المنبرالحر

بلا هوية ... بلا وطن / سهير الوندي

شباب العراق أدركهم ثقل السنين في بلد تزحف إليه الشيخوخة كزحف الظلام نحو النهار المشرق، ترهلت ملامحه النضرة وناخ ظهره وخارت قواه وكأن الوطن بأكمله دخل سن اليأس في وقت مبكر ، فالملل والضياع والرتابة والخوف وفقدان الأمن وعدم ضمان العيش الكريم أصبح جزءاً من مواصفات العراق ، الأمر الذي أدّى إلى هجرة الشباب بالمئات بل بالآلاف بعد أن أصبحوا على قناعة تامة بإنعدام الأمل في حياة كريمة فمضوا في قوافل دون أن يدروا بأنهم يسيرون في إتجاه معاكس للوطن وبهذا قطعوا كل الجسور مع الوطن حتى اشعار غير معلوم .
شبابنا اليوم يهاجرون بعد أن سقطت قلوبهم من علائقها بموت أحلامهم وطموحاتهم فطفح بهم الكيل وتقطعت أوصال صبرهم فاختاروا لأنفسهم مسقطهم الأخير في المنفى فحزموا أعمارهم وتسربلوا أحلامهم المستحيلة وطموحاتهم اليائسة وركبوا أمواج الخطر وألقوا بجوازات سفرهم في غياهب البحر وتخلوا عن أسمائهم لينالوا اللجوء مع مرتبة الشرف فأصبحوا في دربهم الشائك هذا بلا هوية ... بلا وطن ، واضاعوا بوصلتهم وانقطعوا عن تاريخهم واختاروا أن يؤثثوا غربتهم بالنسيان وأن يصنعوا من الغربة وطناً لهم فعليهم الآن أن يتعودوا العيش فيه ولا بدَّ لهم أيضاً أن يتعلموا الوجه الآخر للنسيان فلم يعد هناك من ضرورة للحنين بعد اليوم ، هذا ما يؤكده واقع الحال المرير.
ومن المدهش أن يصل البعض من شبابنا المهاجرين بخيبابته حد الرقص على أغنية ( يا ستّار ) العراقية وهو يجوب شوارع الغربة وهذا ما رأته عيناي ، فالخيبات يا أبنائي ويا أخوتي لها مقاسات خاصة ، ومن المفارقات الغير جميلة بأن مقاس الخيبات فُصِّلَ تحديداً ليناسب جميع العراقيين لذا أرتدى الشباب خيباتهم بأناقة ووجاهة ، وأما الشقاء فإنه يعرف كيف يختار أناسه ولهذا أختار العراقيين ليمنحهم كل الفجائع المذهلة لينفردوا بها . فنصيحتي لشبابنا الأعزاء الذين أختاروا الغربة وطنا بأن يحملوا أسم العراق في داخلهم بكبرياء أكبر وبوعي أكثر بدلاً من الرقص على أغنية يا ستّار في شوارع الغربة ، فأنتم أكثر من شباب حالم بل أنتم الوطن بأكمله ، فلا تنحازوا في غربتكم إلاّ إلى مبادئكم وقيمكم ، ولا تجاملوا سوى ضمائركم لأنكم في النهاية لا تعيشون مع سواها ، وتذكروا بأن العراق سيبقى في حاجة ماسة إليكم وإلى سواعدكم وعقولكم النيّرة لإعادة بناء ما دمرّه الأعداء وسيحيا على أمل عودتكم إليه في يوم ما لأنكم فخر العراق.
وبعد هذا الخراب الجميل الذي حلَّ بالعراق وأهله والذي اشتهيناه لأنفسنا لأننا شعب لا نرضى على أحد ولا على شيء ولا نمتلك الرضا حتى على أنفسنا وارضاؤنا غاية لا تُدرك أوجه ندائي الى الحكومة العراقية الرشيدة وأقول : أدركي العراق ايتها الحكومة فأنه أوشك ان يفرغ من أهله فالعراقيون يهاجرون تباعاً مجموعة بعد أخرى ويتركون مقاعدهم في قلب الوطن شاغرة فلا تشغلوا مقاعدهم بالغرباء فالخراب لا يأتي إلاّ على أيديهم والعراق لا يحيا إلاّ بأهله.