المنبرالحر

البيروقراطية مرض حكومي مزمن / حسام الدين الانصاري

الشفاء عادة ما يكون على يد الطبيب. ومطالب المواطن في تحقيق العدالة عادة ما تكون على يد الدولة واجهزتها الحكومية، ذلك لانها تمتلك السلطة والقدرة على اتخاذ القرار، وقد يتأرجح هذا القرار في دوّامة من التناقض بين الصواب والخطأ، بين الجيد والسيئ، بين العدالة والظلم، بين الايثار والاثرة. وتكون هذه التناقضات بلا شك من صنع الانسان الذي منحته الدولة صفة الموظف الحكومي. وقد تفرز هذه التناقضات مفارقات غير منطقية، وخصوصا في ظل غياب الانظمة والتعليمات والقوانين او عدم وضوحها بحيث تضيع معها معالم وسبل القرار الصحيح وتجعل مرجعية القرار خاضعة إلى مشيئة الافراد المؤتمنين على شرف وقدسية الوظيفة التي اوكلت اليهم من اجل خدمة المواطن ومنحهم الرواتب التي توفر لهم ولعوائلهم العيش بأمان، ويكونون (المحطة) التي يفترض ان تنطلق منها قيم العدالة لخدمة المواطن، هذا الانسان الذي لولاه لما حصل الموظف على وسيلة عيشه بما يتقاضاه من اجور ولأصبح في عداد من يعمل في اي عمل آخر قد لا يرضي طموحه او مكانته، فقد يعمل ساعياً للبريد او حارساً في مدرسة او عامل بناء، او ربما عامل مجار.
واذا ما احسن الموظف في اداء عمله بما يضمن حقوق المواطن فانه يكون قد ادى الواجب المطلوب منه في خدمة المواطن الذي كان سبباً في وجود الموظف الذي توفرت له مقومات وامتيازات الموقع المحترم الذي هو فيه.
وهنا يمكن ان تكون المقارنة او بالاحرى المفارقة بين نزعة الحكومة الابوية التي يجب ان يمثلها الموظف وبين المزاجية والنرجسية والعقد النفسية والاستعلاء والانانية وربما الساديّة التي تكمن في فسيولوجية هذا الموظف. فيتحول من اداة حكومية لخدمة الناس الى اداة للظلم والقهر ويلعب دور البسطال الذي يدوس على مصالح الناس ليحصد النشوة والكبرياء المفقود وما يسببه من ألم ومعاناة وارهاق للمجتمع ويزرع كراهية الحكومة واجهزتها في نفسية المواطن الانسان. وبهذا يكون الواقع عبارة عن ظاهرة شاذة عندما يفرض هذا النمط من الموظفين ارادتهم في الجهاز الحكومي وتتحول صفة الحكومة الى الوصف الذي يطلق عليها في تعاملها مع المواطنين بالصفة والصيغة التي يتعامل بها الموظف مع المواطن. ويتحقق حينئذ تسمية الجهاز الحكومي بالبيروقراطية. وهي تلك التسمية المأخوذة من الادب اليوناني التي تعني سلطة مستخدمي المكاتب الذين يتربعون على الكراسي سواء في نطاق الحكومة او المواقع الادارية التي تعطيهم القدرة على المبالعة في تطبيق القوانين والتعليمات والقسوة في الاجراءات الروتينية وإملاء نوازعهم واجتهاداتهم في العمل على غيرهم، وخاصة مع الطرف الضعيف وهو المواطن الذي يأتي لطلب الخدمة الحكومية المشروعة فيجد امامه انياباً ومخالب وجيوبا جائعة لا تشبع تسبب له فقدان الثقة بالحكومة التي جاء يطلب منها حقوق المواطنة.
وهذا ما نجده على مدى تاريخ الوظيفة الحكومية في العراق، وبالاخص عندما يتربع الجاهل بأمور وتقاليد الوظيفة على مركز العمل الوظيفي. ونرى اليوم حجم المعاناة التي يتكبدها المواطن عند مراجعته دوائر الدولة بسبب النزعة البيروقراطية والاجراءات الروتينية المتخلفة التي ترسخت في المؤسسات الحكومية نتيجة غياب النهج الابوي الذي يفترض ان تتعامل به والتعقيدات الروتينية التي يجتهد بها البعض من الطارئين على الوظيفة الذين لا يمتلكون الخبرة، مع ضعف القيادات الادارية واجهزة الرقابة التي تحول دون ظاهرة السلوك الوظيفي الخاطئ الذي يمارسه البعض من الموظفين بأساليب بيروقراطية اقل ما يقال فيها انها تعبر عن الجهل بقدسية الامانة التي يحملها الموظف وصورة من صور الفساد السلوكي الذي استشرى في البلد، وافراز واضح للعقد النفسية والتعالي وسوء التقدير الذي يقع على المواطن البسيط الذي ينشد الابوة والرعاية من الجهاز الحكومي واذا به (يستجير من الرمضاء بالنار).