المنبرالحر

ترامب وتفجّر الأزمة الأخلاقية للرأسمالية الأميركية ؟ / رضي السمّاك

> ماذا يعني أن تعم احتجاجات جماهيرية صاخبة عدداً كبيراً من مدن الولايات المتحدة ، وعلى رأسها العاصمة واشنطن ، ضدالرئيس الجديد دونالد ترامب منذ يوم تنصيبه في العاشر من كانون الثاني والتي ما تزال متواصلة الى يومنا هذا ؟ بل لم يحدث أن اندلعت مظاهرات بهذا الحجم في عدد من عواصم العالم احتجاجاً على تولي رئيس جديد السلطة في الولايات المتحدة اقوى دولة تتحكم في مصائر أغلب قضايا العالم المعاصرة كما يحدث هذه الأيام . ومن اللافت ان عدداً من تلك الاحتجاجات الاميركية والعالمية أنخرطت فيها مجاميع ضخمة من النساء الساخطات على مواقفه وتصريحاته المهينة لكرامة المرأة وإنسانيتها خلال حملته الانتخابية ونظرته إليها كمجرد إداة لمتعة الرجل الجنسية ، في حين خلت عواصم ومدن دولنا العربية الاكثر عرضة للتأثر بنتائج سياساته الرعناء من أي مظاهرات سواء أكانت رجالية أم نسائية .
> ولعل الدلالة الأهم المستخلصة من كل تلك الاحداث التي مازالت تتوالى أنها تفصح بجلاء المحتوى الحقيقي لديمقراطية الرأسمالية الأميركية غير المعبرة تعبيراً حقيقياً عن إرادة الشعب الاميركي ، أو على الأدق طبقات وفئات واسعة منه ، مع ان دستور الولايات المتحدة هو من أكثر دساتير العالم ديمقراطيةً على الورق لا في الممارسة مما أتاح للشركات الرأسمالية الكبرى أن تلعب دوراً ماكراً خلفياً لتسخيرها لمصالحها الخاصة الضيقة عبر تمكنها من النفاد إلى الآليات والأعراف المعقدة لتلك الديمقراطية للحيلولة دون ترجمة القيّم والحقوق التي يكفلها الدستور للشعب ترجمةً أمينةً صادقةً على أرض الواقع . بعبارة اخرى موجزة فإن هذه الحقوق والقيم الديمقراطية المزعومة باتت مُختطفة من الشركات وكبار " الرأسماليين " ولا يتمتع بها الشعب الاميركي على أرض الواقع الفعلي .
> وإذا ما عرفنا بإن ما يقارب من 96 % من المواطنين غير قادرين على التبرع بفلس واحد للحملات الانتخابية الرئاسية ، وأن نسبة القادرين على التبرع بألف دولار لا تتجاوز 1 % لأدركنا أن من يقفون وراء تدفق الاموال والتبرعات على المرشحين هم في نهاية المطاف الشركات الكبرى والاوليجاركية المالية بطرق التفافية غير مباشرة ، ومن ثم يغدو الرئيس مرتهناً عملياً لمصالح تلك الطبقة من خلال دعم أحد جناحيها السياسيين المتناوبين تقليدياً على الحكم ألا هما الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري ونقول جناحيها السياسيين بالمعنى الرمزي المُمارس لا بمعنى انتمائهما القانوني لتلك الشركات والاوليجاركية المالية .
> وحسب تشارلس لويس مدير مركز " مركز الاستقامة السياسية " الأميركي الذي أصدر كتاب " شراء الرئيس " فإن حجم الامول المتبرع بها هو الذي يحدد فرص فوز أي مرشح بتبنيه في التصفيات النهائية من قِبل أحد الحزبين . وأنه منذ العام 1976 في أعقاب "فضيحة ووترغيت " أضحت انتخابات الرئاسة خاضعة لفرص المرشح ذي القدرة على جمع أعلى مبالغ من التبرعات ، ولعله في الدورات الانتخابية خلال العقدين الماضيين تزايدت فرص التعتيم على مصادر التبرعات التي تقف وراءها الشركات الكبرى ، إذ يتم إيداع تبرعات في حسابات مؤسسات مصرفية بعدد من الولايات غير الخاضعة للرقابة في واشنطن ذات الصلاحية بتحديد السقف القانوني الأعلى للتبرعات . ولأن الحزبين المحتكرين لتداول السلطة يمثلان في الغالب المصالح المتنافسة بين الشركات فإن الاخيرة تتنقل في دعم أي منهما تبعاً لتبدل مصالحها ، ويضرب لويس مثلاً بشركة Atlantic Richfield التي كانت تدعم الجمهوريين في ثمانينيات القرن الماضي دعماً سخياً ثم وجدت من مصلحتها في مطلع الألفية دعم الديمقراطيين الذين يحظون بدعم شركات الاتصالات وإن كان دعمها للجمهوريين أكبر . ( أنظر في هذا الشأن : شراء رئيس للولايات المتحدة ، الثقافة الجديدة ، عدد آيار - حزيران 2000 ) .
> وفي الانتخابات الاخيرة قُدرت تكلفة الحملة الانتخابية لكل من المرشح الجمهوري المليادير دونالد ترامب والديمقراطي هيلاري كلينتون بأكثر من مليار دولار. فلا غرابة والحال كذلك أن تتسع القاعدة الشعبية العريضة الساخطة على تزييف إرادتها الانتخابية الحقيقية من قِبل كبار الرأسماليين والشركات الكبرى منذ عقود طويلة، بل لا غرابة مادام ترامب هو مليادير قادراً بنفسه على تمويل جزء كبير من حملته أن تنشأ تناقضات في صفوف شرائح من الطبقة الرأسمالية الحاكمة من خلف كواليس المسرح السياسي باعتبارة لن يُمثّل سوى الشريحة التي تتطابق مع مصالح " بزنسه " مادام غير مدين لعدد من تلك الشرائح بمجيئه الى البيت الأبيض .
> وإذا من كان حسن حظ هذه القاعدة الشعبية العريضة المتذمرة والتي جُلها من الطبقات الوسطى والعمال والمهمشين والفقراء والمعدمين أنها تعيش في ظل نظام "ديمقراطي " يتيح لها خوض معارك متواصلة من النضال السلمي لتتوج بنيل حقوقها الديمقراطية الحقيقية التي تحول تلك الشركات دونها بتلاعبها المالي دون استفادتها منها ، ومن ثمَ إجبار الطبقة الحاكمة الكامنة خلف المسرح السياسي اجراء إصلاحات جوهرية في النظام السياسي إلا ان ذلك بطبيعة الحال يتطلب وجود حركات سياسية مُنظِمة لحراكاتها ونضالاتها الجماهيرية ، وهذه أيضاً لا يبدو بأنها مُتاحة في الظروف الموضوعية الراهنة المُعقّدة والتي لعل الولايات المتحدة هي اكثر من الدول الرأسمالية الديمقراطية اختصاصاً بها بفضل الخبرات التاريخية التي راكمتها الطبقة الحاكمة للالتفاف على حقوق الحريات العامة لمختلف طبقات وفئات الشعب والحيلولة دون استفادتها ، هذا عدا ما ورّثه هذا الإرث التاريخي الطويل من إحباط في صفوف الحركات والاحزاب المعارضة وضمور وانحسار العديد ، ولعل هذه الإشكالية بحاجة إلى معالجة معمقة سريعة لدراسة سُبل بعثها من جديد وبخاصة بالنظر الى بروز معالم لافتة من نضج الظروف الموضوعية بوصول الرأسمالية الاميركية إلى أزمة غير مسبوقة إخلاقياً منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة كما تجلت بعد تولي ترامب مقاليد رئاسة البلاد .
* باحث بحراني