مجتمع مدني

مذبحة حلبجة في ذكراها الـ 26 : الصحفي البريطاني جون سمبسون .. شاهد عيان تحدث عما رأى بعينيه

قبل نحو 25 عاما*قتلت القوات العراقية الاف المدنيين باستخدام الاسلحة الكيمياوية في بلدة حلبجة الكردية.
وتجرى الآن خطوات لتحديد اي دولة وربما تحديد اي مصنع امد السلطة العراقية بهذه الاسلحة.
كانت نتيجة الهجوم الكيماوي الذي شنته القوات العراقية على حلبجة في 16 آذار 1988 أسوأ مذبحة تشهدها البلاد، حيث شوهدت الجثث ملقاة في كل مكان. وعندما كنت اقترب كنت أرى الضحايا في وضع يشير الى أنهم كانوا يحمون شخصا آخر، رضيعا أو طفلا أو زوجة، لكن الجميع فارقوا الحياة.
لم تكن هناك سبل للوقاية من غازات الاعصاب التي استخدمها رجال صدام حسين دون تمييز ضد حلبجة لتلقين الأكراد درسا قاسيا. وكنت قد شهدت من قبل اثار الحرب الكيمياوية على الجنود في جبهات الحرب الايرانية العراقية، وكان ذلك أمرا بشعا. غير ان معاينة ما خلفه استخدام هذه الغازات ضد الرجال والنساء والأطفال العزل كان بشعا للغاية.واحيانا كانت اثار الغازات التي استخدمتها القوات الجوية العراقية فورية، فقد شاهدت منزلا قصف بقنبلة سقطت من سقف احدى الغرف عندما كان عدد من الاشخاص يتناولون الطعام. ولقي الجميع حتفهم في غضون ثانية او ما شابه. فتوفي شيخ كبير وهو يقطع كسرة خبز، وكان اخر مبتسما وبدا انه توفي اثناء ابتسامته.
لكن آخرين ماتوا ببطء وهم يعانون من ألم شديد. حتى انني رأيت جثة سيدة في وضع انحناء بالغ وكانت مؤخرة رأسها تلامس قدمها، ورصدت اثار قيء ودماء على ملابسها واثار الالم بادية على وجهها.

لماذا توفي هؤلاء؟

السبب هو انه خلال الاسابيع الاخيرة من الحرب الايرانية العراقية، رحب بعض ابناء حلبجة بتقدم القوات الايرانية، فقرر صدام حسين وابن عمه علي حسن المجيد، الشهير بـ "علي الكيماوي"، تلقينهم درسا وجعلهم عبرة للاخرين.
استهدفت القوات الجوية العراقية البلدة بمجموعة من المواد الكيمائية المؤثرة على الاعصاب امثال "في اكس" و"سارين" و"تابون" واكثرها تأثيرا كان غاز الخردل السام الذي يعود استخدامه الى الحرب العالمية الاولى.
وتعرض اليوم بعض القنابل التي استخدمت لهذا الغرض في متحف حلبجة، حيث ان العديد منها كان مزودا بمروحة داخلية تعمل لمزج المواد الكيميائية. وسبق الهجوم الغازي يومان من القصف المثير للجدل، حيث بدا كما لو ان علي حسن المجيد اراد تهشيم النوافذ في البلدة حتى لا تكون هناك اي مقاومة للغاز قدر الامكان.
كنت قد ذهبت الى حلبجة جوا برفقة مجموعة صغيرة من الصحفيين الاجانب على متن طائرة تابعة للقوات الجوية الايرانية. واغتنمت الحكومة الايرانية الفرصة للترويج واظهار بشاعة الجرائم التي ارتكبها صدام حسين بحق شعبه امام العالم. لكن السلطات الايرانية منعت الناجين من القصف من العودة لدفن موتاهم.

كم عدد الذين ماتوا في حلبجة؟
تجولت كي أحصي العدد وبرفقتي اخصائي بلجيكي بالحرب الكيمياوية.لكن الوقت كان قصيراً فقد علم العراقيون بوجودنا، وتعرضت المروحيات التي تنقلنا الى اطلاق نار، وعادت القوات الجوية العراقية ومعها ربما المزيد من الاسلحة الكيمياوية لاستخدامها ضدنا.
ثمة محاولات لتحديد عدد القتلى وان بدت متسرعة وغير كافية، لكن بدا أن هناك نحو خمسة الاف جثة ملقاة على الارض في البلدة، فيما سقط قتلى غيرهم على مشارف البلدة حينما سعى اخرون لعبور الجبال باتجاه ايران.هذا الرقم يقبله الكثير من الخبراء بشأن الهجوم.
وبعد ربع قرن من المذبحة لم تنقشع حالة الرعب بعد، وما زالت بقايا غاز الخردل الذي استخدم موجودة في المخابئ التي كان يحتمي بداخلها المواطنون خلال اعمال القصف.فعلى النقيض من غاز الاعصاب الذي يتبخر، يعد غاز الخردل أثقل وزنا في الهواء، فهو يتساقط ويشكل جيوبا ما زالت تشكل خطورة اليوم. ويبحث ميش دي بريتون-غوردون، خبير الحرب الكيمياوية البريطاني، الذي دأب على العمل في مؤسسة بورتون داون، وهي منشأة علمية عسكرية بريطانية، مع الحكومة الكردية طرق منع التلوث الكيمياوي في حلبجة.وقال: "نواجه مشكلة هنا عندما يبنون ابنية جديدة، فهم يحفرون الاساسات ويصلون الى جيوب غاز الخردل هذه وسرعان ما يموت كل من يقوم بهذه المهمة."
واضاف "انها مهمة واحدة نأمل في تقديم مساعدة بشأنها، مع توفير مراقبة مشددة، واذا ظهر لدينا اي دليل على وجود غازات في المنطقة فسرعان ما سنتخذ التدابير اللازمة لضمان عدم تعرض المواطنين لها. وبمجرد تطهير حلبجة ستكون القدرة على تنمية المكان ممكنة مقارنة بمعدل التنمية في بقية البلاد". وقال دي بريتون غوردون انه ربما يكون من الممكن ايضا تحديد الاطراف التي امدت حكومة صدام حسين بالكيمياويات اللازمة للاستخدم في حلبجة. "نتوقع ان نعثر على عينات من غاز الخردل في المقابر الجماعية كما فعلنا في المخابئ. واذا استطعنا ان نحللها الى عناصر جزيئاتها الرئيسية، سيكون بمقدورنا تحديد الجهة وحينئذ سيكون بامكاننا مضاهاتها مع العينة.
"ويعتقد ان ذلك سيتيح امكانية انجاز العمل بنجاح في تحديد اي دولة، او حتى مصنع، امدت السلطات بالمواد الكيمياوية الاصلية لغاز الخردل، في حين لن يكون من الممكن تتبع خطى غاز الاعصاب.وقال "سيكون من الصعب الحصول على عينة اختبارية من المصانع المتهمة بصناعة هذه المواد. لكن اذا أعطونا عينات واتفقت معها، سيكون ذلك دليلا دامغا يمكن للمحكمة الجنائية الدولية وجهات اخرى التحقيق بشأنه.وأَضاف "لكننا ندرك انه مازال هناك بعض المخزون الكيمياوي في العراق الذي يمكن التعامل معه، وهي معلومات مصدرية متاحة ويمكن الحصول على عينة من هناك ومقارنتها مع ما توصلنا اليه هنا لتوفير ادلة شاملة، لذا فمن الناحية الفنية ذلك ممكن."
نظرة فاحصة

حتى الان لا توافق الحكومة الاقليمية الكردية على مثل هذه الخطط. وتقول انها ترغب في اجراء مشاورات مع طائفة من الشركات والمواطنين بالبلدة قبل الموافقة على السماح لفتح هذه المقابر الجماعية."وقال قباد طالباني وزير شؤون مجلس الوزراء في الحكومة الاقليمية ونجل الرئيس العراقي الحالي جلال طالباني: "اعتقد اننا نلتزم امام انفسنا وامام الضحايا بالقاء نظرة فاحصة على ما حدث، وكيف حدث."وبمجرد تحديد الشركات الاجنبية التي امدت السلطات العراقية بالمواد، ربما ستتخذ اجراءات قانونية بشأنها.
لكن هل أثمرت الاحداث والمعاناة في حلبجة عن ايجابيات؟ الغريب ان ذلك حدث بالفعل. فبعد ثلاث سنوات أفضى ذلك مباشرة الى فرض بريطانيا والولايات المتحدة منطقة حظر طيران فوق شمال العراق. ومنع ذلك صدام حسين من شن هجوم على الاكراد، ومن ثم استطاعوا تحقيق ازدهار على نحو مستقل بعيدا عن سيطرة بغداد. كما استفادت المنطقة، بعد ذلك، من الثروات التي تمتلكها البلاد. غير ان احدا لا يمكنه نسيان ما حدث في ذلك اليوم من عام 1988. ولا تزال الاحاديث عن الهجوم الكيمياوي في المدارس تدفع التلاميذ الى البكاء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نشر هذا التقرير قبل سنة من الآن، في الذكرى الـ25 لمأساة حلبجة، ويمكن الاطلاع عليه في موقع الـ بي بي سي العربي.