مجتمع مدني

مع النزوح والتهجير : مشاهد من الفقر والبطالة والعوز وسوء الخدمات / عبدالكريم العبيدي

توقفت سيارة الأجرة بناء على اشارة من كف امرأة عجوز نحيفة، ترتدي ثياباً سوداء بالية، لكن العجوز لم تصعد، بل سألت السائق بصوت واهن:"هل تمر السيارة على سوق الهوا"؟، أجابها السائق وعدد من الراكبين بـ نعم، لكنها لم تهم بالصعود بل عادت وسألت السائق:"كم الأجرة"؟، أجابها السائق:"500 دينار"، تراجعت العجوز خطوة الى الوراء وقالت:"شني السالفة؟، هي كروتهه ربع دينار"، رفض السائق وتحركت السيارة، فتدخل عدد من الراكبين طالبين من السائق احترام كبر سن المرأة، فتوقف على مضض مرددا:"ظلت ديرة ربع، هاي وين عايشه!؟، دتعاي يابه تعاي"، لكن العجوز أبت الصعود وابتعدت عن السيارة وظلت ت?متم بكلمات وجمل ساخطة، وراحت تتلفت باحثة عن سيارة أخرى،
بينما تحول المشهد، "مشهد الربع دينار" داخل السيارة الى حوار عراقي حاد بين الراكبين، استمر الى ما يقرب من نصف ساعة، وشهد تحولات عديدة تناولت المشهد العراقي برمته، وكانت أشهر جملة ساخطة ترددت مرارا هي:"الى الآن، الربع دينار صعب التفريط بيه لدى شريحة واسعة من المواطنين، لعد اشكد فگر عدنه، واحنه بلد النفط والخيرات"؟.
فقر.. فقر
من خلال زجاج النوافذ يتابع الراكب يوميا كل مظاهر الفقر في العراق، بيوتاً مشيدة من الصفيح، عشوائيات، مخلوقات تنبش في أكوام من النفايات، باعة من الأطفال والنساء والعجائز يستجدون بتوسل السائقين والراكبين، طوابير من العاطلين في "المساطر"، باعة على الأرصفة تتزاحم عرباتهم وجنابرهم بحثا عن لقمة الخبز، أطفالا متسربين من المدارس يعملون في محال الحدادة والنجارة وغيرها، وسرعان ما تتحول هذه المشاهد الى حوارات ساخطة داخل سيارات الأجرة، فتغدو كل سيارة برلمانا عراقيا غاضبا يقرأ تداعيات المشهد بحرية وطلاقة، ويشخص الخلل وا?مناطق الرخوة في عمل الحكومة بدقة، لكنه يبقى ضمن حالة الترويح عن النفس المكتظة بكل صور العذاب والألم.
طاقات مشلولة
وزارة التخطيط أعلنت مرارا، عن ارتفاع نسبة الفقر في العراق إلى مستويات ملفتة، بعد أن كانت نسبتها أقل مما هي عليه الآن، وعزت ذلك لموجة النزوح التي شهدها العراق مؤخراً، مبينة أن الرقم المعلن لديها والذي تتبناه الوزارة في ما يخص نسبة الفقر ارتفع بسبب ارتفاع عدد النازحين في المحافظات ووجودهم في ظل ظروف صعبة سيزيد من حالة الفقر في العراق، كما أن حالة البطالة ارتفعت هي الأخرى بسبب الأوضاع الأمنية وحالات النزوح والتلكؤ الكبير بتنفيذ الستراتيجيات من قبل الوزارات، حيث في أفضل الحالات لم تصل نسبة التنفيذ إلى 60 بالم?ة، وهذا يعني أن أكثر من 40 بالمئة من طاقات البلد معطلة، وأن ما يقرب من ربع سكان العراق يعيشون من دون خط الفقر، منهم نسبة كبيرة يعيشون في مستوى الفقر المدقع.
ويعاني العراق بطالة كبيرة سواء بين فئة الشباب القادرين عن العمل أم بين الخريجين الجامعيين، ويعتقد العديد من الخبراء الاقتصاديين أن التقديرات الإحصائية لهؤلاء الشباب لا تعبر بالضرورة عن الواقع الموجود فعلاً، كما تعاني البلاد، أزمة خانقة في السكن نظراً لتزايد عدد سكانه، قياساً بعدد المجمعات السكنية، إضافة إلى عجز المواطن ذي الدخل المحدود عن بناء وحدة سكنية خاصة به، بسبب غلاء الأراضي ومواد البناء، فيما تشهد الكثير من أحياء ومناطق العاصمة بغداد وبحسب مراقبين ومختصين بالشأن الخدمي، تردياً واضحاً في سوء الخدمات ?لى المستوى العمراني والصحي والخدمي، فيما يتم تخصيص ميزانيات مالية كبيرة لتلك الأغراض.
أزمة خطيرة
العراق يواجه أزمة إنسانية خطيرة جدا، بعد نزوح أكثر من مليوني عراقي بسبب القتال الدائر بين القوات الحكومية والمجاميع الارهابية، كما تؤكد أن الأزمة الأمنية الناتجة عن هذا القتال طالت أكثر من 20 مليون إنسان في كل أنحاء العراق.
وقد انعكس هذا الأمر بطبيعة الحال سلبا على أزمتي الفقر والبطالة المتفاقمتين أصلا بعد عام 2003 نتيجة أسباب عدة لعل من أهمها التراجع الواضح لدور القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي وتوقف المئات من المشاريع الصناعية المتوسطة والصغيرة في هذا القطاع الى جانب توقف عدد غير قليل من المنشآت الصناعية الكبيرة المملوكة للدولة وتحولها الى عبء على الموازنة العامة كونها غير منتجة، ناهيك عن عجز القطاع الحكومي عن استيعاب أعداد العاطلين المتزايدة نتيجة حالة الترهل التي يعانيها بشكل عام بسبب سعي الحكومات السابقة الى حلحلة أزمة ا?بطالة عبر التوظيف لدى مؤسسات الدولة.
كل هذه العوامل أدت إجمالا الى تقويض خطط التنمية الوطنية لترتفع نسبة الفقر وكذلك البطالة الي ارتفعت هي الأخرى لاسيما بين صفوف النازحين.
وفي ضوء ما تقدم لعل السؤال الذي قد يطرح نفسه الآن هو: كيف سيواجه العراق الارتفاع الواضح في معدلات الفقر والبطالة جراء الأزمة الأمنية المستمرة؟.
استنزاف
وزارة التخطيط تؤكد وجود عدد من الحلول الحكومية التي سيتم الشروع بتنفيذها، ونظرا لأن نسبة كبيرة للبطالة والفقر تتركز بين صفوف النازحين جراء القتال المستمر بين القوات الحكومية والمجاميع الارهابية التي تسيطر على مناطق واسعة شمال ووسط وغرب العراق، تؤكد وزارة الهجرة والمهجرين أن لديها هي الأخرى مشاريع لخفض معدلات الفقر والبطالة بين أولئك النازحين، مشروطة بعودتهم الى مناطقهم الأصلية.
ويشير بعض الخبراء الاقتصاديين الى أن هناك جملة من التدابير السريعة والممكنة التي على الحكومة الاسراع باتخاذها لوقف التنامي المستمر في معدلات الفقر والبطالة، سيما بين النازحين جراء الأزمة الأمنية تختلف قليلا عن تلك التي تتحدث عنها وزارتا التخطيط والهجرة والمهجرين، ولعل من أهمها زيادة فاعلية برنامج شبكة الحماية الاجتماعية، ودعم المحافظات المستقبلة للنازحين بالأموال للتخفيف من تفاقم أزمتي الفقر والبطالة، على الرغم من أن المعطيات التي تؤكد أن الازمة الأمنية الراهنة ستطول الى ما لا يقل عن عامين أو ثلاثة حتى عود? الوضع الأمني في العراق الى حالة من الاستقرار النسبي وهو ما ينذر باستمرار استنزاف موارد الدولة في الانفاق على المجهود الحربي وسواه من القطاعات غير التنموية.
ورغم أن العراق يعد ثاني أكبر مصدر للنفط في منظمة أوبك، حيث يقوم بتصدير نحو 2.5 مليون برميل يوميا ويحقق إيرادات تتجاوز 100 مليار دولار سنويا، إلا ان هناك تفاوتا طبقيا واضحا في البلاد من حيث الدخول نتيجة تفشي الفساد على نحو واسع بعد عام 2003 وغياب العدالة الاجتماعية.
كما أن عددَ الفقراء في المناطق الريفية يفوق مثيلــَه في المدن، وهذه الفئة َ من الشعب العراقي بحاجة ماسة إلى الدعم الحكومي، وعلى الرغم من إن العراق ينفق نحو خمسة ِ مليارات دولار سنويا على المواد الغذائية الموزعة على سكانه، إلا أن ما يقارب من ربع الشعب ما يزال تحت خط الفقر، وهناك فوارقَ كبيرة ً بين طبقات الشعب، فالبعض ربما يصل دخلُهم الى عدة ملايين دينار شهريا، والبعض منهم معدومو الدخل، وهذ الأمر يتطلب وقفة ًحازمة من قبل الحكومة واجراءَ اصلاح جذري.
شحاذون
توقفت حافلة كبيرة عند تقاطع "بغداد الجديدة" في حوالي السادسة والربع صباحا. وبدأ أكثر من خمسة وأربعين راكبا بالنزول من بابيها الأمامي والخلفي ثم سرعان ما انتشروا في الشوارع والأسواق والأحياء السكنية.
كان أغلب الركاب من المسنين والعجزة والمعاقين. وكانوا يرتدون ملابس رثة ويصطحبون صبية وأطفالا رضعاً، وبدا وكآن كل واحد منهم قد اعتاد منذ سنين على ممارسة هذا الطقس الصباحي المبكر والانتشار في هذه الأمكنة.
وبينما توزع بعضهم على الأرصفة والشوارع الفرعية، هرع آخرون باتجاه السوق الذي كان شبه خال من الباعة والمتسوقين. في حين فضل عدد منهم التوقف قرب المحال التجارية المطلة على الشارع.
وبالرغم من أن عددا منهم كان يتعكز في ميشه، إلا انه كان يحث الخطى باتجاه "مقر عمله" وسط زحام السيارات أو في مداخل الكراجات أو قرب الجموع الغفيرة من العمال والموظفين والكسبة المتوجهين الى عملهم.
ويقول "جاسم عبد السادة" ـ عامل في مخبز ـ "ما زلت أذكر صبيحة أول يوم عملت فيه في هذا المخبز كلما شاهدتهم." وأضاف " لقد فوجئت بهم. ولكنني عرفت فيما بعد أنهم مجموعة صغيرة من عدة مجاميع من المتسولين تتوجه "مثلنا" في كل صباح الى أماكن عملها التي باتت مقرات ثابتة لهم منذ أعوام. فمنهم من "احتل" أبواب الجوامع والحسينيات والكنائس والدوائر الحكومية. ومنهم من يستجدي أصحاب السيارات الفارهة وسائقي سيارات الأجرة والركاب. ومنهم من وجد ضالته في الأسواق والشوارع والأرصفة.
ويؤكد جاسم أن فرق الشحاذين في بغداد باتت كثيرة وتعمل بآمرة "شقاوات" يوفرون لهم السكن والحماية مقابل الاستحواذ على أغلب أموالهم، الأمر الذي يجده جاسم سببا كافيا للامتناع عن تقديم الصدقات لبعضهم. غير أنه ما زال يعتقد أن التسول ظاهرة اجتماعية سيئة يصنعها الفقر وانقطاع صلة الرحم وعدم توفر الرعاية الاجتماعية من قبل الدولة لانتشالهم من هذا العناء والبؤس، خصوصا وأن أغلبهم من كبار السن والعجزة.
الفقر.. الفقر
الفقراء في العراق كثر. وصور التسول تعددت. منهم من يرتل آيات من المصحف الكريم، ومنهم من يردد أشعارا دينية بصوت عال. وثمة من يزعم أنه بحاجة لشراء أدوية باهظة الثمن لإنقاذ زوجته من الموت. وهناك من يدعي أنه غريب وقد تقطعت به السبل ولا يملك أجرة العودة الى محافظته. أما حين تشتد المواجهات وأعمال العنف في مدينة ما ويضطر سكنتها إلى مغادرتها فسرعان ما يزعم الكثير من المتسولين أنهم من سكنة تلك المدينة وأنهم باتوا بلا مأوى ويعيشون في العراء.
وفي تقاطع "المعسكر" الذي يشهد زحاما خانقا طيلة ساعات النهار، يطوف العديد من المسنيين والعجائز والصبية حول العربات المتوقفة ويشرع بعضهم بمسح زجاج النوافذ بيد ويبسط يده الأخرى للاستجداء فيبادر القليل من السائقين بمنحه ورقة نقدية لا تستحق الذكر.
وقرب إحدى سيطرات التفتيش أشار سائق الى فتاة شحاذة تستجدي من ركاب العربات وقال أنه "ذكر" وليس أنثى ولكنه يرتدي ثوبا نسائيا وحجابا ليحصل على المزيد من عطف الناس وشفقتهم!.
ليس بعيدا عن التسول
في الكثير من أزقة بغداد وشوارعها يتوزع الكثير من الباعة المتجولين لبيع المناديل الورقية الرخيصة وقطع الإسفنج والمهاف والقبعات والحلويات والسكائر. وغالبا ما يلجأ أغلبهم إلى التوسل والإلحاح لدفع الركاب والمارة على شراء حاجاتهم من باب الإشفاق ليس غير. فبات "المجبر" على الشراء مضطرا لشراء أية حاجة ليصرف الباعة عنه ويتخلص من منغصاتهم.
وليس غريبا أن نجد بين الباعة هؤلاء شيخا طاعنا في السن نحيفا ومحني الظهر يعرض علبة علكة رخيصة ويتوسل المارة لشرائها. أو نجد امرأة عجوز بصيرة يقودها صبي أشعث الشعر ويرتدي ملابس رثة، وهي تبيع المشروبات الغازية "وتطالب" الركاب بمساعدتها لإعالة أيتامها.
وليس غريبا أن نشاهد الكثير من الأطفال المتسربين من المدارس وقد تحولوا إلى منظفين وصباغي أحذية وباعة متجولين في الأرصفة والأسواق أو حمالين وأصحاب "جنابر".. وليس غريبا أيضا مشاهدة عائلات عراقية بأكملها تنتشر في الكراجات والشوارع والأرصفة لبيع الشاي والأكلات الخفيفة والمرطبات على مدى ساعات النهار الطويلة.
وبقدر ما ينتج عن الفقر وسوء الأحوال المعيشية من صور البؤس هذه، فأنه يدفع بشرائح اجتماعية كثيرة الى الشذوذ والانحراف والتغريب والتهميش. ولطالما لجأ الكثير من الشباب والأطفال إلى بيع المخدرات وحبوب الهلوسة والصور الإباحية.
وكنتيجة طبيعية لأتساع آفة الجوع التي تفتك بملايين العراقيين وسط انتشار أعمال العنف، برزت ظاهرة ما يعرف "بتجارة الدم" وبيع الكلى بين أوساط الشباب المتسكعين في الشوارع والمقاهي والحدائق العامة، وصار لها سماسرتها "وبورصتها".
ويرى "سلوان" وهو شاب عاطل عن العمل ويتعاطى المشروبات الكحولية يوميا أن سوء حالته المعيشية يدفعه إلى التبرع بدمه "لمرتين" في الشهر مقابل ثمن بخس. وذكر أنه يتعامل مع سماسرة الدم بسرية ويبيع لهم قنينة من دمه بسعر يتراوح ما بين 10 إلى 15 دولارا.. ولكنه يعرض "خدماته" أحيانا لذوي المرضى والجرحى علانية ويقايضهم على مبلغ قنينة الدم التي هم بأمس الحاجة إليها ليحصل على 50 ألف دينار أو أكثر حسب متطلبات السوق وتقلباته، خصوصا حين تتزامن الحاجة الى الدم مع تصاعد أعمال العنف والمواجهات المسلحة بين الجيش وبعض المسلحين في ?لمناطق الساخنة. أو وقوع المزيد من حوادث التفجيرات والتي غالبا ما تؤدي إلى وقوع المئات من الجرحى. ويعجز مصرف الدم عن توفير الكميات الكافية من الدم لإنقاذهم.مما يضطر ذويهم إلى اللجوء للسوق السوداء وشراء الدم بأسعار باهضة.
أحياء ولكنهم موتى
ملايين العائلات العراقية المسحوقة تسكن في خرائب وبيوت مشيدة من الطين أو من صفائح "الجينكو" والأخشاب وجذوع الأشجار. وهناك أحياء سكنية منسية مثل حي طارق ـ حي التنك سابقاـ الذي يأوي مئات الآلاف من الأسر الفقيرة جدا التي تتلقى مساعدات من حين لآخر من بعض المنظمات الإنسانية.
ومنذ سقوط النظام السابق في التاسع من أبريل عام 2003 تحول العديد من المباني الحكومية التي تعرضت لأعمال السلب والنهب الى دور سكنية تأوي ملايين العراقيين الذين وجدوا فيها مكانا "مناسبا" لسكنهم مع عوائلهم المعدمة.حيث قاموا بتوزيع الغرف والممرات والقاعات فيما بينهم بالتراضي. وباتت أكثر من عائلة تعيش في قاعة واحدة لا تفصلها عن العائلة الأخرى غير البطانيات والخرق البالية.
وبينما يمتهن غالبية أطفالهم مهنة الدوارة ـ جمع العلب والقناني الفارغة من القمامة وغيرها ـ يتوجه الآباء في فجر كل يوم إلى مكان توقف العمال أو ما يعرف "بالمسطر" بانتظار فرصة عمل ليوم واحد وغالبا ما يحصلوا عليها بعد أكثر من أسبوع.. في حين تمتهن الكثير من نسائهم صناعة التنانير الطينية أو البيع في الأرصفة والشوارع.
ولكم تبدو صورة أحوالهم من داخل تلك المباني بائسة ومزرية.وسط الروائح النتنة وبرك مياه المجاري والأسلاك الكهربائية المبعثرة والمتصلة بأعمدة الكهرباء في الشوارع بطريقة رديئة وخطرة للغاية.
والملفت للنظر حقا خروج طالبة جامعية من داخل تلك "القمامة" لتتوجه إلى دوامها في إحدى الجامعات العراقية!.
ملايين موتى
الخط المشئوم، خط الفقر يعني خط الكفاف بين تلبية الحد "الأرحم" من أنسنة البشر من عدمها. ومعنى ذلك أن من يعيش تحت جحيمه هو ميت من دون شك. وبالتالي فثمة ملايين من العراقيين هم "موتى" ويعيشون بين أوساط الشعب بصفة موتى لا غير!.
وتفيد المؤشرات المتاحة إلى أن الفقر في العراق بات واسعا ويشمل شرائح اجتماعية متعددة. وعلى الرغم من حصول بعض الانتعاش في مداخيل الفرد العراقي مؤخرا، إلا أن الدخل الفردي قد هبط بنسبة 50 بالمئة منذ عام 2001 ووصل إلى ما يقرب من 780 دولاراً أميركياً في العام 2004. مما يضع العراق في فئة البلدان ذات الدخل المنخفض.
ووفقا لتقارير اقتصادية واحصائيات دولية فأن أكثر من ربع سكان العراق يعتمد اعتمادا كليا على الحصص الغذائية التي تشرف عليها الحكومة العراقية وتعاني تعثراً واضحاً في عملية التوزيع بسبب تفشي الفساد الإداري والمالي، إضافة إلى تعرض الشاحنات المحملة بالبضائع إلى هجمات من قبل مسلحين في مناطق متفرقة من العراق أحيانا.
وقد خصص نظام الحماية راتبا شهريا للفرد الواحد البالغ الأعزب قدره 50 ألف دينار. في حين حدد راتب الأسرة المكونة من ستة أفراد فما فوق ب 120 ألف دينار شهريا ـ 20 ألف دينار للفرد الواحد من الأسرة كحد أعلى!، غير أن هذا النظام واجه انتقادات واسعة من قبل العديد من الاقتصاديين العراقيين الذين وصفوه بأنه مبني على أسس ضعيفة ولا يلبي أبسط متطلبات العيش للفرد العراقي بعدما خصص له مبلغا بسيطا لا يتجاوز 20 ألف دينار وسط موجة ارتفاع الأسعار التي شملت النفط والغاز والبنزين واللحوم والخضر، إضافة إلى ارتفاع الإيجارات على حد ?عبيرهم.
ويرى عدد من الاقتصاديين أن رواتب شبكة الحماية الاجتماعية لا تقفز بالمواطن إلى فوق خط الفقر وإنما تبقيه داخله، مبينا أن كل مواطن شمل بنظام الحماية يحتاج في الواقع إلى ما يقرب من 200 ألف دينار شهريا كحد أدنى لمواجه متطلبات المعيشة الصعبة.
ولكن عدد من الأفراد الذين شملهم نظام الحماية أعربوا عن "فرحهم" بهذه "الالتفاتة" وطالبوا بزيادة حصصهم. وتقول أم صبري ـ عجوز في السبعين من عمرها ـ إن الراتب الشهري الذي خصص لعائلتها هو أفضل من "الماكو" أي اللا شيء على حد تعبيرها!.
النصف العاطل
ما يزيد الفقر في العراق فقرا هو تجاوز نسبة البطالة ألى مرتبة خطيرة وفق تقديرات اقتصادية عديدة. في حين أعلنت وزارة العمل والشؤون الاجتماعية عن إعداد إحصائية شاملة عن العاطلين "المسجلين" في مراكز التشغيل والتدريب المهني في بغداد والمحافظات منذ عام 2003
وبالمقارنة مع معدلات البطالة المرتفعة في الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا فان العراق يختلف بشكل بارز عن الآخرين حيث يظهر أن الشباب هم الأكثر تعرضا للخطر.
ويبدو أن نسبة كبيرة من الشباب العاطلين يعتاشون على عمليات البيع والشراء مستغلين ما يعرف "بالبسطات والجنابر والقمريات" في الشوارع والأرصفة لممارسة أعمالهم، كونها لا تحتاج إلى إيجار ولا إلى مكان واسع، فضلا عن سهولة إدارتها وإمكانية نقلها أو التخلي عنها.
ويشكو باعة الأرصفة من الحملات التي شرعت أمانة بغداد بتنظيمها بشكل يومي تقريبا لغرض إزالة "التجاوزات"، مما دفع بالعديد من هؤلاء الباعة "العاطلين" بالتنقل من رصيف إلى آخر أو دفع رشاوى أو التوسط لغض النظر عن عنهم.
ويقول "حيدر" ـ بائع في ساحة الطيران في قلب مدينة بغداد ـ إن الذين يريدون "قطع رزقي" عليهم أولا أن يوفروا لي فرصة عمل واحدة.. ويشاطر حيدر زميل آخر له ادعى انه خريج معهد النفط ويعمل بائعا منذ عدة أعوام، قال "إن وصف عمله وعمل زملائه بالتجاوزات هو ليس صحيحا، طالما أن نصف الشعب العراقي عاطل عن العمل وربعه يعيش تحت خط الصفر!."
وبحسب دراسة مهمة أعدها لفيف من الاختصاصين والباحثين العراقيين فأن مشكلة البطالة تنتج عن جملة من الأسباب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والنفسية. وتعمل على تفاقم نسبة الفقر وتدفع باتجاه ازدياد نسبة الجريمة التي تتفاعل مع الإرهاب على حد وصف الدراسة.
وتفيد الدراسة إلى أن الفقر والبطالة دفع الكثير من الشباب الى الهجرة منذ تحول الاقتصاد العراقي الى اقتصاد حرب في مطلع ثمانينيات القرن الماضي.
وعزت أسباب هذا الانحدار إلى ضمور حجم القاعدة الإنتاجية وضآلة أعداد وأحجام المشاريع الاقتصادية وغياب التخطيط الاقتصادي المنهجي وعدم انسجام العامل الديمغرافي مع الاقتصاد وانعدام فرص العمل إضافة الى هيمنة القطاع الحكومي على النشاط الاقتصادي وجعل القطاع الخاص تابعا له وتدهور البنية التحتية للاقتصاد.