لأيديولوجية الطبقة الحاكمة الاموية. ولم يكن مصادفة أن تظهر الحركة القدرية المناهضة للجبر في بيئة البصرة ذاتها حيث تعيش جماهير غفيرة من شغيلة الارض وصغار الحرفيين وحيث تستغل هذه الجماعات اسوأ استغلال من طرف جماعات من كبار الاقطاعيين وكبار التجار ورؤساء القبائل النازحين من الجزيرة العربية مع جيوش الفتح الاولى. مضافاً إلى ذلك أن الحركة الثقافية الناشطة في البصرة يومئذ كان زمامها بأيدي الفئة التي كان يعدها الأمويون في المرتبة الدنيا من المجتمع العربي بل يعدونها في مرتبة (العبيد).
والحسن البصري، الذي ظهرت الحركة القدرية بشكلها الفكري في حلقته الدراسية في مساجدها البصرة هو نفسه كان معدوداً من الموالي.
ان المذاهب الفلسفية ظهرت في البصرة قبل غيرها.. كما أن المعتزلة أو فكرة المعتزلة قد ظهرت اولاً في البصرة، ومنها اخذها القرامطة كنظرية ليحولوها إلى ثورة اقاموا في ظلها دولة ديمقراطية عاشت أكثر من نصف قرن وكانت عاصمتها البحرين.
حركة الزهد
شكّلها علماء ومفكرون من اهل البصرة وكان ابرزهم الحسن البصري وعامر عبد قيس..
وقد عارضت حركة الزهد الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي فتعاطفت معها الجماهير المظلومة في البصرة وغيرها. وحركة الزهد هذه تطورت حتى وصلت إلى شكلها الاعلى (التصوف).
وفي القرن الرابع الهجري برزت في البصرة جماعة (اخوان الصفاء) وهي ظاهرة عصر لا ظاهرة جماعة. ان هذه الجماعة كانت في البصرة ولها معرفة بأصناف العلم وانواع الصناعة وانها تألفت بالعِشرة وتضامنت بالصداقة واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة. فوضعوا مذهباً وصنفوا خمسين رسالة في جميع اجزاء الفلسفة علمياً وعملياً، وسموا هذه الرسائل (رسائل اخوان الصفاء) وابعدوا أسماءهم.
تميزت البصرة طوال العصر الاموي بظاهرتين
الاولى: كون البصرة كانت اكثر الامصار الاسلامية احتشاداً بالقوى الاجتماعية، والاحزاب السياسية المعارضة للحكم الاموي. والبصرة كانت مركز تجمع كبير لفئات واسعة من الكادحين، كشغيلة الارض والعبيد وصغار التجار والمعدمين والمستخدمين في الصناعات الحرفية.
الثانية: ان البصرة بسبب هذا التجمع المتنوع كانت تتعرض لأشد مظاهر الاضطهاد.. ولهذا كانت اسبق من غيرها استعداداً لتمثل الافكار والعلوم لتستخدمها سلاحاً آيديولوجياً يعارض السلاح الإيديولوجي الاموي. من خلال هذه المحطات السريعة في واقع البصرة السياسي والفكري - الثوري عبر التاريخ نجد ان البصرة لم يدجنها حاكم ويخضعها لسياسة حكمه وايديولوجية سلطته وخاصة اذا كانت هذه الايديولوجية لا تحمي الفقراء والمضطهدين ولا توفر لهم الامن والامان ولا تؤمن لهم لقمة العيش والحياة الحرة الكريمة.
لذلك ليس بمقدور مجموعة من الطامحين الطامعين بالسلطة والثروة والنفوذ ان تستبدل ظلم التاريخ بظلم إفرنجي ملتح جديد يعيد البصرة مئات السنين من اجل اغراض شخصية لمجموعة لا تهمها معاناة الناس ولا انسحاقهم واذلالهم. فهؤلاء حتى وان نجحوا في مسعاهم التضليلي هذا فان جماهير البصرة ستثور عاجلاً ام آجلاً على المتسلطين والدجالين وسيكون مصيرهم كمصير غيرهم ممن عبثوا بمقدرات الناس، وبحاضر البصرة وماضيها المشرق.