المنبرالحر

عشر سنوات على انفجار الأزمة الاقتصاديّة الرأسماليّة / فهمي الكتوت*

شهد الاقتصاد الأميركي، في «ذروة انتصار» الليبرالية الجديدة، تبدلات هيكلية أدت الى اتساع ظاهرة النشاط المالي.. من سندات وأسهم ومضاربات في البورصات والأنشطة المالية على اختلاف أنواعها، مقابل انخفاض نسبة الأموال الموظفة في الاقتصاد الحقيقي (الصناعة والزراعة). الأمر الذي أدى الى تضخم الاقتصاد المالي وضمور الاقتصاد الحقيقي، إلى درجة أن نصيب الصناعة والزراعة من الناتج المحلي الإجمالي أصبح لا يتجاوز 21.5 في المائة.
وفي آب من العام 2007 انفجرت فقاعة الرهن العقاري، بعد سنوات طويلة من استدراج البنوك أصحاب الدخول المتوسطة والمتدنية وتوريطهم بقروض عقارية فاقت قدراتهم، ومع زيادة أسعار الفائدة وارتفاع مستويات التضخم، وزيادة تكاليف المعيشة عجزت معظم هذه الفئات عن الوفاء بالتزاماتها تجاه المؤسسات المصرفية، وتبين أن حجم القيمة العقارية في أميركا تبلغ 50 تريليون دولار وأن قيمة القروض العقارية بلغت 150 تريليون دولار.. ثلاثة أضعاف القيمة الحقيقية للعقارات.
استولت البنوك على معظم عقارات الفقراء وحولتهم الى لاجئين مشردين.. غير أنَّها لم تنجوا من الازمة. بلغت الأزمة ذروتها في 15 أيلول 2008 بانهيار مصرف «ليمان براذرز» ليواجه الاقتصاد الرأسمالي أخطر أزمة مالية واقتصادية منذ الكساد الكبير.
جاءت الأزمة الاقتصادية لتؤكد من جديد أن الرأسمالية تحمل في طياتها عوامل أزماتها، وأن هذه الأزمات هي أزمات دورية متعاقبة. وبالتالي، فما يُفترَض أنَّها حلول متَّخذة، تصبح بنتائجها عوامل أزمة متفاقمة، ومراحل العملية المتعاقبة تجدد شروطها الخاصة وتأخذ شكلاً دورياً. ففي سبيل انقاذ الرأسمالية من الانهيار، جرى التخلي عن بعض المقولات الكلاسيكية في الفكر الرأسمالي، فاستدار اليمين المحافظ عن سياسة التخاصية، وجعل الدولة تقوم بشراء أسهم المصانع والبنوك وشركات التأمين، وضخ مئات مليارات الدولارات لدعم الشركات المتعثرة. وتراجعت من جديد مقولة آدم سميث الشهيرة «دعه يعمل، دعه يمر». كما تراجع الرئيس الأميركي ترامب، مؤخّراً، عن أحد أركان سياسة العولمة الرأسمالية في توجّهه الى اتّباع السياسة الحمائية.
وفي الأصل، كانت الاحتكارات الرأسمالية قد استثمرت العولمة لزيادة ثرواتها. وذلك بنقل جزء مهمّ من الصناعات وبرامج الحواسيب وبعض الأنشطة الإعلامية والاستشارات المحاسبية إلى عددٍ من الدول الآسيويّة، للاستفادة بمعدلات النمو المرتفعة هناك، وانخفاض أجور العمال وتكلفة الإنتاج، وتشدّد شروط استغلال الطبقة العاملة الهادف إلى زيادة الأرباح الرأسماليّة. ما يؤكّد مقولة ماركس «رأس المال لا وطن له».
وقد شكلت هذه السياسات ضغوطاً متزايدة على الطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية المتقدمة، لدفعها للقبول بشروط استخدام أقل. الأمر الذي أسهم بتراجع القدرة التفاوضية للنقابات العمالية. وفي ظل اشتداد الأزمة الاقتصادية في المراكز الرأسمالية، أسفرت هذه العمليّة عن زيادة تمركز الثروة؛ فمع تراجع النمو الاقتصادي وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، تجاوزت ثروة قلة من الأثرياء (نسبتها أقلّ مِنْ 1 في المائة) ثروات بقية العالم مجتمعة، كما أنَّ ثروات 62 شخصاً من أغنياء العالم، تعادل جميع ثروات نصف سكان العالم الأفقر.
ومع اتساع الفجوة الطبقية في البلدان الرأسمالية، اتسع الجدل حول مستقبل الرأسمالية، كما اتسعت مظاهر الفاشية، وفقدت الأحزاب الليبرالية (يسارها ويمينها) قاعدتها الاجتماعيّة. هذا ما كشفته، على سبيل المثال، الهزيمة النكراء للحزبين الرئيسين في فرنسا (الحزب الاشتراكي وحزب الجمهوريين)؛ فالانتصارات التي حققها اليمين المتطرف في الانتخابات، جاءت بسبب تناغم مواقف اليمين المحافظ مع مواقف الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في السياسات الليبرالية المعادية للطبقة العاملة. وهكذا، كانت هزيمة الحزب الاشتراكي الفرنسي في الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة هي أكبر هزيمة تعرَّض لها الحزب طوال تاريخه؛ إذ حصل على 6 في المائة فقط من أصوات الناخبين، عقاباً له على مواقفه المعادية للطبقة العاملة وتساوقه مع اليمين (حزب الجمهوريين)، في حين حصلت مرشحة اليمين المتطرف (الجبهة الوطنية) على 21.43 في المائة من الأصوات محققة تقدماً ملموساً.
وقد عبر «ستانلي فيشر»، رئيس «مجلس الاحتياط الفيدرالي» (البنك المركزي الأميركي) السابق، عن خيبة أمله لترنح الاقتصاد العالمي في الأزمة، معرباً عن أسفه لفشل معظم التوقعات المتفائلة التي صدرت في الأعوام الماضية، معترفاً أنّه فشل في تفسير الأسباب الحقيقية لتباطؤ الاقتصادات الكبرى، متسائلاً إن كانت أزمات دورية؟ أم أنَّها بنيوية تتعلق بتغيير «أنماط الإنتاج الذي يتطلب بنى اقتصادية» تختلف عن تلك المتوفرة حالياً بفضل المتغيرات التي أحدثتها تكنولوجيا المعلومات.
إنَّه اعتراف صريح، مِنْ أهم رموز المراكز الرأسمالية الدوليّة، بفشل خبراء الاقتصاد الرأسمالي في إيجاد سُبُل ناجعة للخروج من الأزمة. وهذا تعبير عن حالة الارتباك التي يعيشها الاقتصاد الرأسمالي. أما بخصوص القول إنها أزمة بنيوية، فهي كذلك؛ فالأزمة مرتبطة بجوهر الاقتصاد الرأسمالي، وهي ناجمة عن التناقض الرئيس بين العمل وبين رأس المال، والتناقضات الملازمة لنمط الإنتاج الرأسمالي. ورغم تكيّف المراكز الرأسماليّة مع الأزمات الاقتصادية خلال القرن الماضي، إلا أنَّ المستجدات شكلت عقبة أمام الخروج من الازمة الأخيرة، وفي ضوء ذلك يمكن الوصول إلى الخلاصات التالية:
1- إن ترنّح النظام الرأسمالي غير كاف للتأشير على الطريق الملائم لإنقاذ العمال والفقراء والمهمشين من تداعيات الأزمة، إن لم يرافقه وعي سياسي وتنظيمي كافٍ. كما تجدر الإشارة، هنا، إلى أنْ المتغيرات، التي أحدثتها ثورة تكنولوجيا المعلومات، لم تقتصر آثارها على المراكز الرأسمالية حسب؛ بل إنَّها امتدّت أيضاً إلى الطبقة العاملة. وتمثَّل ذلك بتقلص عدد العمال التقليديين الذين يعتمدون على توظيف قوّة العمل الجسديّة، وبرزت شريحة جديدة من الطبقة العاملة تعتمد على توظيف قوّة العمل الذهني، من الفنيين المرتبطين بتكنولوجيا المعلومات الذين يتولون مهام مختلفة في إدارة الإنتاج، مثل ضبط الجودة وتوجيه الأجهزة الإلكترونية. وقد أسهم ذلك بتخفيض عدد العمال التقليديين في المصانع. ومع أنَّ البلدان الرأسمالية شهدت مسيرات غاضبة وإضرابات واسعة.. احتجاجاً على الاجراءات الحكومية، إلا أنّ هذه الاحتجاجات لم تتطور سياسياً ولم تصل الى احداث تغيير سياسي. بقيت الأحزاب الليبرالية تتناوب على الحكم خلال العقد الماضي من سنوات الأزمة، ولم نشهد معاقبة الأحزاب الليبرالية من قبل الفقراء والمهمشين ضحايا الأزمة.
2- برزت ملامح نظام عالمي جديد متعدد القطبية في السنوات الاخيرة، ليس على أسس بديلة للنظام الرأسماليّ، بل استناداً للمصالح الاقتصادية الرأسماليّة المتباينة؛ فقد تشكَّلت تجمّعات جديدة للقوى الأكثر تضرراً من تحالف المراكز الرأسمالية. وأبرز نموذج لها هو تجمّع الدول الصاعدة في إطار الـ«بركس». وقد لعبت روسيا والصين دوراً بارزاً، سياسياً واقتصادياً، في هذا المجال.
3- احتلت الدول الصاعدة موقعاً متقدماً في الاقتصاد العالمي على حساب المراكز الرأسمالية. ما أسهم باستمرار الأزمة. ونظراً لعدم إمكانية شنِّ حرب عالميّة على الدول الصاعدة، كما حصل في الحربين الأولى والثانية، لإعادة هيمنة المراكز الرأسمالية على الاقتصاد العالمي، برزتْ نزعات فاشية لدى أميركا، تمثلت باحتلال العراق وليبيا وتقسيم السودان وتدمير سوريا والعراق واليمن، ووظفت تيارات تكفيرية ظلامية لتعيثُ فساداً في الأرض، فتكون مبرِّراً للتدخل الإمبرياليّ في المنطقة العربية، ليس لمواجهة هذه الحركات، بل لاحتلال المنطقة وتصفية المقاومة العربية والقضية الفلسطينية، وإقامة كيانات سياسية مذهبية طائفية، واعتبار المنطقة العربية منطقة نفوذ أميركي في إطار الصراع الدائر بين القطبين المشار اليهما، والإبقاء على اقتصادات المنطقة ضمن نفوذ الاحتكارات الرأسمالية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب فلسطيني