مجتمع مدني

الشيخ الماشطة والعلمانية / احمد الناجي

يتشارك رواد النهضة العربية في رسم ملامح العقلانية في الفكر العربي، ويمكننا بسهولة تصنيف الفكر العقلاني وفق نزعاته على ثلاثة تيارات، هي: التيار الليبرالي الذي يحاول تأسيس الحرية وفق مقتضيات العقل، أسسه رفاعة رافع الطهطاوي وأعقبه من الاجيال آخرين كأحمد لطفي السيد وطه حسين، والتيار العلمي الذي يسعى الى نموذج العقل الطبيعي المرتبط بالحس والواقع، أسسه شبلي شميل وفرح انطوان ويعقوب صروف وسلامة موسى، والتيار التوفيقي الذي حاول فهم الدين فهماً عقلانياً، أسسه الافغاني وتلاميذه محمد عبده ورشيد رضا.
وما يقال عن العقلانية يقال عن التنوير، ويكاد يكون في حكم الثابت أن العقلانية هي حاضنة استنبات التنوير، من حيث أن العقلانية بصفة عامة هي فاعلية للادراك العقلي، أو اتجاه في التفكير يحتكم الى العقل في كل وجوه الاحتكام الممكنة، أي في جميع نواحي الحياة، وبالمحصلة انها تتمثل رؤية فكرية للعالم، في حين أن التنوير وبحسب ما قدمه لنا ايمانويل كانط سنة 1784 يعني خروج الانسان من قصوره العقلي الذي يبقى رازحاً فيه بسبب خطيئته، وربط كانط استخدام العقل بشرطين هما: الجرأة والحرية. وشهدت دلالة مصطلح التنوير تحولات بمرور الزمن، فاصبح يتمثل وظيفة ثقافية واجتماعية.
وقف الشيخ الماشطة هلى تخوم عقلانية التيارات الفكرية الثلاثة، ناهلاً من منابعها فيما يشبه البحث عن الاكتمال، ففكره لم يخرج من العدم أو الفراغ، يواصل الماضي بالحاضر، يستلهم من الاصول التراثية، حيث كان يستقي من المعتزلة والصوفية واخوان الصفا وابن خلدون وابن رشد، كما انشد الى التقصي عن جذور الفلسفة، وتعمق احساسه بالتجديد الذي يحمل بذور التغيير للمستقبل، فتعرف على كانط وديكارت واستوعب بذلك العقلين الاسلامي والحداثي، وتبدت بصماته الفكرية واضحة المعالم حين قدم لنا عقلانية تركيبية يتجلى فيها طريق الاستنارة.
راق لي اختيار زاوية الرؤية في المسار الذي نهجه الدكتور احمد ماضي، استاذ الفلسفة في الجامعة الأردنية في قراءته لعلمانية الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي في كتابه الموسوم (نماذج من العلمانية في الفكر العربي الحديث والمعاصر)، وخلص بعد استقراء عدة بحوث ودراسات تقصت عن جذور العلمانية في فكرنا المعاصر الى أن هناك ثلاثة معايير أو مرجعيات يمكننا الاستناد عليها في النظر الى الطهطاوي بوصفه أول مفكر علماني مصري حديث، وهي:
1 - قضية الحرية
2 - قضية العدل والمساواة
3 - إعمال العقل
والازيد من ذلك، نظر رفعت السعيد الى الطهطاوي في كتابه (عمائم ليبرالية)، على أنه الحرف الاول في كتاب الليبرالية المصرية، باعتبار ان الليبرالية هي موقف من قضية الحرية والعقل. وقد يكون الشيخ الماشطة غير مهتم بالعلمانية اهتماماً كبيراً، والشيء المؤكد هو أنها لا تشغل مركز الصدارة في فكره، وصحيح أنه لم يشر اليها بصريح العبارة، ولم يبح بها علانية، ولكن بالامكان أن نتلمس بين ثنايا منجزه الفكري ملامح عن علمانيته، لأنه رجل يفكر في زمنه وعيناه تنظران الى الازمان القادمة، فهي فكرة في أساس تفكيره، وهي تحصيل حاصل لأفكار ومضامين أطروحاته، وأنه قام بقدر معين من التنظير لها، بدءاً من دعوته الى الحريات مروراً بنظريته الى العدل والمساواة ومن ثم التعويل على العقل وتقديمه على النقل وانتهاءً بانحيازه لفكرة التقدم.
والعلمانية كما هو معروف هي عقد بشري يتعلق بالتنظيم الاجتماعي، عقد متفق عليه لتعايش مكونات المجتمع على اختلاف قومياتهم ومذاهبهم وطوائفهم واعتقاداتهم الفكرية، ينطلق من أن الدولة معنية بحرية الضمير وتكفل حرية التعبير، بحيث لا تضع فوارق بين مواطنيها ولا تمنح امتيازات لأحدهم، ولا تفرض عليهم وجهة نظر خاصة بها.
دعونا نفتش بإمعان عما هو مصرح أو مخفي تحت عمامة شيخنا، ونتفحص ما هو قار في نصوصه، وإعادة بناء وعينا به، وانتاجه أو تركيبه في إطار فكري متناسق ومتماسك، فثمة خيوط فكرية نستطيع التقاطها، واكتشاف مآلاتها، وإعادة ربطها، تتسق اتساقاً جلياً مع اشتراطات النزعة العلمانية، لم ينوه الشيخ الماشطة عنها صراحة في منطوق خطابه. وسأكتفي بالاشارة الى:
اولاً : لقد شدد الشيخ الماشطة في كتاباته على مبادئ الديمقراطية والحقوق والحريات المدنية للمواطن، لا سيما العدل والمساواة، ناهيك عما كان يدلي به شفاهياً، باعتبار أن ذلك كله من أساسيات التحريض على النهوض بالمجتمع لكي يساير المجتمعات الغربية المتقدمة.
ثانياً : إذا كان النقد سمة للتنوير، فقد كان نقد الاستبداد موضوعة رئيسة في كتابات الشيخ الماشطة، هذا بالاضافة الى شؤون السياسة احداثاً وشخصيات، كما تناول احوال الناس وشجونهم، فوقف ضد الاستغلال والظلم الاجتماعي، وقام بنقد الاداء الوظيفي وادارات مؤسسات الدولة، لا سيما المؤسسات التربوية والتعليمية والصحية.
ثالثاً : اهتم بالفلسفة بوصفها أم العلوم الاجتماعية، ذلك لأنها محرضة على انفتاح العقل والتفكير النقدي، ومحفزة على الابداع والابتكار. فقدم فكراً مغايراً للسائد والمألوف.
رابعاً : نادى بإعلاء شأن العقل، وكان ينظر الى الدين في حدود العقل، مفارقاً مظلمي العقول، الذين خلطوا النور بالظلام بالنظر الى العقل في حدود الدين، ممن يريدون تديين العقل، وللتدليل على رؤية الشيخ الماشطة ومراميه الهادفة نحو تكريس عقلنة التدين بالتحرر من سلطة النص الديني. دعونا نتأمل مقتطفات من أفكاره، فهو يقول: "العقل هو بمنزلة الرسول الباطن من الله تعالى كما أن النبي (ص) هو الرسول الظاهر". ويستطرد شيخنا قائلاً: "فإن ورد في الشريعة المقدسة حكم ظاهره يخالف ما يقتضيه العقل وجب تأويله وحرفه عن ظاهره، أما إذا ورد ذلك برواية غير صحيحة فتطرح وتهمل ولا يعنى بها". كذلك قال: "فإذا ورد على لسان الأنبياء (ص) ما ظاهره يخالف ما يحكم به العقل فلا بد من تأويله الى ما يطابق العقل أو إهماله إن لم يصح النقل به". ففي هذا النص المبسط الذي يتحرك الماشطة في فضائه الاسلامي يتمرد على التقليد، ويدعو الى تعقيل الفقه الديني بفتح البصائر وإعمال العقل من حيث أن الانسان كمخلوق مكرم من الله، خلقه في أحسن تقويم، ومكنه بنور العقل أن يتفكر في جميع حقائق الكون. وهو بذلك يتجاوز كل ما هو متداول في بيئته وزمانه من فكر متقادم ورجعي، كما أن قضية اعلاء شأن العقل التي تقوم في المقام الأول على أسبقية العقل على النص، هي بداهة تنتهي الى العلمانية.
يتبدى فيما تقدم نزوع الشيخ الماشطة نحو العلمانية كقيم وممارسات، من حيث أنها أساس يبتنى عليه وليس سقفاً يحتمى به، ذلك ما يحقق دلالتها بكونها طريقة أو آلية أو رؤية لمعالجة شؤون الحياة من خلال تحكيم العقل دون مفترضات مسبقة. ولا يفوتني أن الفت النظر الى أن قائلاً ما قد يقول بأن العلمانية لم تكن بؤرة مركزية معلنة في فكر الشيخ الماشطة، ففي اعتقادنا أن ذلك ليس مهماً، شريطة أن تتذكروا أن شذى الوردة يظل عطراً جميلاً أياً كان اسمه.
عاش الشيخ الماشطة حياته مغامراً في رحلة مضنية سار فيها على جمر التحديات، لا أحد ينكر دوره في تعزيز دائرة العقلانية والتنوير في محيطه الاجتماعي، وقد كان مدركاً لأهوال المعاناة، ومستعداً للتضحية في سبيل موقفه التقدمي، ولكنه في الأخير مضى وبقي اسمه رائداً، مثلما بقي عداء الرجعيين له مستعراً، وربما حتى الآن.
ـــــــــــــــــــ
* القيت بالنيابة في الاحتفال بذكرى حركة انصار السلام الذي اقيم امس الاول السبت في بغداد