فضاءات

في ذكرى رحيله الثامنة والعشرين .. الدكتور محمد سلمان حسن كما عرفته

د. فاضل عباس مهدي
تعود معرفتي بالدكتور محمد سلمان حسن الى عام 1967، إثر عودتي الى العراق من الدراسة في بريطانيا.
كان الدكتور حسن آنئذ يخوض نزالا تنافسيا على رأس قائمة الديمقراطيين في معركة انتخابية غير متكافئة ضمن جمعية الاقتصاديين العراقيين، كان قطبها الآخر الدكتور خير الدين حسيب وقائمته التي ضمت اقتصاديي حكومة عارف. مما يسّر لها تسخير الأجهزة الوظيفية الحكومية للفوز بالانتخابات تلك.
كان اسم الفقيد معروفا لي فقد كنت قد اطلعت على مقالته المقدمة الى مؤتمر دراسات التاريخ الاقتصادي للشرق الاوسط، المنعقد في جامعة لندن عام 1967 والذي شارك في بحوثه مع المع اقتصاديي التنمية في الشرق الاوسط، آنذاك. كان منهم الاستاذ حسين مهدوي من جامعة هارفارد، وهو اول من صاغ مفهوم «الدولة الريعية» ليطرحه في ذلك المؤتمر، والبروفيسوران سمير امين من جامعة بواتييه وشارل عيساوي من جامعة كولومبيا، وآخرون. وقد نُشِرتْ إسهاماتهم العلمية المتميزة مع ورقة الفقيد بعد ثلاث سنوات في الكتاب الذي حرره كوك (1).
كان فقيد علم الاقتصاد العراقي قد قضى آنئذ اكثر من عشر سنوات في الوطن بعد إكماله الدكتوراه في جامعة اوكسفورد والماجستير في جامعة لندن، مُسهِماً في سنواتها الخمس الاولى بأعمال اقتصادية وظيفية عديدة في الدولة، بدءا بمجلس الاعمار ووزارة التخطيط بعد تأسيسها، ليلقى في السنوات الخمس التاليات، وما اعقبها، ما لقيه العديد من حملة الرأي من المثقفين والمتخصصين من إعتقالات متعددة على مدى عقدين، وإضطهاد واضح وفصل من العمل، رغم علو كفاءته وسمعته الدولية وتميّزه بمعارفه الواسعة، ناهيك عن مجال اختصاصه.
في بغداد، عرًفني بالفقيد زميل الدراسة المرحوم الدكتور فؤاد الدهوي في أواخر صيف 1967، فوجدت مكتبه منتدى اقتصاديا عامرا بالبعض من افضل الاقتصاديين الشباب في تلك المرحلة، الذين كانوا يلتفون حوله، أملا بخلق تيار عراقي رصين للفكر الاقتصادي التقدمي. وكان محور المنتديات مع فقيد الفكر الاقتصادي التقدمي الدكتور محمد سلمان حسن، هو كيفية الاسهام ببناء اقتصاد العراق بمنهجية علمية، تنتشله من مسار التبعية الإقتصادية المقترنة بالتخلف الإقتصادي والإجتماعي، كما ترفده بسياسات فعالة، لتحريره من هيمنة شركات النفط الأجنبية.
تأميم .. وتأميم
وكان رهط غير قليل من الاقتصاديين العراقيين آنئذ متأثرين، دون شك، بكتاب الراحل الذي كان رائداً في تحليل التاريخ الاقتصادي للعراق بين 1864 و1958 (2) كما تأثروا بطروحاته في أواسط الستينيات لتأميم شركة نفط البصرة (3) في حين آثرت الحكومة العارفية الأولى وأهم مستشاريها من بعض الاقتصاديين توجيه ضربة كانت قاصمة للتطور الإقتصادي المستقل وذاتي الإندفاع، بتأميمها مصانع القطاع الصناعي الخاص وشركات التأمين والمصارف الخاصة، بدلاً من تأميم شركات الامتيازات النفطية. وكان طرح الدكتور محمد سلمان حسن لمقترح تأميم شركة نفط البصرة رداً على التوجهات الحكومية تلك وايضاً على محاولات حكومية أخرى متعاقبة لتسويف فعل القانون رقم 80 لعام 1961، الذي استرجع العراق بموجبه معظم الاراضي الامتيازية لكارتيل النفط العالمي. وتمثلت هذه المحاولات الحكومية منذ 1964 بمشروع شركة نفط بغداد في ظل إدارة غانم العقيلي لشركة النفط الوطنية المستحدثة ذلك العام، والذي اعقبه استقدام شركة ايلف ايراب الفرنسية، في ظل إدارة الناصريين بعد ترؤس اديب الجادر لها، وذلك بدلا من اللجوء الى الاستثمار الوطني المباشر لبعض الحقول، التي صارت في عهدة شركة النفط الوطنية ومن اهمها حقل الرميلة الشمالي.
حتى 1968 كان الفقيد متعرٍضاً للفصل السياسي من وظيفته الحكومية، إثر الانقلاب البعثي – القومي في 8 شباط 1963 الذي اطاح بالحكومة الوطنية لعبد الكريم قاسم. وإثر ذلك الانقلاب الاسود، اعتُقل في سجن نقرة السلمان لتسعة شهور إنتُهكت فيها حقوقه المدنية كما فقد جزءا من قدراته السمعية نتيجة التعذيب الجسدي. كل ذلك لم يفت من عزيمته وإصراره على البقاء قريبا من الشعب والوطن، رغم أن سمعته الدولية ومؤهلاته الاكاديمية في البعض من احسن جامعات الاقتصاد في العالم، كانت ستفتح له فرصاً غير قليلة للهجرة والعمل الكريم والمجزي، لكنه?آثر البقاء داخل العراق آنئذ صابراً رغم معاناة اسرته الكريمة ماليا ومعنويا. وكان الفقيد آنذاك مسؤولا والمرحومة زوجته أيسر شوكت الخفاف، عن والدته وصغيريه يسار وعمار. ودون شك، فقد اسهم بصموده داخل الوطن عمل زوجته في شركة التأمين، والذي اشار اليه بعرفان المثقف التقدمي لدور المرأة بقوله: «لولا كفاحها الدائب من اجل كسب المعيشة، لما إستطعت أن أتفرغ لإكمال هذا البحث خلال العامين الماضيين»(4).
كتاب – موسوعة
وفي حقيقة الامر، كان ذلك الكتاب موسوعة بحثية رائدة ومتميٍزة شملت مواضيع كثيرة قام برصد آثارها وتفاعلاتها، محلٍلاً في متونه التاريخ الاقتصادي للعراق على مدى 96 عاما بدءا بالسكان وتقديراتهم وتركيبتهم، وإنتقالاً الى البطالة وتقديرات حجمها، مرورا بتطور قطاع التصدير والقطاع الزراعي وأثريهما في توطن النسبة العالية من السكان من البدو، آنذاك، والذين تحول الكثير منهم الى منتجين زراعيين. وقد حلل الكتاب ايضاً تبعات تطور تجارة الاستيراد التي دمرت العديد من الصناعات الحرفية ليرصد تأخر نشوء الصناعات الاستهلاكية الوطنية?ومن بعدها الصناعات الانتاجية. وبقراءة هذا السِفرْ، يجد الاقتصادي عرضا سلساً ومتيناً يمتزج فيه التحليل النظري بالمعرفة الرصينة المعززة رقمياً، لتحاليله للواقع الاقتصادي، الذي بيّن تزايد تأثره واندماجه بالاقتصاد العالمي عبر توسع التجارة الخارجية وعبر التحولات النسبية للأسعار الدولية للاستيراد والتصدير. وانعكست هذه الأخيرة بتقديراته لآثار نسب التبادل التجاري على ميزان المدفوعات والادخار والاستثمار ومن ثم النمو الاقتصادي. وقد تطرق الكتاب أيضا، وبتعمق، الى آثار تطور قطاع النقل النهري والى نتائج السياسات الاقتصادية والتجارية في الحقبة العثمانية التي كان محورها جبائياً لصالح خزينة الباب العالي في اسطنبول وتسديد ديونها المتفاقمة، مما أخًر إرهاصات النمو والتطور الاقتصاديين في العراق، حتى اوائل القرن العشرين. وقد رصد الكتاب ايضاً تطورات حقبة الدولة الوطنية في اوائل مراحل نشوئها حتى عام 1958.
تشديد على البعد الاجتماعي-السياسي
كان في كل ما تقدم يؤكد على البعد الاجتماعي – السياسي وآثاره الاقتصادية وخصوصا ذلك الذي حلًلَ فيه اثر التحول من نظام الملكية العشائرية للأرض، والى ملكية سائدة لشيوخ العشائر والبرجوازية المدينية؛ حيث اسهم تحول شيوخ العشائر الكبار الى ملاكين غائبين عن اراضيهم في زيادة الاستهلاك الترفي مما انعكس بانخفاض معدلات الادخار الوطني وايضا بقلة الاستثمار في تطوير غلة الارض الزراعية التي تدهورت انتاجيتها وتملحت بعد ان امست مصدرا للريع الممول للاستهلاك والاستيراد الترفيين. وحلل كتابه ايضا الترابط الوثيق بين هذا النمط من الاستحواذ والتصرف بالريع الزراعي مع مستوى معيشة الفلاحين، الذي تدهور نتيجة المحاصصة مع كبار الملاكين من جهة، ولتدهور الغلة الزراعية للأرض من الجهة الاخرى. وقد رصد الكتاب احدى نتائج هذا التدهور في مستويات المعيشة للفلاحين في تزاي? ميولهم للهجرة من مناطق تركز الاقطاع الريفي كلواء العمارة (محافظة ميسان حالياً). وقد بين تزايد الهجرات الريفية الى ضواحي المدن الأكبر ليشكل هؤلاء المهاجرون هناك طبقة مسحوقة من فقراء المدن والحواضر. وبالترابط، فقد حلل الراحل في كتابه القيم هذا تبعات اخرى للتركز الواضح في الملكيات الزراعية وتحفيزه للاستهلاك الترفي على حساب الاستثمار بشكل أعم؛ إذ بيّن اثر ذلك في قلة الموارد التي توجهت لتطوير الصناعات التحويلية. وبالتالي، فقد كان الكتاب رائداً في تحليل الترابط الوثيق بين مشكلة الارض الزراعية والقطاع الزراعي عم?ما ومشكلة تمويل التطور الصناعي الذي بقي بطيء النمو، رغم أننا نشير هنا الى أن كتابه لم يكن قادراً على إعطاء ما يكفي من الدلائل الرقمية الموثِقة لإشكالية التمويل بسبب تخلف الحسابات القومية حتى خمسينيات القرن الفائت.
في المعهد العربي للتخطيط
وبسبب علو صيته العلمي والمهني، دعت الامم المتحدة في 1967 الدكتور محمد سلمان حسن للتدريس في المعهد العربي للتخطيط، الذي كانت قد أسسته للتو في الكويت. وانضم الفقيد الى طاقم هذا المعهد البحثي - التدريبي لكوادر اجهزة التخطيط الاقليمية. وقام هناك بإلقاء محاضرات في مادة التخطيط الصناعي ونشر كتاباً عن الموضوع ذاته في نفس الفترة (5). وبعد انقضاء السنة التعاقدية، اخبرني الفقيد بأن المعهد المذكور طلب منه تجديد التعاقد مع الامم المتحدة سنة اخرى ولكنه إعتذر رغم الإغراء المادي. فقد كان قد استخدم السنة التعاقدية الاولى لتحسين اوضاعه المالية التي تدهورت عبر سنوات الفصل الحكومي من الوظيفة، مما ادخله في ديون لبعض اصدقائه ومحبيه اراد تسديدها.
انقلاب 17 تموز
وكان العراق آنئذ يمر بإحدى ازماته السياسية؛ إذ قام البعثيون بانقلاب عسكري في 17 تموز 1968 بالتعاون الوثيق مع عبد الرزاق النايف الذي اتهموه في 30 تموز بكونه من المتعاونين مع وكالة المخابرات المركزية. وكان احمد حسن البكر قد اصبح رئيسا للجمهورية في هذا الانقلاب ليحاول، أول الأمر، تبييض السمعة الدموية التي اكتسبها البعث من مجازر عام 1963 فاتصل بعدد من الشخصيات الاقتصادية المعروفة بقربها من التيارات الديمقراطية واليسارية لإغرائها بوظائف وزارية؛ فقبل البعض عروض التوزير والتعاون. وكان بين الشخصيات المُتًصل بها الدكتور محمد سلمان حسن، الذي ارسل البكر طائرة خاصة لتقله من الكويت للتباحث حول تسنمه وزارة المالية بعد الاطاحة بطاقم النايف في 30 تموز. وقد اخبرني الفقيد انه رفض عرض التوزير وطلب من البكر بدلاً من ذلك إعطاءه إجازة إصدار صحيفة. وقد رفض البعثيون طلب المرحوم لخشيتهم من امتداد تأثيره الفكري في الأوساط المثقفة والشابة؛ فعاد الى عمله في معهد التخطيط، عازماً على إنهاء السنة التعاقدية والعودة الى ربوع الوطن، الذي كان يشعر انه على مفترق طرق خطير.
من الجامعة الى التعذيب
تراجعت الحكومة الجديدة عن فصل العديد ممن فُصلوا من وظائفهم عام 1963، فعاد الدكتور محمد سلمان حسن، هذه المرة، ليلتحق استاذا مساعدا في كلية الاقتصاد/ جامعة بغداد؛ إذ لم يشأ المعنيون بهذا التوظيف منحه كل ما يستحق كاقتصادي عراقي لامع، ومعروف دوليا ألا وهي درجة الاستاذ البروفيسور. رغم ذلك، وبالنظر لمكانته، فقد إنتخبه الاساتذة رئيسا لقسم الاقتصاد حيث امضى في رئاسة القسم قرابة العامين ادخل فيها بعض الاصلاحات على المناهج كما على معايير توزيع المحاضرات بين اساتذة القسم. وقد امضى الدكتور الراحل حوالي العشر سنين استاذا جامعيا، حتى جاءت الموجة العاتية الثانية من القمع على حملة الفكر التقدمي في اواخر السبعينيات. وكان الدكتور حسن قد امضى خلال هذه الحقبة من عمره فترات متعددة تعرض فيها الى عمليات ممنهجة من الاعتقال والتعذيب ومحاولة كسر عزيمته. وقد تعرض في الاعتقال الى التعذيب الجسدي والنفسي ولم يفك اساره إلا بوجود حملات عالمية استنكرت اضطهاده. وكان هذا الاضطهاد ينبع من خشية نظام البعث من تأثيره؛ فقد كان يقول في مجالسه الخاصة الكثير من النقد كأن يقول مثلاً باللهجة البغدادية مثلاً :»هذا مو تخطيط بدوي!». وكان تعبيره هذا إشارة الى الأساليب التدرجية الماكرة التي اتبعتها حكومة البكر - صدام عند إحكام الدولة سيطرتها على الوضع السياسي، وذلك بضرب وقمع التيارات السياسية المعارضة تباعاً، بدءا بأنصار القيادة المركزية للحزب الشيوعي وأنصار الجناح الموالي لسوريا من البعث والقوميين، في حين سعت، اول الامر، لكسب الوقت عبر التهادن مع الثورة الكردية في اتفاقية 11 آذار 1970 وبسعيها لاجتذاب الحزب الشيوعي للدخول في جبهة سياسية مع حزب البعث بعد أن قامت بمنحه إجازة لإصدار صحيفة ناطقة باسمه. وسعت الحكومة، في أوائل عهدها، ايضاً للغزل مع الإتحاد السوفييتي عبر الاعتراف الدبلوماسي بحكومة المانيا الديمقراطية عام 1969 والتي كانت تعاني من العزلة الدولية آنذاك.
بين "التكويت" والعسكرة
وفي اواسط السبعينيات، وبعد ارتفاع اسعار وعوائد النفط كان الفقيد يردد على اصدقائه ومريديه بأنه يتوقع ان يطفو المجتمع في إغراءات استهلاكية (او ما عبر عنه بكلماته "تكويت العراق" في إشارة الى محاولات نقل النمط الاستهلاكي الكويتي الى العراق)، مبيناً أيضاً خشيته من زج العراق في سلسلة مغامرات عسكرية ينتج عنها دمار واسع بسبب العسكرة المتزايدة للدولة والمجتمع العراقيين. كان ذلك الكلام منه خاصاً لمريديه وأصدقائه من المثقفين، لم يستطع الفقيد نشره بسبب شدة القمع آنذاك. وقد شكل توقعه للمغامرات العسكرية للنظام في اواسط السبعينيات استبصارا مبكراً لما تحقق في الثمانينيات وما بعد من تغولٍ للدولة على المجتمع. وقد بني رأيه هذا على تحليل صائب للمسار الذي كان العراق قد بدأ بولوجه مع تعمق ظواهر كسب المنتفعين من الترييع المتزايد للعمل في الدولة التي تضخمت أعداد العاملين في أجهزتها، الأمر الذي عمق ظواهر عسكرة المجتمع والدولة في ظل رئاستي البكر وصدام اللتين زجتا البلاد في حروب داخلية مع الاكراد وخارجية مع ايران ومن بعدها الولايات المتحدة بعد غزو الكويت.
ثبات وتشبث بالوطن
كان الفقيد مدركاً لإستهدافه من قبل النظام البعثي الجائر، وكان يحس بأن داره الواقعة في حي اليرموك كانت مرصودة من أجهزة المخابرات الصدامية لكنه لم يلن في عزمه على الصمود داخل الوطن ليتيسر له الإتصال بالآخرين ومنهم مثلا اصدقاؤه الكثار من حملة الافكار التقدمية مثل إبراهيم كبة وعبد الفتاح ابراهيم وغيرهم، سعيا منه ومنهم لتكوين تيار فكري وسياسي تقدمي باسم «الديمقراطيين المستقلين». وكان هذا التيار قد تشكل في اواسط الستينيات وقدم بعض المذكرات الناقدة لسياسات حكومات متعددة تعاقبت على دست الحكم. بالتالي، وبالرغم من الأهمية التحليلية الرائدة لما كتبه الفقيد في شؤون علم الاقتصاد وتطبيقاته في العراق، إلا أن نشاطه تعدى الحدود المهنية الضيقة بإتجاه ممارسة نضالية فاعلة لمن كان متأثراً بتراث المدرسة الكلاسيكية في علم الإقتصاد، التي تأسست وتوطدت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والتي اطلقت على هذا العلم تسمية «الاقتصاد السياسي». وكما هو معروف ، فقد كان من رواد هذه المدرسة آدم سميث ومن ثم دافيد ريكاردو الذي طوّر نظرية القيمة في العمل والتي استخدمها كارل ماركس ضمن نظرياته التي ركًزت على توزيع القيمة بين الرأسماليين والعمال عبر طرحه لمفه?مي فائض القيمة والإستغلال. اما في القرن العشرين، فقد جاء كل من اوسكار لانجة ومايكل كاليتسكي بكتابات اعادت بعض الزخم لمنهجية الاقتصاد السياسي، بعد ان تأسس تيار النيوكلاسيك وطغى في الاوساط الاكاديمية الغربية منذ الربع الاخير من القرن التاسع عشر وحتى افل الكثير من نجمه بصعود الكينزية غداة الكساد الكبير لثلاثينيات القرن المنصرم. وقد سعى الفقيد في السبعينيات لنشر البعض من اهم ما كتب في القرن العشرين عن الاقتصاد السياسي بين القراء العرب والعراقيين، فأنفق البعض من ثمين وقته في ترجمة كتاب الاقتصاد السياسي لاوسكار لانجة. كما كتب مقدمة مهمة الفها هو لهذا الكتاب. وكان الفقيد في ذات الوقت يمارس عمله الاكاديمي ويشرف على أطاريح الماجستير لطلبته في جامعة بغداد، حتى إحالته على التقاعد، إضافة الى نشاطه كديمقراطي مستقل في نقد الحكومة وسياساتها الاستبدادية.
صمود حتى آخر نفس
لقد تعرض الفقيد نتيجة عمله الفكري والسياسي المستقل الى سلسلة لئيمة من الاضطهادات، كان منها إغتيال ابنه الاصغر عمار بالدهس على احد الارصفة في البصرة؛ حيث كان طالبا لامعا في كلية الطب بجامعة البصرة. وقد تكررت الاعتقالات بحق هذا المفكر الرائد بغية الحد من نشاطاته فاعتُقل الدكتور محمد سلمان حسن في السبعينيات والثمانينيات عدة مرات منها لمدة اسبوعين في 1971 ولـ 4 اسابيع في 1973، ولفترة اسبوع في 1976، ومن ثم لشهر واحد في 1981. وكان آخر الاعتقالات وأكثرها إيغالاً في القمع اللئيم لهذا المفكر العراقي الاصيل، زجه من قبَلِ اجهزة الامن الصدامية في مستشفى الشماعية لمدة 3 اشهر حيث تعرض للضرب واضرب عن الطعام إحتجاجاً لمدة 28 يوما. كل هذا القمع لم يكن إلا لكسر عزيمته فقد كانت الحكومة ترسل بعض معارفه من الذين اشترى النظام ذممهم، محاولين إغراءه بالتنازل عن افكاره السياسية ومبادئه الاخلاقية دون ان تلين قناته، كما لانت قناة البعض عبر المناصب والمال والحظوة الزائفة، الأمر الذي كان يوغر صدورهم عليه اكثر فأكثر.
رحيل المفكر المناضل
قبل اكثر من ربع قرن، وبالذات في 17 كانون الثاني 1989، رحل «غاندي العراق» المفكر الاقتصادي والمناضل الوطني الصلب والزاهد الدكتور محمد سلمان حسن، ليدفن في مقبرة اسرته آل الجراح في ابو غريب، جنبا الى جنب مع ولده الشهيد عمار. وقد ظن النظام البائد بوفاته انه قد تخلص من مُعارض عراقي آخر لم تلن قناته، لكن الذكرى العطرة لهذا المفكر الشجاع الذي جاء من وسط شعبي مكافح، والذي جاد بنفسه وبأسرته، باقية في قلوب محبيه وتلامذته وفقراء العراق. لقد ناضل محمد سلمان حسن من اجل إستقلال العراق واقتصاده عن التبعية الى الخارج ووهب حياته لأجلهم ولأجل الشعب، وناضل لتحسين اوضاعهم في عراق كان يأمل ان يصبح ديمقراطيا. وكان من معطيات نضاله هذا، المجهودات الفكرية البارزة والسياسية الحثيثة التي تحدثنا عن البعض منها.
كان الدكتور محمد سلمان حسن يسعى جاهداً لبناء عراق ديمقراطي مستقل عن الهيمنة الامبريالية، ويناضل ضد العسكرة المتزايدة للدولة والمجتمع عبر التسلط الحكومي والطبقية في توزيع الدخل والثروات، ومن اجل عراق الشعب الذي كان يأمل ألا تسوده العنصرية ولا يعرف الطائفية والتمييز الاجتماعي، وهو عراق المواطن الحر، الذي لم يتحقق حتى اليوم للأسف الشديد.