فضاءات

المغتربات العراقيات والسومريات / د. ناهدة محمد علي

لقد توزعت المغتربات العراقيات في أرجاء الأرض وبنين أُسراً متينة ومواقع علمية وأدبية رائعة , وكان على المغتربات التآلف مع المجتمعات الجديدة من جهة ومن جهة أخرى التزاحم مع الركب الحضاري والعلمي لهذه المجتمعات مع الإحتفاظ بالجذور والتي قد تجف أحياناً لعدم سقيها .
لقد لا حظت إن النقاط المضيئة التي تحاول أن تضيء حياة العراقيات والسواقي المنعشة التي تسقي جذورهن قد شقتها بعض المنظمات الحية والحيوية والتي تحاول ربط الماضي بالمستقبل لجيلنا وللجيل الناشيء ولأنه بحاجة ماسة الى هذه السُقيا . إن البعض من المنظمات الديمقراطية العراقية قد إهتم بالصحافة المحايدة والتي تهتم بنشر الثقافة المعاصرة مع إحياء التراث الحضاري للشعب العراقي وبضمن هذه المنظمات المنظمات الثقافية والإجتماعية ومنها جمعيات المرأة العراقية المنتشرة في أرجاء الأرض وفي جزيرة نيوزيلاند ايضاً حيث نشطت هذه الجمعية الوليدة في عملها الإجتماعي والثقافي وقامت بنشاطات ثقافية وإجتماعية ثم قامت مؤخراً بإصدار مجلة دورية ثقافية بإسم ( السومريات ) .لقد إسترعى إنتباهي التصميم الراقي لأغلفة المجلة والتلوين المتميز لها كما نجحت المجلة في إختيار المحتوى المتنوع والمتناغم مع التصميم الجميل .
إعتمدت الدكتورة / غادة محمد سليم - وهي رئيسة الجمعية ورئيسة تحريرها - على عناصر مختلفة من المثقفات العراقيات المبدعات كالشاعرة العراقية المعروفة ( عواطف عبد اللطيف ) والشاعرة المبدعة ( فرات أسبر ) وعلى أكاديميات في العلوم الطبيعية كالدكتورة ( ألحان الصقر ) ومثقفات عراقيات أُخريات قمن بتلوين المجلة بألوان وعطور مستقاة من الروح العراقية الطيبة والعقل العراقي المبدع .
يبدأ ظهور مجلة ( سومريات ) المنحوت المشهور للملكة السومرية ( شبعاد ) ثم ترتقي مع محررتها المسؤولة الدكتورة ( غادة محمد سليم ) حيث كتبت كلمة العدد , وبعدها إنتقلت المجلة الى تجارب نسائية متعددة ما بين تجارب العمل الإجتماعي والأدبي والعلمي والرياضي , وكانت التجربة الأولى لهذه المجلة هي تجربة المرأة العراقية في موضوع شؤون اللاجئين وإعادة توطينهم ورعايتهم , وقامت بكتابة ذلك السيدة المتخصصة ( غيد التميمي ) موضحة كيفية رعاية المهاجر إجتماعياً وجسدياً ونفسياً ومن خلال سردها يتبين الكم النوعي الإنساني لرعاية النيوزيلنديين للمهاجرين . أعجبتني خاطرة السيدة ( سيرين خيري ) التي أكدت فيها على أهمية الوجود الإنساني والحيواني في بلد مثل نيوزيلندا وأضحكني وأحزنني ايضاً ما قالته وما لم أكن أعلمه بأن أبناء شعبنا في العراق كانوا يتناولون اللحوم المشعة بعد أنفجار ( تشرنوبل ) .
وفي مجال الأدب تنوعت القصائد كباقة ورد مزدهرة ما بين الأحمر والأصفر والأبيض , بدأتها الشاعرة المعروفة ( فرات أسبر ) بقصيدة نثرية إنسانية جميلة حول ( الحب والغربة ) وهي لهذا ( تزرع عطراً وتطير الورد إلينا ) :
يا وطناً لم أشرب من فصوله سوى ماء
الخريف
أشُم عطرك
لا ألمسُ غير الغياب
وألمحُ على البعد وجهي , غريباً ,
يلقي الحنان على الجهات .
ثم إنتقلت الى زهرة أخرى شامخة وصلبة لكنها بيضاء فواحة , وكانت هي الشاعرة المبدعة ( عواطف عبد اللطيف ) , كانت قصيدتها موزونة عروضياً وإجتماعياً , لأنها كانت حول الأم العراقية ولا أعتقد أن الشاعرة ( عواطف ) كانت تقصد والدتها فقط , وأكثر ما أعجبني من هذه القصيدة المقاطع التالية :
أنام بحضنها وأعُب عيني ... بمرآها ويغمرني شذاها
وصوت الفجر يغمرني سلاماً ... وملء القلب يفرح إذ رآها
ويرقص خافقي ويزيد نبضي ... وعطر الليل عطّره هواها
ثم تقول :
وحر الشوق من ولهٍ تدلى ... على الأبواب مرتقبأ خطاها
ثم جاءت الشاعرة الراحلة القائمة بيننا ( فريدة الناصح ) وكانت فعلاً شاعرة الأمل , إذ أنها لم تقطع الأمل بالحياة الى لحظة الموت , وكان أجمل ما قرأت في قصيدتها الشعبية ( حلم عراقي ) وهو المقطع الآتي :
عراقي لا أبد ما يروح
ويظل طول الدهر لو زادوا الأشكال
كوم أُكف وشد حزام
لا لتكسرك الأيام لا لتروح
رضيت بكاعها ومايك من الشطين
رد إلها الفضل لو حتى ماي العين
كما كانت للدكتورة ( إيمان الياسري ) في لحظة إشتياقها الى بغداد وهي تقول :
بغداد يا ذكرى الطفولة والشباب
يا وطن حزين مزقته الذئاب
وإنتهشت جسده كل الأحزاب
وحين إنتقلت الى مجال القصة وجدت قصة جميلة ومؤثرة تجد فيها كل المغتربات العراقيات أحزانهن بفراق الأهل والوطن , وكانت قصة ( أسفار ) للدكتورة ( غادة محمد سليم ) قصة مؤثرة أثارت فيّ أحزان الرحيل وذكرياته , كانت تشبيهاتها الأدبية ناجحة ومبدعة ولغتها سهلة ممتنعة , حيث كانت كلماتها سلسة لكنها توصل القاريء إلى أجواء أوسع من الكلمة ذاتها , تثير خيال القاريء , وأتمنى لو تستمر الدكتورة ( غادة ) بنشر قصصها , وأذكر أني قلت لها ذات يوم أن تفردك يكمن في أنك باحثة جيولوجية ناجحة ورسامة وقاصة بنفس الوقت .
وكان لجانب العلوم مساحة واضحة في هذه المجلة , فلقد تحدثت الدكتورة ( ألحان الصقر ) وهي أكاديمية في مجال البايولوجيا عن إستخدامات أشعة الليزر في العلاجات التجميلية وعن مزايا ومحاذير هذه العلاجات , كما وضحت تأريخ إستخدام علاج الليزر وحددت أنواعها .
لم تغفل المجلة النشاطات الرياضية في العراق وفي نيوزيلندا , فقد تحدثت السيدة ( زهراء الطحان ) عن أوضاع الرياضة في العراق وطموحاتها ومشاكل اللاعبات بشكل خاص وإنجازات الرياضيات المتميزات في العراق ممن حصلن على الميداليات الذهبية كالبطلة ( دانة حسين ) وهي عداءة متميزة , كما تحدثت عن عداءات متميزات في رياضة الدراجات ورفع الأثقال , وحصل الكثير من الرباعات العراقيات على مداليات ذهبية وفضية , أما عن الرياضة في نيوزيلاندا فقد أقامت جمعية المرأة العراقية النيوزيلندية أمسية ثقافية وضحت بها فعاليات الرياضيات العراقيات في نيوزيلندا اللواتي شاركن في سباق المشي لـ 100 كيلو متر ولصالح منظمة ( أوكسفام ) وهي أكبر المؤسسات الخيرية والتي تحارب المجاعات في العالم , وقدمت المجلة توضيحياً لعمل الفرق الرياضية في هذا المجال وكانت الشابات العراقيات الرياضيات مدعاة فخر للمجتمع العراقي في نيوزيلندا ولجمعية المرأة العراقية النيوزيلندية الثقافية .
لقد عرضت المجلة في نهايتها النشاطات الدورية لجمعية المرأة , كإحتفائها بيوم المرأة العالمي من خلال أمسية ثقافية للدكتورة ( أسيل رسول ) والتي قدمت تجربة جميلة لشابة عراقية تربت وعاشت في المهجر لتقدم لأطفال بلدها مشروعاً خيرياً لمساعدة أطفال العراق وعلاجهم في الخارج وكان العرض خيراً ونبيلاً يدل على أن البعد عن الوطن لم يكن أبداً مانعاً في التواصل معه ودعم شرائحه المحتاجة للرعاية .
وأدرجت المجلة نشاطات أخرى للجمعية بمناسبة اليوم العالمي ضد التمييز العنصري في إحتفال ميداني في الشارع النيوزيلندي , وكان عرضاً جميلاً قدمت فيه كل الأجناس التي تعيش على الأرض النيوزيلندية بشكل ودي تراثها وميراثها الشعبي وأطعمتها المحلية وفلكلورها الشعبي الملون , وكان تطريزاً جميلاً للخارطة النيوزيلندية .
إن تقييمي الأخير لهذه المجلة الطليعية في تجربتها هو أنها قد تميزت رغم حداثتها بإختيار موفق للألوان والتصاميم , وكان وجه المرأة السومرية على الغلاف الأول هو التراث الحضاري العرقي للعراقيات .
وكان الغلاف الأخير يمثل وجه المرأة العراقية المعاصر والرابط بينهما واضح وهو الإصرار والعزيمة والحزن والشفافية , وكانت لوحة الفنان الراحل ( جواد سليم ) هي المعبر عن ذلك .
حاولت بتقييمي هذا أن أبرز جهود المرأة العراقية المهاجرة رغم مشاغلها وهمومها في إحتواء الأوضاع المحلية والعالمية , وأعتقد أن المجلة بدعم المثقفات العراقيات ستبرز صعوداً الى الأعلى وهي بحاجة للدعم المحلي والعالمي من قِبل العراقيين بشكل عام ودعم المثقفات العراقيات بشكل خاص .