المنبرالحر

إتفاقية سايس - بيكو بين قرنين / د. علي الخالدي

بعد الحرب العالمية اﻷولى وإنتصار الحلفاء ، أصبحت امكانية تفليش اﻷمبراطورية العثمانية وإنشاء دول على أنقاضها تخضع لمشيئة المنتصرين أمر لا بد منه ، ولتحقيق ذلك ، رُسِمت خريطة لدول شرق أوسط جديد ، في منطقة الهلال الخصيب ، الذي كانت الخلافة العثمانية مسيطرة على ولاياته ، فاقتطعت أراضي من دول ، وضمت لدول أخرى ، تحقيقا لإستراتجية مهندسي مشروع التقسيم فرنسا وبريطانيا ، لمعرفتهما المسبقة أن ذلك سيخلق عدم إستقرار سياسي قومي بين الدول المستحدثة وجيرانها . واستحالة إيجاد معالجة موضوعية قائمة على اﻹحترام المتبادل له ، بينما ستتعزز مواقع الدولتين ( بريطانيا وفرنسا) السياسية واﻷقتصادية في أنظمة الدول المستحدثة.
قام التقسيم ورسم الحدود ، على أساس اﻹتفاق الذي تم بين وزيري خارجية بريطانيا المستر سايس ، وبين وزير خارجية فرنسا بيكو ، (كانت أمريكا آنذاك تشق طريقها نحو سيطرة إقتصادية إستعمارية مدعمة بمآرب سياسية صهيونية في العالم ) . ففي 16 آيار من عام 1916 وقعت اﻹتفاقية السرية بينهما ، حددت بموجبها حدود الدول المستحدثة وأبقت على سريتها.
ظلت اﻹتفاقية مخفية الى أن كشفتها حكومة أول دولة للعمال والفلاحين في العالم بعد أنتصار ثورة أكتوبر اﻹشتراكية العظمى ، فسارعت بريطانيا ( صاحبة نهج فرق تسد ) ، كعادتها كدولة إستعمارية مراوغة ، لطمأنة العرب بأن اﻹتفاقية قد ألغيت ، بعد إنسحاب روسيا القيصرية من الحرب ودخول العرب اليها بجانب الحلفاء ، مما أثار حفيظة الصهيونية العالمية ذات المطامح التوسيعية ,وخشيتها من أن طمأنة العرب سيكون وراءها عدم المساعدة في إنشاء وطن قومي لليهود. ولطمأنة الصيهاينة سرعان ما وفت بريطانيا بوعدها وأصدرت وعد بلفورد ﻷنشاء وطن قومي لليهود ، مما صعد من المزاج القومي العربي ، وأدى الى نشوب حروب بين إسرائيل والدول العربية . خابت جهود عدم إشعالها المتكرر ، بتسوية مرضية لجميع اﻷطراف على أساس التقسيم بين الفلسطينيين واﻹسرائليين . وقفت القوى الوطنية التقدمية آنذاك بجانبة لمعرفتها المسبقة بما ستؤول اليه سياسة العرب القائمة على كل شيء أو لا شيء ، والتي نرى تداعياتها على المنطقة ليومنا هذا.
في القرن الحادي والعشرين الحالي يعاد سيناريو جديد لتقسيم المقسم ، ولكن بأيدي أمريكية وداعشية ، وبمباركة دول الجوار ، خاصة بعد اسقاط الدكتاتورية في العراق ، وإحتلال داعش ﻷراضي واسعة منه ومن سوريا . وبإلغائها الحدود بين الدولتين . تهيأت معطيات دولية وإقليمية ، هيأت إستنفار المد السلفي في بلدان المنطقة ، ﻷحياء فكرة إقامة دولة الخلافة اﻹسلامية فيها . مشجعة على اﻷعلان عن فكرة تقسيم البلدين ، على أساس مذهبي طائفي وقومي ، وبما يضمن بناء قواعد تحقق السيطرة على منابع الطاقة ، مهندسها المستر بايدن ، وأغلب الظن جرى التشاور بها مع داعش ( وهذا ما يشرحه إنعدام الجدية اﻷمريكية في مواجهة داعش ) وإسرائيل ، سيما وأن أفول رائدتي اﻷستعمار اﻹقتصادي والسياسي المباشر (بريطانيا وفرنسا) قد هوى في المنطقة بعد صعود النجم اﻷمريكي ، الذي فلح بخداع شعوبها التي جثمت على صدره اﻷنظمة الشمولية بدعم بريطاني وفرنسي ، بنشر الديقراطية التي تتعطش اليها ، وبإغراء برجوازياتها بمنافع نهج إقتصاد السوق ، كبديل لسياسة الدول اﻹستعمارية اﻷقتصادية المباشرة.
لقد قدم بايدن مشروعا أمريكيا من حيث الجوهر يتماهى مع مشروع دولة الخلافة التي لاتعترف بالحدود ،لكنه ضمن خريطة جيوسياسية تلبي أهداف اﻹستراتيجية اﻷمريكية وحلفائها بالمنطقة بالسيطرة على ثروات المنطقة الظاهرة والكامنة في باطن أراضيها ، والمحافظة على أمن أسرائيل ، وكلاهما أخذا بنظر اﻹعتبار مغازلة نوايا ومآرب الطوائف والقوميات في المنطقة . فأي من المشروعين سيحظى بقبول رواد المذهبية والطائفية في المنطقة ؟ ، سيما وقد سبق ذلك ، تلاقح جلافة أفكار البداوة السلفية ، مع أفكار اﻷستراتيجية اﻷمريكية والصهيونية، فأنجبت القاعدة التي هيأت لها مستلزمات نشر فكرها من السلفية الوهابية المتجاوب مع المصالح اﻷمريكية ، لمحاربة التمدن والتحضر الذي إنتفضت شعوب المنطقة من أجل تحقيقه.
وعلى الرغم من أن هذا الفكر السلفي مخالف لبقية المذاهب اﻹسلامية ، فلم يجري تكفيره من قبل المراجع الدينية اﻹسلامية كاﻷزهر ، واﻹخوان المسلمين ، بل دعما نشر وباء إرهابها في أفغانستان ومن ثم سكتا عن إحتلال أبنتها (داعش ) ﻷراضي شاسعة من سوريا والعراق والغاء الحدود بينهما ، وما صاحب ذلك من ملاحقة المكونات العرقية لمجتمعيهما وتهديم آثارهم ، بمعاول صناعة أمريكية إقليمية لتحرمها من رحيق التاريخ وطيبته ، تجيد إستعمالها أيادي تتنكر للبعد الوطني ، وتحرص على تحقيق المصالح الطائفية والقومية ، تحت أنظار من يدعي حقوق اﻷنسان والديمقراطية ، ليخلو الجو لداعش ، وأقرانها من المتشددين اﻹسلاميين في دول المنطقة ليُمرر مشروع بايدن التقسيمي.