المنبرالحر

رسائل جاسم المطير (62) الله والعراق والدواعش..

صار الناس العراقيون منذ عام 2014 حتى الآن يسمعون اسم (ابو بكر البغدادي) متكرراً ، كل يوم ، اكثر من سماعهم اسم موزارت أو اسم اينشتاين أو أسم عادل إمام.
حتى المسلمون والصوفيون صاروا يسمعون باسم البغدادي ألف مرة أكثر من اسماء إسلامية بارزة مثل الزاهدة رابعة العدوية (توفيت عام 796م) وأكثر من الرازي(توفي عام 923م) وابن سينا (توفي عام 1037م) والفارابي (توفي عام 950م) وابن رشد (توفي عام 1198م) وغيرهم.
صار اسم (ابو بكر البغدادي) جوّالا في كل تلفون جوّال وفي كل صور التلفزيون وفي كل حرب خرافية أو جريمة ذات نسغ من شجر المقابر الجماعية وسبي النساء واغتصابهن.
يبدو واضحاً لكل الباحثين في السيرة الذاتية لخليفة تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) المدعو ابو بكر البغدادي أنه لم يخضع في أي يوم من أيام حياته لأي تأثير حضاري، سواء عندما كان في مدينة سامراء أو عندما عاش في بغداد أيام دراسته الجامعية .. لم يُعرف عنه أنه عاش حياة شخصية عابثة، لكنه عاش حياة على أساس مباديء العالم القديم، القائم على (استعمال القوة) لفرض الآراء والرغبات الدينية - الشخصية . اعتمد على الحصانة الوهابية – الحنبلية من الناحية الثقافية والاخلاقية والسلوكية . كان وما زال بعيداً عن اثبات أنه يؤمن بأي شكل من اشكال (الاستنارة) و(الحداثة) و(المدنية). إنه مجرد لاهوتي متعالٍ طاغية، برهن إنه لا يتقن غير إظلام الذات والمجتمع بمعانٍ واساليبٍ جديدة - قديمة من قتل البشر بوسائل همجية متوحشة : ( الحرق البدني كما في حال الطيار الاردني الأسير معاذ الكساسبة عام 2015.. الذبح الجماعي بالسكين والبندقية كما هو حال ابادة الشباب في سبايكر عام 2014). إنه نوع من لاهوت قائم على تغييب وجود الله كأنه يريد الوصول إلى حد اعلان موت الله في كل ممارسة يومية من ممارسات تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) بقيادة ابو بكر البغدادي ( جريمة الابادة الجماعية في باريس يوم 13 – 11- 2015 ).
الشيء الحضاري الوحيد الذي يهتم به أبو بكر البغدادي ، كل يوم، هو اختيار احدث انواع الاسلحة والسكاكين لحمايته، واختيار افضل انواع الاقمشة الاوربية لصنع ملابسه ،وافضل انواع الجلود الايطالية عند شراء احذيته، وافضل انواع العطور الفرنسية عند تعطير لحيته .عنده عشق للساعات السويسرية من ماركة رولكس وأوميجا .
وُلد ابو بكر البغدادي في عام 1971 قرب سامراء لعائلة سلفية متمسكة بالعقيدة الوهابية . تتلمذ الأبن على يد وثقافة أبيه ،الذي كان ضليعا في الدعاية الدينية على وفق المنهج السلفي وعلى معاداة جميع المذاهب السنية والشيعية الاخرى .
تربى البغدادي خلال طفولته وفتوته على الإنجذاب العميق إلى السلفية وعلى افكار سياسية مشوشة في فترة سيطرة حزب البعث على السلطة. لا يُعرف ما إذا كان قد تذوّق من (تفاحة) دكتاتور هذا الحزب، الشريرة السامة، أم لا ..؟
أصحابه ومعارفه من القادة السلفيين يعرفون عنه أنه مشاكس وعدواني مع اصدقائه واعدائه الشخصيين في طفولته وشبابه ، على حد سواء، مما يشير إلى أنه تذوّق من ثمرة شجرة الشر، التي زرعها صدام حسين في حزب البعث، بتلك الآونة وقبلها وبعدها، بمختلف مراحل التنظيمات التي ابتكرها نظام صدام حسين لتدريب التلاميذ منذ صغر سنهم بمعسكرات تأهليهم الشرس خلال العطلات الصيفية والربيعية . أبو بكر البغدادي تربى في هذه الأجواء ونال مثل هذا التأهيل حتى دخل (جامعة صدام للعلوم الاسلامية) وهي من الجامعات المشروط قبول طلابها بالتزامٍ حزبيٍ وثقافةٍ أصولية.
لا شك أن تمسك البغدادي بالشجرة البعثية كان لفروعها تأثير كبير على مستقبله في حالتين أو في مرحلتين من مراحل سيرته :
- الحالة الأولى أنها ساعدته وزكّته عندما بلغ سن الثامنة عشرة على دخول جامعة صدام للعلوم الاسلامية عام 1989 وهي (جامعة دينية) اسسها الرئيس صدام حسين مع بداية (الحملة الإيمانية) بعد توقف الحرب العراقية – الإيرانية . درس فيها بعمق (العقيدة الحنبلية) مركّزا أن يتقن تجويد القرآن وقراءته والإلمام بألفاظه الصحيحة لكي يكون خطيباً إسلامياً مفوّهاً حتى اصبح بعد تخرجه إماماً وخطيباً في جامع الامام احمد بن حنبل .
- الحالة الثانية هي في استخدام مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتعاظم الافكار السلفية في العراق وفي البلدان العربية كافة، وركوبه موجة (الروحانية) و(الطهرانية) التي راح ينشرها عبر خطبه في جوامع سامراء وبغداد مستظلاً بالنكهة الدينية المتعاظمة في خطب صدام حسين في تلك الفترة بعد أن طغت (الطاقات الاعلامية السلفية) في بعض البرامج التلفزيونية الرسمية العراقية.
كان واضحاً ، في تلك الفترة، تراجع الثقافة الشيوعية والتقدمية والديمقراطية والقومية ومحاولة الدكتاتور المؤمن إفراغ المضامين الانسانية من كل منابع الثقافات التقدمية وتوجيه كل الإعلام اليومي نحو (الثقافة السلفية) وقد عزز عندي هذا الإعتقاد، شخصياً، ازدياد نشاط دور النشر العربية السلفية في العراق وفسح المجال امام استيراد آلاف النسخ من كتب ومجلدات السلفية مثل كتب ابن تيمية وابن حنبل وأبن قيم الجوزية خلال ثمانينات وتسعينات القرن الماضي. كما كنتُ ألاحظ أن أكثر مبيعات تلك الكتب والمجلدات كانت في الفلوجة والموصل وبعض المناطق الأخرى المشابهة.
تُرى عن أي دين يبحث هذا الخليفة الجديد..؟
عن أي حنبلية جديدة يسعى..؟
عن أي جهادية سلفية يريد نشرها في العالم العربي والإسلامي..؟
اسئلة كثيرة تدور في أذهان الناس منذ أعلان نفسه خليفة المسلمين عام 2010 لتحقيق طموحاته وطموحات السلفية العنفية والتخريبية ،التي مورست حتى الآن في سوريا والعراق انطلاقا من مدينة (الرقة) ومدينة (الموصل) من قبل اتباعه وأصحابه والمؤمنين به من شرق العالم العربي حتى مغربه، من آسيا حتى القارة الافريقية. كما وجدتْ سلفيته صدىً واسعاً في البلدان الاوربية وفي أمريكا ،أيضاً، حيث عشرات الآلاف من الشباب والشابات يؤمنون أن (ابو بكر البغدادي) هو القادر على نشر خلافة الله على الأرض بعد أن فشل (تنظيم القاعدة) بقيادة اسامة بن لادن في تمثيل الشخصية الإلهية .
كذلك تدور اسئلة أخرى: من يقف وراء البغدادي..؟ أي جهات فقهية إسلامية عربية تقف وراءه وتدعمه..؟ من هي الدول العربية او العالمية تقدم الخبز والمال والسلاح إلى داعش..؟ ما نوع الحماس الدافع لشباب اوربا للانظمام إلى تنظيم سري يدعو ويمارس العمليات الانتحارية في قتل الناس المدنيين بالجملة والمفرد تحت شعار ثقافي يقنعهم ان الله معهم ..؟ هل أن العمليات الانتحارية ترمي المشاركين فيها خارج (الزمان الدنيوي) لتضعهم على الفور داخل (الزمان الأخروي) ، إلى عالم (الغداء) مع النبي محمد أو تناول (وجبة العشاء) فوراً مع الصحابة ، و النوم ، فوراً، مع (حُور العِين) أم أن هذه الأقوال السلفية الجهادية مجرد استحضار لصراع قوى الدمار (السلفية الجهادية) ضد قوى البناء المدنية الحديثة..؟ أم أن الخليفة البغدادي وتنظيمه الداعشي يريد الاعتماد على (قدسية) معينة لتحضير (قدرة مقدسة) لتسريع العطب في الحضارة الرأسمالية المعاصرة وتحطيم بنى الديمقراطية الناهضة، بنشر القتل والفوضى والفساد في كل مكان من العالم ،حيثما يوجد سلفيون جهاديون يعتبرون قتل الناس وتهجيرهم عن أوطانهم هو قدس الاقداس في الأفعال الداعشية.
لا بدّ من الجوال للبحث في حقيقة تخلّي تنظيم داعش والخليفة عن القيم الانسانية والتمسك بالوثنية الإجرامية لمقاومة قدرة الله على نشر مباديء السلم والعدالة والحقوق الانسانية كافة.
بعد يوم 10 حزيران 2014 أي بعد اسطورة احتلال نينوى ظهر سؤال محدد وكبير: من خلق داعش..؟ هل خلقتها آلهة الرأسمالية العالمية في الولايات المتحدة الامريكية وغيرها في القارة الأوربية أم ظهر دعم الآلهة مثنى وثلاثا ورباعا في المملكة العربية السعودية وقطر وتركيا..؟ هل هناك آلهة بدون اسم في بلدان اخرى..؟
كتلة الاسئلة تغلي بين الناس العراقيين والعرب والأوربيين سواء كانوا مسلمين ، مسيحيين، يهود، ام من اللادينيين أو البوذيين أو غيرهم من اتباع آلاف الديانات والمذاهب والعقائد.
لكن الاجوبة ما زالت مختلطة ،حتى الآن، صحيحها مع خطئها. حتى الدول الكبرى مثل روسيا تعكّرت سياستها وستراتيجتها أزاء داعش. دخلتْ إلى ميدان مكافحة الداعشية السورية (بصورة مفاجئة) وخرجتْ من الميدان بسرعة و(بصورة مفاجئة) أيضا، كمن وجد نفسه في لجة مظلمة أو هوة عميقة.
ساعات كثيرة تمر على الناس العراقيين وعلى العرب وغير العرب، على المسلمين وغير المسلمين، منذ أن صلى (ابو بكر البغدادي) في جامع الموصل الكبير في حزيران عام 2914 معلناً انتصار عمى الجريمة على مدينة حضارية، لها مكانتها في التاريخ الإنساني، وهو يحاول أن يشق طريقه إلى بناء (دولة خلافة) يقيمها للمسلمين بدءاً من (الموصل) و(الرقة) وصولاً إلى (الرياض) و(مكة) كوجود داعشي في جسم العالم الاسلامي.
شراسة داعش وعقيدتها الارهابية رسمت صورة مسيئة للمسلمين والاسلام في كل مكان وَجدَ فيه من يبايعه بالسلاح في ليبيا وتونس والجزائر والنيجر ومالي. لا يقول ابو بكر البغدادي بواقع الحال والممارسة في تكريت والرمادي وتفجيرات بغداد أنه مجرد خليفة الله على الارض وأنه لا يوظف الاسلام في خدمة اهدافه الظلامية فحسب ، بل انه يعبر عن نفسه بافعاله الارهابية ليقول للناس: أنا الله القدير على فعل كل شيء.. أنا الله القدير على العقاب الجماعي لكل من لا يؤيدنا أو الذي يدير ظهره إلينا.
إنه يعبر عن السلفية الارهابية المقيتة ،خاصة بعد انتصارات وتقدم القوات المسلحة العراقية في تحرير مناطق واسعة من الانبار وتكريت وهي تخطو الآن خطوات كبيرة في الطريق المؤدي إلى تحرير نينوى عاجلا او اجلا.
العراق ،شعباً وحكومةً وجيشاً، يخوض حرباً من نوع خاص:
• حرب نفسية من نوع خاص.
• حرب متعبة ثقيلة.
• حرب مع عدو عصي على الفهم.
• حرب دموية شرسة .
إنها حرب متعددة الجبهات والاسلحة.. لا انتصار فيها إلاّ بجهود العقل العصري والأفكار الاستراتيجية الحربية الفائقة، والسياسة الديمقراطية المتفتحة، كي يتدحرج تنظيم الدولة الاسلامية داعش إلى مزبلة التاريخ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
بصرة لاهاي في 19 – 3 – 2016