فضاءات

الحب والجمال عند الانصار (عوائل المناضلين) / فيصل الفؤادي

لم تفلح كل محاولاتي في حبس دموعي فإنهمكنا معا في نشيج قاس وحيرة مرّة، أمي وهي تدعوني للإبتعاد (يمه روح حتى لا يقتلوك !) وأنا أحاول التشبث بالأرض والأهل والذكريات.. أمي وهي تحاول إنقاذي من الخراب وأنا أصارع ألم الفراق وما ستحمله لي الغربة من صعاب، لينته المشهد بفراق دام عقود! لم يك هذا حالي لوحدي، بل صورة من مأساة الفراق عن الأمهات والزوجات والأخوات والبنات، مأساة عانى منها الأف المناضلين، وهم يبتعدون عن الوطن، لفترة (لم تستمر طويلا)، بغية أن يصونوا كرامتهم، وأن لا يتراجعوا عن العدو الطبقي، الذي لم يرد لهم الذلة، الا لأنه كان يدرك بأن إستسلامهم سيعبد الطريق لتدمير البلاد والعباد.
وحين قرر هؤلاء المناضلون، بعد أشهر من ذلك، ترك المنافي التي إنتقلوا اليها والعودة الى الوطن، وإطلاق حركة الأنصار الباسلة، تكررت تلك المواقف المؤلمة. فهذا رفيق لم يمض على زواجه سوى أشهر، عليه أن يترك زوجته ويلتحق بالجبل، وهذا رفيق أخر لم يبلغ طفله عامه الأول، عليه أن يفارقه ليلبي نداء الحزب والوطن، وهذا ثالث كان يحلم بيوم تضع زوجته طفلهما الأول، عليه أن يتخلى عن هذا الحلم الشخصي ليحقق الحلم الأكبر.. وهذا رفيق يوصي رفيقة دربه أن تعتني بأطفالهم وأن تربيهم بما يليق بأبناء عائلة شيوعية مكافحة. كانت اللحظات قاسية ومرّة، فكيف تمّكن الجميع من تجاوزها، وكيف إستطاعوا أن يحولوها الى دافع ومحفز لتواصل العطاء؟
إسئلة بقيت تشغلني والكثيرين من رفاقي.. إنه الحزب الذي تربينا وعشنا معه وله ليل نهار.. إنه الحزب الذي كان قادراً على أن يمنح الاب والأم والزوجة والابن، إرادة تفوق التعلق بالأشياء والذكريات .. وتعوض شيئا كبيرا من حنان الأبوين وعشق المحبوبة وحب الأبناء .. إرادة تجعل الرفيق يتوجه الى القتال اختياريا من اجل رفعة الحزب والقضية التي آمن بها، من أجل جنات على الأرض، يتساوى فيها البشر بغض النظر عن دينهم وقوميتهم ولونهم ولغتهم وقدراتهم، وبعيداً عن أي كسب مادي في الدنيا أو روحي في جنات الآخرة !
لقد كانت هناك وراء كل مناضل منا قوة تدفعه الى الامام هي مواقف الأهل، الذين ضحوا بكل شيء من أجل أن تبقى هامة ولدهم مرفوعة، لأنهم يدركون بحسهم الفطري أساليب البعث السيئة منذ عام 1963 والتي مارسوها ضد كل الخيرين من مناهضي مشروعهم الشوفيني المدمر.
نعم، كانت معاناة الزوجات وصبرهن مثال أخر هام على التضحية الكبيرة التي لن تقدر عليها سوى من أحبت زوجها كل هذا الحب وإيقنت إن في مشروعه الكفاحي خلاص للجميع .. هذه المرأة ـ الإنسانة التي قدمت مع حبها لزوجها عن بعد، آهاتها وحسراتها التي لا تنضب، حيث كانت الدموع الخفية سلاحها الوحيد ( بسكوت أون بسكوت، ما ورج احد )، وحيث كانت عيونها تترقب أي خبر يأتي منه وهي بروحها المتسامية تجسد الوفاء للحبيب المنتظر.
نعم عانت الزوجات والحبيبات معاناة انسانية كبيرة تجسدت في شظف العيش والحرمان و صعاب تربية الأبناء لوحدها في الغربة وقسوة الوداع والإنتظار لأشهر وسنين. وكانت هناك قسوة أكبر عانت منها الرفيقات اللواتي تركن أولادهن بعيداً ليتمكن من الإلتحاق بالجبل.
" إضطررنا الى ترك اولادنا عند الاهل في عينكاوة ولم نلتق بهم الا بعد سنين طوال" الرفيق نجيب حنا عتو- ابو جنان.
من جهة أخرى تحمل الرفاق الأنصار صعاب فراق الأهل، وتمكنوا من دفن حاجاتهم الروحية والشوق لحبيباتهم وزوجاتهم، وصبروا على ما يحبون من أجل حب أكبر لا يضاهيه في سموه حب ما. كان الابتعاد عن الزوجة امر في غاية الصعوبة، امام الظروف التي مر بها الرفاق في دول الشتات، وما عكسته الايام الصعبة التي مرت عليهم في المعيشة والابتعاد عن الوطن والأهل والأقرباء والأصدقاء والمحلة والمدينة. ترك الزوجة لسنوات لم يكن بالأمر الهين ليس فقط للزوجة وكذلك للزوج. ولهذا كانت الرسائل التي تأتي مع بريد الحزب والتي يتأخر وصولها أحيانا لأكثر من ستة اشهر أو سنة، مبعث سرور لا يوصف لدى هؤلاء المناضلين، إضافة الى ما يحمله الوافدون الى ساحة الكفاح من أخبار .. كان بعض الانصار يحمل معه صور الحبيبة والزوجة والأطفال، وكانت تلك الصور لا تفارقه، حيث يخرجها من جيبه في أوقات الإستراحه ويتأملها فتعيد اليه زهو الذكريات ففي الصورة الكثير من الكلام الذي يعبر عن عالم محسوس، صورة ساكنة يستمتع برؤيتها.. وكان هناك من يكتب القصيدة والخاطرة والكلمة الجميلة المعبرة من خلال كتابة الرسالة، النظر الى الصورة هي الذكريات هي الارتقاء الذاتي الى جمال الاشياء وتمثل الحنان والمودة و توهج الحبيب بالأمل .
صورتك تضئ ظل الاشجار
وترسل السحب البيضاء
نم نحن نرهف السمع
تسقط الغشاوة من عيوننا
عيوننا يتمنع عليها النوم
الظلام في كل مكان
ورعشة الليل للرهبان
نم ،اه ، ان صوتك يهز القلوب..... نم رفيقك النسر الحزين
مرفرفا بجناحيه ، في الوديان
بعيدا عن الجبل (حمودي عبد محسن ص 160)
ولعل نهاية المواقف القاسية تلك، هي إستشهاد بعض الرفاق دون أن يتمكنوا من اللقاء بعوائلهم ثانية بعد إن تركوهم وإلتحقوا بالجبل .. كان الجرح الذي يتركه هذا النوع من الفراق عميقاً، لا يهدأ ألمه الا بالفخر بما إجترحه هذا الشهيد من مأثرة!
كما كان لقاء بعض الرفاق بأبنائهم وقد كبروا، وانكروا معرفتهم بأبائهم، هو الأخر لقاءً قاسياً، تتطلب جهداً متميزا لمعالجة هذا الأغتراب.
وإذا كانت هذه الإرادة المتميزة للزوجات والعوائل مثيرة للدهشة لدى بعض القراء، فهي ليست كذلك بالنسبة لمن إطلع على تاريخ الحزب الشيوعي العراقي ومآثر مناضليه.. ففي العهد الملكي، حين كانت سجون الحلة والكوت وبعقوبة ونقرة السلمان (ذلك السجن الصحراوي الرهيب) تمتليء بالشيوعيين والديمقراطيين كانت العوائل تنهمك بزيارتهم وتوفير بعض إحتياجاتهم ودعمهم وتعزيز صمودهم. نعم لقد دعمت الزوجة زوجها ( برغم بعضهن لم يكن يجدن القراءة والكتابة)، وتابعت تنقلاته بين السجون والمحاكم الصورية، ودافعت عن حلمه وفكره ومشروعه الذي ينير الدرب لخلاص الفقراء والكادحين وتحقيق العدالة الاجتماعية والخير للناس والحرية لوطنهم. لقد تحملت الزوجة هذا الفراق الصعب الذي كان يصل احيانا الى خمسة او عشرة أعوام، وهي تحتضن اولادها وتعزز فيهم الأمل بعودة أبيهم، زوجها وحبيبها، وتقوم بتربيتهم بأحسن تربية في البيت و المدرسة، منتصرة على صعاب العيش والالم والفراق للحبيب. كما كانت تساهم في خدمة القضية التي يحملها، فنقلت البريد الحزبي والنشريات مخبئة في (علاليك) الاكل وداخل حبات الكليجة.. هكذا عبرن عن انتماءهن الى القضية من خلال روح التضحية العميقة.. بعضهن اعتقلن بسبب ازواجهن وهن مرفوعات الرأس، متحديات للحكومة وجلاوزتها .. وبعضهن نظمن الشعر والمواويل والهوسات التي تشيد ببطولة وشجاعة السجناء . كانت بطولة الزوجات والحبيات الامهات نادرة تستحق الإهتمام والتبجيل.
وفي أعوام البعث المباد وعندما إضطر الرفاق للانتقال الى الخارج أو التنقل بين مدينة وأخرى أو الألتحاق بحركة الأنصار، لم تتحمل الأمهات قسوة الفراق فحسب بل ومطاردات شرطة النظام المقبور وقسوة الحياة في ظل الفاشية، فصار صبرهن مثالاً عظيماً.. لقد رحلت أمهات صابرات دون أن يبحن بإسرار أولادهن، ومنهن من رحلن دون أن يعرفن شيئاً من أخبار إبنائهن منذ إن فارقوهم.
يكتب سعيد شابو حول ذلك الفراق فيقول:
(( وكررت قولي لمسؤول التنظيم عليك ترك المنطقة ولنلتحق سوية لكونك معروف ولن تتركك السلطة لحالك أبدا، فعلى من يعمل في التنظيمات السرية أن لا يكون معروفا لدى أزلام السلطة وأجهزتها المتنوعة وعناصرها الفاسدة ! أي جارك يتجسس عليك ، لقد خربوا كل شيء)). ويكمل:
(( لم أبح حتى لأعز الأصدقاء بأنني راحل عنهم، لا للوالدة ولا للأخوان، خوفا وحسابا للسلطة القمعية في أن يطاردوهم بسببي.. ولم أقل لأبني الصغير، الا لشريكة حياتي ورفيقة دربي أم فيدل، حيث أخبرتها بأني سأغادركم الى المجهول ( الجبل ) ! أي جبل هذا ؟ وكيف يترك معيل العائلة بهذا الوضع؟ كيف تترك يا سعيد كل ما هو ثمين ورائك وتجري الى حيث لا تدري؟ أجل انه حب الحزب والالتزام بحب الشعب والوطن، عدم المساومة لبان رضعناه منذ أن كنا صغارا، نكران الذات، مساعدة الناس، العمل الدؤب، الوطنية وعشرات القضايا الأخرى التي علمنا إياها الحزب لنكون أول المضحين وآخر المستفيدين))!
واليوم، والصراع المحتدم من اجل الحرية والعدالة الاجتماعية، وضد الفساد والتمييز، لا بد لنا من العودة الى دروس الماضي المشرقة لنتعلم منها، فكما لا يمكن أن يضطهد مناضل ما أي إنسان كان أو يستغل أي شيء كان أو يدافع عن الفساد أو أي فاسد كان، على عوائل المناضلين، ولاسيما زوجاتهم، تبني ذات المفاهيم، فصيانة طهارة أيادي الشيوعيين مهمة مقدسة، وأقدس من مهام سواها.