في أواخر الاربعينات من القرن الماضي وتحديدا في اعقاب وثبة كانون المجيدة عام 1948 وما سجلته من نهوض جماهيري وصفحات مشرفة تعكس التحدي والتصدي ومواجهة الحكام المأجورين والفاسدين، تلقى الشاعر الجواهري رسالة من احد اصدقائه في الخارج، وهو الذي كان قد فجع باستشهاد شقيقه جعفر في تلك الوثبة، فخصه بقصيدة رائعة تنبض بالثورية والتحريض وإلهاب مشاعر الجماهير ولا تزال ترددها الاجيال تلو الاجيال، ومطلعها:
"اتعلم أم انت لا تعلم.. بأن جراح الضحايا فم"
هذه الرسالة حملت اليه دعوة شبه رسمية لحضور مؤتمر المثقفين العالمي في بولونيا، وتضمنت معلومة تفيد بأن من بين من سيحضر هذا المؤتمر الاديب الكبير طه حسين، وانهما اي الجواهري وطه حسين وحدهما دعيا من العالم العربي.
يشعر الجواهري بالفرح والفخر اثر هذه الدعوة، ويا لها من دعوة مغرية يلتقي فيها كبار المثقفين من انحاء العالم لبحث المتغيرات والمستجدات بل وما يقع على عاتق المثقفين من مهام ومسؤوليات ازاء النهوض ببلدانهم والسير بها قدما الى الامام.
بادر الجواهري على الفور وانطلاقا من شعوره بالمسؤولية لكتابة افتتاحية حول اهمية هذا المؤتمر ودلالاته.. مشيرا في الوقت نفسه الى ابرز الرموز الثقافية التي ستحضره. ونشر ذلك في جريدته "الرأي العام" آنذاك، وعلى جناح السرعة تابع الحصول على تأشيرة سفر الى فرنسا.. واخرى الى بولونيا.
واستدان مبلغاً قدره مائة دينار من رئيس الوزراء مزاحم الباجه جي وهو ممن كانت تربطه واياه علاقة وطيدة قديمة، وتحين ساعة السفر جوا، واذا على متن الطائرة ومن بين الركاب مزاحم الباجه جي، الذي كان مسافراً الى القاهرة على رأس وفد رسمي. كذلك نوري السعيد الذي ربما في طريقه الى لندن. يقول الجواهري في ذكرياته الجزء الثاني: فاجأني نوري السعيد وقد خرج من دائرة مرافقيه بما يكفي كي يتلقاني وجهاً لوجه ويقول متحديا امام الجميع وبلهجة تطغي عليها السخرية: ماذا تريدون ؟! وفي ذلك اشارة الى هتافات الجماهير في الوثبة حيث كان يه?ف مناد: ماذا تريدون؟! فترد الجماهير: اعدام صالح جبر ونوري السعيد.
اقول صراحة لقد فاجأني نوري السعيد لانني لم اعهده هكذا ولم اتوقع منه مثل هذا التصرف. ويعرف من يعرفني انني في مثل هذه المواقف ابدى جرأة تصل حد التهور, غير انني ألفيتُ نفسي هذه المرة وانا في لحظة الغضب المتقد والمكبوت مكتفيا بالسكوت وبنظرة استنكار غاضبة وهزة رأس اشبه بحس الانتقام.
ولست ادري ان كنت مصيبا او مخطئا بهذا الرد ومازلت اتساءل: اكان على ان اقول له ما يعرفه بالذات؟ اكان يجب ان انطقها تحديا:
الا تدري ماذا يريدون؟!
غير أني لم ألمْ نفسي كثيرا، لأن تصرف نوري السعيد لم يكن عبثا، فقد كان مستعدا لعمل اي شيء بواسطة العصابة التي ترافقه مما لا استطيع ان اخمن عواقبه.. فتجاوزته تاركاً اياه واقفا وحده في الفراغ الذي اراده.
يصل الجواهري الى بولونيا وقد فعلت الحرب بها ما لا يصدق وما لا يوصف.. كل شيء يبعث على الحزن والألم.. هياكل متدلية.. انقاض وخرائب.. بشاعات وفضاعات.. ماكنة الحرب الجهنمية نشرت الدمار.
بعد يومين من وصول الجواهري الى بولونيا، بدأ المؤتمر اعماله وتكلل بالنجاح.. ومن بين الوجوه التي حضرت المؤتمر الرسام الكبير بيكاسو وعالمة الذرة مدام كوري.
وتمخض المؤتمر عن انبثاق وتشكيل مجلس السلم العالمي.. وبشرف كبير تم الاعلان عن أن الجواهري هو احد المؤسسين لهذا المجلس.
ومن جديد يقول الجواهري في ذكرياته - الجزء الثاني:
"في عام 1968 كنت في براغ عندما دعيت الى بولونيا لحضور ذكرى انعقاد هذا المؤتمر حيث صدرت مجلة المؤتمر حاملة صور اربعة من مؤسسيه وانا بينهم على الصفحة الاولى".
ولا بد من الاشارة ايضا الى انه وبعد اشراقة تموز عام 1958 وتحديدا في عام 1959 انعقد المؤتمر الاول لحركة السلم في العراق بحضور وفود عربية وعالمية في حفل بهيج ورائع فينشد الجواهري قصيدته المعنونة "انشودة السلام" والتي مطلعها:
"جيش من السلم معقود به الظفر.. وموكب كشعاع الفجر ينتشر" ثم قصيدته المعنونة "حببت الناس.. حببت الناس والاجناس" وهي تدعو الى السلام والمودة والمحبة بين الجميع. كذلك قصيدته المعنونة: "اطفالي اطفال العالم" وقد ألقيت في مؤتمر لنزع السلام في موسكو في مطلع الستينات.
لقد بقى الجواهري داعيا ومنشدا للسلام والعدل الاجتماعي ومنددا بالطغاة والمجرمين.
كان يحلم بغد افضل واجمل، ينعم فيه الفقراء والمحرومين بما افتقدوه في ظل انظمة الاستبداد والاوغاد.
ـــــــــــــ
* القيت امس الاول السبت في احتفال الذكرى الستين لحركة انصار السلام الذي اقيم على قاعة "بيتنا الثقافي" ببغداد