المنبرالحر

من الطائفية والتطرّف إلى الإرهاب* / ماجد الياسري

هناك ثلاثة مفاهيم مترابطة ولكن مختلفة جوهريا وهي العنف و التطرّف والارهاب
العنف مفهوم فيزيولوجيي، أنثروبولوجيي - اجتماعي وسياسي وله تداعيات اخلاقية وقد يكون عنفا مسلحاً او غير مسلح.
التطرّف هو حالة من الغلو والتشدد في فهم و تطبيق عقيدة دينية او مذهبية او طقوس او ممارسات اجتماعية و قد يرافقه العنف و بضمنه العنف المسلح. وهنا لابد ان أشير الى وجود من يعمم مفهوم التطرّف و يسحبه على الايديولوجيات ومنها الماركسية في كتابات يدعو فيها الى الاعتدال والوسطية.
الخلل النظري لدى هؤلاء، وهم عادة من وعاظ السلاطين لمرحلة بعد 2003، هو ان الماركسية كمنهج و فلسفة و ممارسة تختلف عن غيرها من المدارس الفكرية الاخرى لامتلاكها مفاهيم وأدوات لمعرفة و تحليل حركة الواقع و المجتمع و الفكر ورؤية في الممارسة عبر التنظيم الثوري لتغيير العالم جذريا و باتجاه مجتمع ينتهي فيه استغلال الانسان للإنسان. ولهذا فالمقاربة في التحليل الماركسي تختلف نوعيا وجوهريا عن المذاهب و العقائد الاخرى الدينية او الفلسفية او السياسية.
ففي حالة اقحام مفهوم التطرّف على الماركسية تكون الحصيلة نفي نظرتها الثورية عن العالم وسيحول الطريق السلمي الى حالة مطلقة ويلغي مفاهيم أساسية كالطبيعة التناحرية للصراع الطبقي والبديل عنه التعاون الطبقي و اما التفكير في قضية السلطة فهو امر مستبعد كليا ويتم اختزال الأهداف الاستراتيجية في إقامة الاشتراكية الى تحقيق مجتمع مدني وعدالة اجتماعية.
اما الاٍرهاب فيعني استخدام أشكال من العنف و القسوة و التدمير ضد مدنيين عزل لإثارة الرعب و تحقيق أهداف سياسية لا علاقة مباشرة لها بالعمل الإرهابي. ويوجد اكثر من ١٩٠ تعريفا للإرهاب تعتمد على الباحث ان كان عسكريا او أكاديميا .
وتمثل الطائفية التي تتداخل مع العنف و التطرّف و الاٍرهاب، في فكر و ممارسات الاسلام السياسي حركة عنصرية سياسية مغلفة بكساء ديني، تبشر بالكراهية والتعصب وتكفير الاخرين ممن يرفضون التفسير الضيق للعقيدة و تهين و تحرم القيم و المقدسات التي يعيشها من يؤمن بمذهب إسلامي يختلف في تفسير العقيدة والرأي و العبادات.
ومن سمات الطائفيين تبشيع الآخرين والتحريض ضدهم بأشكال مختلفة وصولا الى المطالبة بالتحريم والتصفية الجسدية لهم و لعوائلهم وقد تصل الى التطهير العرقي و تهديم الأماكن المقدسة ومحال العبادة والمزارات واستخدام الإرهاب كآلية لإثارة الرعب و الفزع لتحقيق رؤيتهم المريضة للمجتمع الطائفي المثالي والقيم السلفية.
و في الجانب الاخر تمثل الطائفية حركة رجعية تسير عكس مسار التاريخ، لاعتمادها على تفاسير سلفية تفتقد الاسناد العلمي والتاريخي وتحرم كل نشاط تنويري يمكن ان يسهم في عصرنة المجتمعات الإسلامية فتفرض الجمود العقلي والبلادة الذهنية وتبالغ في قشور الثقافة وتقمع كل ما هو جوهري و تقدمي.
وتعتمد ايضا قراءة ملتبسة لنصوص القران او تفاسير واحاديث تعود إلى قرون سابقة ضعيفة الأسانيد مليئة بالخرافات والأمراض الاجتماعية والهوس الجنسي و مشحونة بالكراهية والتبشيع ضد اي مجموعة تخالفها في الرأي و العقيدة حتى وان كانت من ذات الأصول الدينية وتعتمد ذات القواعد الشرعية والفقهية العامة وفي لحاظ عقلية الضحية " كمظلومية الشيعة" او " اضطهاد السنة " وتبشر بالانتقام واستناداً الى تبريرات مذهبية تاريخية تشرعن القتل والمذابح الجماعية و الاغتصاب والسبي.
وليست الطائفية خاصة بالمذاهب الاسلامية السنية او الشيعية بل تجد ما يماثلها في عقائد و ديانات اخرى و في مراحل تاريخية مختلفة والتي تختلف في مضمون وجوهر العقيدة او خصوصيات عباداتها وطقوسها وتشترك في جوانب الكراهية والحقد والتبشيع واستهداف الآخرين ممن ينتمون الى مذاهب دينية اخرى.
الامر الذي يدلل على ان الأساس الديني هو الذريعة والتبرير الا ان الجذور الحقيقية لنشوء وتبلور الطائفية ذات أساس طبقي او اجتماعي اقتصادي وانعكاس لصراع سياسي عنفي من اجل الموقع و القوة و السلطة و المال.
وعلى أهمية الأبعاد الأيديولوجية والتاريخية والفقهية مثلا في الاسلام كعقيدة و فلسفة و طقوس التي تفسر التكوين الاجتماعي و الروحي للمذاهب كالشيعة و السنة الا ان الطائفية تتجاوز ذلك سياسيا و اجتماعيا لتضع الدين في خدمة المشروع السياسي وتستخدم الدعاة والمبشرين والمدارس الدينية والمؤسسات الخيرية وبضراوة كأدوات للتوسع الفكري القسري و الامتداد بين التجمعات البشرية و على الارض على حساب المذاهب و الديانات الاخرى عبر أساليب قسرية متنوعة و بالإكراه وتحت طائلة التهديد بالتصفية الجسدية او الروحية كما وتفرض لونا واحدا من التفسير للعقيدة والممارسات و الطقوس والفتاوى الشرعية، لكن في المطاف الأخير تلتقي جميعها على هدف فرض نظام سياسي قمعي شمولي ذي ممارسات ارهابية تعطي صلاحيات مطلقة الى الحاكم باعتباره ممثل الله في الارض تستوجب طاعته سواء كان شيعيا مثل ولاية الفقيه و سنيا خليفة المسلمين .
ومن الفرضيات الشائعة التي تعكس تفسيرا مثاليا ملتبسا للتطرف والطائفية تلك التي تسعى إلى إسقاط العنف و الصراع الطائفي على سيكولوجية وشخصية الفرد او المجتمعات وإلغاء العامل الاقتصادي الاجتماعي.
ويبشر بها في العراق وعاظ السلاطين قبل وبعد ٢٠٠٣ لتفسير التطرّف و العنف و الاٍرهاب،
العلة تكمن في المواطن او الشخص نتيجة التربية الفاسدة في العوائل... وهي تنفي دور الأنظمة والحكومات و الأحزاب الممثلة للفئات الاجتماعية المستغلة في تبني الطائفية وتسخيرها لمصالحها الطبقية.
هذا التحليل المثالي معرفيا تجده غالبا في كتابات العديد من الإسلاميين او الليبراليين الجدد ممن يتجاهلون البعد الاجتماعي والاقتصادي في التحليل هربا من الاستنتاجات التي تهدد مصالح اسيادهم.
ومن الجدير بالاشارة ارجاع بعض المثقفين العلمانيين العنف والتطرّف الى طبيعة الشخصية العراقية والتي يتم توصيفها بنمطية سالبة من المزاجية والجبن و الحزن و ضعف الالتزام والمراوغة وغير ذلك، خاصة في فترات الركود الاجتماعي وخفوت المزاج الثوري و عندما يفرض التجييش الطائفي الذي تستجيب اليه ملايين من الشيعة... ويستند هؤلاء الى قراءة ملتبسة لأطروحات علي الوردي عن التناشز الاجتماعي وانعكاس الصراع بين البداوة والحضارة على العراقيين والتي تحظي بشعبية واسعة.
ويعود جذر هذا التحليل الى فقدان الأمل بقدرات الشعوب على تغيير مصائرها و الخنوع الى التسلط الشمولي لسلطة الدوله.
وعادة ما تخفت في فترات الصعود الجماهيري و التي يشهدها العراق اليوم ومن الظواهر الجديدة نسبيا والجديرة بالبحث والمتابعة تلك المرتبطة بالعنف والتطرّف والصراع الطائفي في العراق مثلا بعد انهيار الدولة وتحطيم وسرقة مؤسساتها وحل الجيش بعد الاحتلال الامريكي في ٢٠٠٣ وفي البلدان العربية الأخرى بعد سقوط الأنظمة القمعية ذات الصبغة العروبية والتي استحوذت على السلطة عبر انقلابات عسكرية، فيما اصطلح على تسميته بالربيع العربي.
و التي جاءت بواقع جديد يتميز بتفتت جهاز الدولة و صعود حكومات ضعيفة وعاجزة عن تنفيذ متطلبات التنمية الاقتصادية او احتياجات المواطن الاساسية وتفشي الفساد و الهرب الى الخلف وراء هويات فرعية وانتماءات عشائرية او مذهبية استغلتها قوى الاسلام السياسي عبر نشر ميليشيات مسلحة وشبكات من الدعاة والمبشرين والمؤسسات الخيرية والجوامع والمدارس الدينية وبدعم إقليمي وأحيانا دولي يهدف الى تحويل الانتماء المذهبي الى وعي طائفي يدعم مشاريعها التفكيكية والعنصرية لمنطقة الشرق الأوسط .
في هذا الواقع العربي والاسلامي المعقد وجدت الاصولية الوليد غير الشرعي للتزاوج بين المذاهب والتفسيرات الوهابية والسلفية والتي تبشر بالعنف الوحشي كآلية لفرض امتدادها على الارض وهيمنتها العسكرية و الأيديولوجية وبالذات ضد كل ما يشكل افقا تنويريا يهدف الى بناء مجتمع مدني.
ومن آليات التيار السلفي هو التكفير و تصفية الخصوم و تحريم التفكير والاجتهاد العقلي والتأويل في قراءة النصوص الدينية. وتشرعن الاصولية استخدام العنف وحد السيف للقضاء على الخصوم على أساس قراءة منتقاة للقران والاحاديث النبوية، اي ان الاصولية هي جوهر ايديولوجية الطائفية كممارسة و نظام .
نشر معهد بوكنج في ٢٠١٣ دراسة كتبتها الباحثة جنيفيف أبدو المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط و الاسلام السياسي ولها العديد من البحوث و الكتابة في هذا المجال وتناولت ذات الموضوع اي تأثير احداث ما يسمى بالربيع العربي وانهيار الأنظمة التسلطية الدكتاتورية التي جاءت عبر انقلابات عسكرية وعلى أساس خطاب قومي عربي على المجتمعات العربية و الفراغ الذي أعقب انهيار هذه الأنظمة والذي تمددت فيه القوى الاسلامية و بسرعة فائقة في غياب دور واضح او مميز لليسار العربي بكافة اطيافه.
وتناولت الباحثة و ببعض التفصيل الدور الإيراني في الاستفادة من هذا الواقع الجديد لتصعيد تدخلها في هذه البلدان عبر تمويل و تسليح ودعم قوى سياسية شيعية وخلق ميليشيات موالية لها وفرض توازن مجتمعي تتغلب فيه الطائفية كمشروع سياسي، ويلاحظ ان الوضع الداخلي في هذه البلدان العربية تطور بأشكال متباينة ولأسباب تاريخية وخارج السياقات الإيرانية او الامريكية بينما امتدت الصراعات الطائفية لتصل الى سورية والبحرين و اليمن ومصر وإيجاد ركائز للتصعيد الطائفي في السعودية و الكويت.
وهكذا بعد احتلال العراق في ٢٠٠٣ واحداث الربيع العربي انفلت العفريت الطائفي وخطابه الاستفزازي الدموي وبدعم وتحريض من الفئات ونخب الاسلام السياسي بكافة ألوانها، ومافيات الفساد وغسيل الأموال المستفيدة من الوضع السائد.
ان الجديد الذي جاء به الربيع العربي هو تشظي وتعدد الأحزاب الاسلامية و تغيير اساليبها في الترويج و الدعاية و التحريض و الترويج الى ان الاسلام هو الحل في محاولة الوصول الى السلطة بأية طريقة وثمن وباعتماد الخطاب السياسي الطائفي والذي عمق بدوره الصراعات بين احزاب الاسلام السياسي لملء الفراغ وخوض صراعات مسلحة ودموية لفرض واقع ينسجم وأيديولوجيتهم وسياسات الداعمين الإقليميين لهم.
اما على المستوى الدولي فقد كرست سياسات الإدارة الامريكية والغرب بشكل عام دعما وتشجيعا وتمويلا للتشظي الطائفي والاثني والدفع باتجاه تحويل الكيانات الوطنية العربية الى كانتونات طائفية تتصارع فيما بينها على السلطة والثروة، وإعادة رسم خارطة الشرق الأوسط والذي تردده العديد من النخب السياسية في العراق مثلا حول ضرورة عقد سايكس بيكو جديد.
ضمن هذا السياق يمكن فهم من ولماذا وكيف ولد داعش وسر الدعم الكبير لها داخليا و اقليميا .
في كل هذا يبقى السؤال الكبير الذي يواجهنا كيساريين هل فعلا كان هذا هو الخيار الوحيد وقدرنا وأين اليسار بألوانه المختلفة ومؤسسات المجتمع المدني التي تكاثرت بالآلاف وهل سبب ذلك صحية الانغلاق على الذات التاريخية التي تغلفها شعارات التجديد الشكلية من فوق والهرب الى الامام خلف شعارات المجتمع المدني و العدالة الاجتماعية النخبوية وتدني التكتيكات بسبب التنكر لقوانين الصراع الاجتماعي و تكريس سياقات التعاون الطبقي مع إهمال متطلبات العمل الدعائي و التحريضي والتوجه إلى الفئات الاجتماعية ذات المصلحة في التغيير ، وهل أصبحت الوسطية والتسامح بديلا عن الصراع الطبقي والإيديولوجي؟ ولكن هذا ليس موضوع المقال بل قد يكون جزءا من النقاش حول البدائل والحلول الممكنة.
ـــــــــــــــــــــ
* مداخلة قدمت الى اللقاء الفكري السابع المنعقد في السويد