المنبرالحر

لا معنى للتكنوقراط في ظل الجهل بعلم الادارة / حسام الدين الانصاري

تتردد في كل يوم عبارات ومصطلحات وشعارات كلامية يطلقها هذا وذاك لاغراض ومقاصد مختلفة يروج لها مدّعو المعرفة وسياسيو الفضائيات وتجار الكلام وروزخونية البدع واقتصاديو الاكشاك ومحللو ستراتيجية رجماً بالغيب.
وآخر ما تفتقت عنه عبقرية البعض هي الدعوة الى اختيار اشخاص من التكنوقراط لتحمل المسؤولية في بعض مفاصل الدولة، واخذ الكل يرددون (تكنوقراط – تكنوقراط- تكنوقراط) وان اكثرهم للمعنى جاهلون، وغير مدركين لوظيفتهم، ولا يتخيلون المساحة التي سيعملون فيها، ولا يعلمون بماذا يجب ان يتمتع من يوصف بها.
ولأجل توضيح ما تعنيه هذه العبارة بقصد تشخيص اهمية علاقتها بعلم الادارة، هذا العلم الذي تصبح كل النشاطات السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية وغيرها، خالية من مقومات نجاحها في حالة غيابها وعدم الاعتماد على معطياتها. فاذا ما علمنا بأن (التكنوقراط) هي في الاصل مصطلح يوناني مكون من كلمتين (تكنو) وتعني (فني وتقني) وكلمة (قراط) وتعني (السلطة والحكم).. ليصبح المعنى الكامل لهذا المصطلح معبراً عن عدة دلالات تتمثل في حكومة الطبقة العلمية التقنية المثقفة، او حكومة الكفاءات او الحكومة المتخصصة في نشاطات تهم مصالح الشعب في مجالات الاقتصاد والتجارة والصناعة والزراعة والتعليم والاعمار..الخ.
وهنا يرد السؤال المهم، هل تنجح سلطة الطبقة العلمية التقنية في تحقيق اهداف المؤسسة التي تتولاها بشكلها المجرد كأشخاص يجيدون التعامل من خلال اختصاصهم فقط من دون معرفة كيفية التعامل مع مجمل حركة مسارات المؤسسة سواء كانت وزارة او هيئة مشروع عملاق او مجموعة مشاريع في مجال الصناعة او الزراعة او الخدمات او التجارة او النقل او التعليم او السياحة او أي نشاط آخر يضم محاور متعددة وتفاصيل عمل واسعة ونخب من البشر في سلم المسؤولية من العلماء والخبراء والاختصاصيون نزولا الى المهنيين والحرفيين والعمال.
عندئذ لا فائدة من ان يعتقد من اوكلت اليه مهمة (ادارة) احدى مرافق الدولة بان اختصاصه الدقيق ومهاراته التخصصية تنسجم مع صلب المهمة او الوظيفة التي اوكلت إليه وهي كافية لنجاحه في مهام عمله الجديد، وان مجرد التمسك بهذا التصور والمبالغة في الاعتداد بالنفس في الاستئثار بالمهمة واعتقاده بانه قد امسك كافة خيوط العمل واصبح فارس المهمة الاوحد انما هو الطريق الاكيد للفشل عندما ينسى او يتناسى بانه يدير مهمة متعددة الجوانب ولا تقتصر على مهاراته التخصصية كما هو الحال في ادارة طبيب لوزارة الصحة او سفير لوزارة الخارجية او ضابط لادارة وزارة امنية كالدفاع او الداخلية او الاستخبارات او مهندس لوزارة الصناعة او دكتوراه فلسفة لوزارة التعليم العالي او اختصاصي آثار لوزارة آثار او شاعر او كاتب او مسرحي لوزارة الثقافة او متخصص في الزراعة لوزارة الزراعة او الري او الاصلاح الزراعي او دكتوراه في ادارة الاعمال في وزارة التجارة او مهندس مدني في وزارة الاسكان والتعمير او البلديات او اي تخصص آخر لاية مؤسسة قيادية. بل لا بد ان يتسلح بمهارات اخرى تفوق في اهميتها مهاراته التخصصية التي قد تتعطل وتصبح غير ذات اهمية وفاعلية في غياب تلك المهارات.
ولأجل ان تتكامل المهارات التي تشكل ضمانة لنجاح مهمة القيادة فلا بد ان تتعاشق ثلاث مهارات لدى الادارة العليا القيادية وفقا لمفاهيم علم الادارة وبدرجات متفاوتة من حيث حجم اهميتها ومساحتها والتي تكون المهارة التخصصية اصغرها حجماً واهمية باعتبار ان منفذيها والمشرفين عليها هم الميدانيون في موقع العمل والذي لا يكون القائد الاداري التكنوقراط من بينهم. ولا بد من ان تسير المهارات الثلاثة بنفس الاتجاه بمعاونة اختصاصييها لتحقيق اهداف المؤسسة مهما كانت صفتها ودرجة مسؤوليتها القيادية، وتلك هي:
* المهارة الادراكية: وهي مهارة فهم تعقيدات ومسارات عمل عموم المؤسسة وتشخيص نقاط الضعف والقوة والاستفادة من الامكانات المتاحة وتوظيفها لتحقيق الاهداف والتعرف على حركة المجموعات داخلها ومدى انسجامها مع اهدافها.
* المهارة الادارية والسلوكية: وتعتبر المهارة الاكثر اهمية بين عناصر المهارات الاخرى التي يتوقف نجاح المؤسسة وتحقيق اهدافها على درجة التنظيم الذي تفرزه العملية الادارية لما لها من اهمية في كيفية التعامل مع الافراد والجماعات ورسم سياسات التخطيط والتوجيه والاشراف والمتابعة والتمتع بالقدرات الادارية في اتخاذ القرار وتحفيز العملين وحل المشاكل وكسب ثقة الآخرين وفهم السلوكيات ومهارة التفاوض وتعزيز نقاط القوة وتلافي نقاط الضعف وبعد النظر.
* المهارة التقنية او التخصصية: وهي القدرة على معرفة تقنيات وطبيعة العمل الفني والتخصصي للمؤسسة والمكتسبة من الخبرة الذاتية وتراكم الممارسات في مجال التخصص من قبل التكنوقراط الذي يتولى المهمة في ضوء قدراته العلمية والتقنية التي تساعده في فهم طبيعة العمل والتي تحظى باهتمام العملين الميدانيين بالدرجة الاولى لكونها مفتاح نجاحهم.
ومن ابرز التجارب في هذا المجال والتي تعبر عن اهمية الادارة في نجاح خطط التنمية والتحول نحو الانجازات الحضارية الرائدة هي تلك التي جرت في الصين في عهد الرئيس الصيني دينج شياو بينج الذي بدأ في اواخر السبعينات واوائل الثمانينات من القرن الماضي بارسال بعثات الى البلاد الغربية لدراسة الهندسة والاقتصاد والعلوم وطرق الادارة الحديثة بهدف التطوير الاقتصادي.. واعتمد على مفهوم التكنوقراط بمحتواه وعمقه الحقيقي في حل مشاكل الصين وتطورها وتشغيل الصينيين، حيث نجح في تحشيد التكنوقراط في فهم اساليب الادارة لحل مشاكل الصناعة والانتقال من مجتمع زراعي الى مجتمع صناعي متقدم والارتقاء بالاقتصاد الصيني حينما اصبحت المجموعة الحاكمة من التكنوقراط الذين يجيدون ادارة الدولة والاقتصاد، وما زالت الصين ترسل البعثات والمتدربين الى اشهر جامعات العلوم والهندسة والاقتصاد في بريطانيا والولايات الامريكية والتي اخذت تغزو الدول الاوربية وامريكا نفسها بالبضائع والسلع التي تعلموا تقنياتها من الغرب نفسه.
ان ما اثير مؤخرا في الاوساط الرسمية العراقية من توجه لاختيار التكنوقراط لاشغال مواقع قيادية في الدولة لم تأخذ من الناحية العملية الابعاد الحقيقية لهذا التوجه وينقصها التصور العلمي والاداري لمستلزمات تطبيقها وتشخيص المهارات التي يجب توفرها في المرشحين للعمل في المواقع القيادية والتي تأتي في مقدمتها القدرات الادارية ومنهجية العملية الادارية التي لن يتم اي نوع من التغيير والتطوير في غيابها، وتبقى العملية مجرد تمنيات واحاديث تفرز المزيد من الارباك بسبب التغيير المستمر غير المبني على خطط واهداف واضحة.