المنبرالحر

اليسار العربي وتغييب النقد الذاتي ... اليسار البحريني نموذجاً / رضي السماك

لعل المناضل العالمي الكبير الجنوب افريقي الراحل نيلسون مانديلا من القلة في العالم الذين قُيض لهم أن يعمّٰروا بعد أن قضى شطراً مديداً من حياته خلف القضبان ، إذ رحل عن عمر ناهز ال95 عاماً ، بالرغم من أن 27 سنةً من هذا العمر أمضاه في السجن ، فإذا ما خصمنا هذه المدة من حياته يكون عملياً قد عاش 68 عاماً فقط . فكم يا تُرى سيعمّر لو لم يدخل السجن أصلاً قط؟
السجن هو السجن ينال من صحة الانسان النفسية والبدنية وعمره مأخذاً على اختلاف ظروفه من سجن إلى سجن آخر في شتى دول العالم ، وعلى اختلاف مُدد السجن ، فما بالك بسجوننا العربية الأشبه بالمسالخ ، وبالتالي فكلما ازدادت ظروف السجن سوءاً وطال مكوث السجين فيه أزدادت في نيلها من صحته ومدى عمره الافتراضي والعكس صحيح . لكن لا يعني دخول المناضلين من اليسار العربي إليها قدراً محتوماً لا مفر منه في مطلق الأحوال . تداعت هذه الخواطر بي وأنا أتأمل بأسى بالغ اختطاف الموت المبكر للصديق العبقري البحريني الكبير الراحل المناضل مجيد مرهون ( 1945 - 2010 ) خلال مناسبتين جرتا في الشهر الجاري ، الاولى خلال احياء بعض سيمفونياته الخالدة المعروفة ب " سيمفونيات الذات " في اُمسية جماهيرية رائعة بالتنسيق مع الفنانين الأخوين سلمان وخليفة زيمان ،وبحضور موسيقيين ألمان كبار ، والمناسبة الثانية خلال المقطوعة الموسيقية التي عزفها عازف الفلوت الفنان البحريني احمد غانم في حفل تأبين الفقيد النقابي عبد الأمير الشاخوري بمقر المنبر التقدمي وألفها الفنان الراحل مرهون في مناسبة وفاة والدته وهو في السجن . ولم تقتصر الأعمال الفنية التي ألفها مرهون من داخل سجنه على السيمفونيات والمقطوعات الموسيقية التي كانت موضع الانبهار والإعجاب الشديدين من قِبل الأساتذة وكبار الموسيقيين في العالم منذ أمكن تهريب بعض نوتاتها من داخل سجنه الشهير في جزيرة جدا إلى اوروبا ، بل شملت تأليف الكتب الموسيقية والتي بلغت نحو خمسة مؤلفات ، من بينها "الأسس المنهجية لدراسة نظرية الموسيقي " ، لكن يبقى أهمها على الأطلاق " قاموس الموسيقى الحديث " وهو بمثابة موسوعة ضخمة من حوالي 15 مجلداً لم يصدر سوى جزئين بمساعدة احدى المؤسسات الثقافية وثمة مخاوف جدية بعدم صدور بقية الأجزاء . وتتجلى عظمة هذا الإنجاز من كون التأليف الموسوعي والمعجمي عمل كبير لا يتصدى له في العادة الا مجموعة من كبار المتخصصين فما بالك حينما يقتصر انجازه على فرد واحد في ظروف سجن بالغة الصعوبة من الممنوعات والحصار النفسي والغذائي؟ وميزة هذا النوع من المؤلفات أنه يظل مرجعاً علمياً مفيداً لا غنى عنه للباحثين وأساتذة وطلبة الدراسات الموسيقية على تعاقب الأجيال . والمُدهش حقاً عنما اطلعت على صفحات منه وجدته قد كُتب بلغة بحثية عربية سليمة وراقية وكأنما كاتبه استاذ محترف البحث الموسيقي منذ أمد بعيد هو الذي لم يسعفه الحظ لإكمال دراسته العليا.
دخل الرفيق الراحل مرهون السجن العام 1968 شاباً يافعاً في مقتبل العمر لايتجاوز ال 23 عاماً على خلفية ادانته بارتكاب عملية تفجير بحق احدى القيادات الأمنية الاستخباراتية في سجن " القلعة " مقر القسم الخاص الاستخباري وخرج منه كهلاً في مثل هذا اليوم 26 من نيسان وعمره 45 عاماً ، ليعيش بعدئذٍ 20 عاماً فقط مما تبقى من حياته قضى نحو ربعها يصارع المرض، ليتوقف نبض هذا القلب الانساني الكبير عن 65 عاماً ، فإذا ما طرحنا فترة سجنه ال 22 عاماً من عمره يكون عملياً قد عاش 43 عاماً فقط . لكن ياتُرى كم كان سيكتب الله له من العمر لو لم يدخل السجن قط ؟ أو لنقل لو دخله لفترات وجيزة ومتقطعة من مسيرته النضالية كحال بقية رفاقه ؟ بيد أن السؤال الأهم من كل ذلك : لماذا وقع الاختيار لتنفيذ هذه العملية والتي لم يكن لها أي مردود أو جدوى نضالية ولا تتسق مع النهج النضالي السلمي الذي اختطه حزب جبهة التحرير الوطني البحرانية الذي خطط للعملية على هذا النابغة والمبدع الموسيقي المتفرد النادر تحديداً ؟ لتخسر الساحة الثقافية الفنية البحرينية وليخسر حزبه ووطنه عبقرية إبداعية فذة " لا تعوّض " بكل ما لهذا التعبير من معنى ، إن بسجنه الطويل وإن برحيله المبكر ، علماً بأن نبوغه الموسيقي وتولعه وعشقه للموسيقى معروف لتنظيمه وللقاصي والداني وبرز منذ نعومة أظفاره .
على ان الفقيد مرهون ليس سوى نموذج واحد ، إذ تختزن المسيرة النضالية لليسار البحريني نماذج لا حصر لها من " القرابين " التي ذهبت تضحياتها ، سجناً أو قتلاً ، سُدى دونما حاجة موضوعية قصوى تستدعي ذلك ، هذا بفرض صحة المهمة النضالية الموكلة إليهم ، أولو جرت بعدئذ مراجعات سياسية وفكرية مهما كانت مؤلمة لدى كل محطة من محطات مسيرتها النضالية . فما ينطبق على المناضل الضحية مرهون ينسحب علي المناضل الفذ في الجبهة الشعبية الضحية محمد بونفور ( اُستشهد إثر انفجار غامض في مخزن للأسلحة بالمحرق صيف العام 1973 ) وهو الآخر راح ضحية اسلوب نضالي خاطئ برمته ( الكفاح المسلح ) ، كما وينطبق ايضاً، بسبب شيوع ثقافة هذا الاسلوب الكفاحي بين الشباب اليساري الجديد ، على كل ضحايا تداعيات عملية اغتيال رئيس تحرير مجلة " المواقف " عبد الله المدني ، إعداماً وسجناً وقتلاً بالتعذيب لكوادر من كلا الفصيلين المناضلين ( الشعبية والتحرير ) في خريف 1976 ، وفي عدادهم الشابين الوطنيين الشاعر الصديق سعيد العويناتي ومحمد غلوم ، سواء أكان المتورطون في العملية مُنَظَمون يتبعون الفصيل الأول ( الشعبية ) الذي أدان العملية أم مجرد أنصار متأثرون بثقافته السياسية .
وحينما يدخل السجون الاسرائيلية مناضل لبناني مثل سمير القنطار وقع عليه الاختيار من قِبل فصيل فلسطيني صغير( جبهة التحرير الفلسطينية ) لتنفيذ عملية عسكرية داخل اسرائيل انطلاقاً من الساحل اللبناني دون مراعاة لحداثة سنه ( 16 عاماً فقط ) ويمكث فيه 30 عاماً ويثبت في السجن نبوغه وتفوقه العلمي ألا يكفيه ذلك ما قدمه من تضحية كبيرة من سنوات عمره لندعه ينعم بماتبقى له من عمر في استراحة قصيرة قبل الموت بعد الإفراج عنه ، أو على الأقل ليُكلف من قِبل تنظيمه الجديد ( حزب الله ) بمهام جهادية سياسية غير القتال ؟ ليلقى مقتله التراجيدي في سوريا وليتيتم طفله الصغير وتترمل زوجته الشابة ؟! وقس على ذلك ،على سبيل المثال ، لا الحصر أي مناضل قيادي وطني في أي بلد عربي يخرج للتو من سجنه ويندفع في الحال أو يسكت تنظيمه عن اندفاعه للمواجهة السياسية مع سلطة بلاده ليُساق إليه مجدداً خلال أيام معدودة دونما يمنح نفسه أية فرصة لالتقاط الانفاس والمراجعة الذاتية في إطار ما يُعرف ب " استراحة المناضل " وبخاصة حينما لا يكون تنظيمه بحاجة آنية ملحة لتدفيعه هذه الضريبة من جديد وتتوفر لديه ، بافتراض صحتها وضرورتها جدلاً ، من يقوم بها عوضاً عنه في سياق توزيع الادوار او التناوب في الاضطلاع بها ( المعتقل المناضل الوطني ابراهيم شريف الامين العام لجمعية العمل الديمقراطي التي تمثل تيار الجبهة الشعبية في البحرين نموذج من هذه النماذج ) .
وإذا كنا قد تناولنا اليسار البحريني كنموذج لتغييب النقد الذاتي فلا يعني اعفاء احزاب اليسار العربي من هذه السلبية المزمنة التي طال أمدها وحان الاوان وبشكل ملح لاجراء مراجعة صريحة شجاعة لوضع كل تلك الاخطاء الكبرى التاريخية على كفة الميزان والتقييم البنّاء وعدم اجترار التبرير المبتذل لتأجيلها مرات ومرات بذريعة لم يحن بعد اوان اجرائها ، تماماً مثلما كانت الانظمة القومية تبرر بعد هزيمة يونيو 67 رفضها النقد الذاتي لاسباب الهزيمة تحت ذريعة شعارها العتيد : " لا صوت يعلو على صوت المعركة " وهو النقد المعطّل رسمياً إلى يومنا هذا منذ نحو 50 عاماً !