فضاءات

العاطلون يبتكرون مهناً جديدة لكسب العيش / لويس فؤاد العمار

لم تنجح الحكومات المتعاقبة على سدة الحكم منذ 2003 وحتى اللحظة الراهنة في استثمار ثروات البلد الطبيعية والبشرية الهائلة لتحقيق الرفاهية والعيش الكريم لأبناء الشعب العراقي. كما لم تنجح في استغلال معدلات إنتاج النفط المرتفعة وعائداته المالية الكبيرة لإنقاذ الاقتصاد العراقي من التدهور وإدارة دفته نحو العمل على امتصاص آفة البطالة المتفشية بين شرائح واسعة من العراقيين من خلال إعادة تأهيل مصانع الدولة المعطلة منذ سنوات وإنعاش القطاع الخاص والاهتمام بالقطاع الزراعي الذي اخذ بالاضمحلال شيئا فشيئا..
جميع هذه الإرهاصات دفعت بعراقيين يمثلون نسبة كبيرة جدا من الشعب إلى (اختراع) مهن جديدة لكسب الرزق. بعضها لا تحمل توصيفا محددا, بينما البعض الآخر منها ازدهر وعاد إلى واجهة سوق العمل من جديد بسبب الفقر والبطالة وقلة فرص العمل.
سبب ونتيجة

يشير بعض المختصين في الشأن الاقتصادي إلى أن من أهم الأسباب التي أدت إلى توقف مصانع الدولة والمعامل الأهلية عن العمل هو نقص الطاقة الكهربائية وتدني مستويات إنتاجها إلى معدلات لا تكفي لتشغيل المصانع على مدار ساعات الإنتاج والعمل المعروفة في اليوم الواحد، إلى جانب سوء التخطيط في التخصيصات المالية من الموازنات العامة المرصودة لأجل إعادة تأهيل المصانع والمعامل المعطلة وإعادة عجلة إنتاجها إلى الدوران من جديد. إذ عادة ما تأتي التخصيصات المالية لهذه القطاعات دون مستوى الطموح نتيجة لجملة من الأسباب لعل في مقدمتها الخلافات السياسية بين الكتل المتنفذة في السلطة.
أسباب أخرى يشير إليها السيد علي هاتف المكصوصي المهتم بالشأن الاقتصادي تتمثل باستشراء الفساد في مراكز صنع القرار في هذه القطاعات، ويرى أن هنالك تعمدا في إبقاء مصانع الدولة معطلة للاعتماد على الاستيراد لأنه يحقق لهذه الرؤوس الكبيرة مكاسب مالية غير مشروعة تأتي عن طريق عمولات وصفقات مشبوهة مع الجهات المصدرة للسلع والبضائع إلى البلد.. وبالنتيجة ارتفاع نسب البطالة بين صفوف العراقيين القادرين منهم على العمل والإنتاج بسبب هذا الوضع.
ولا تقل مشاكل القطاع الزراعي كثيرا عن القطاع الصناعي لجملة من الأسباب تتوزع ما بين قلة الدعم الحكومي المقدم للمزارعين والفلاحين في مجالات البذور والأسمدة وغيرها من المستلزمات الزراعية إلى جانب تخلف منظومة الري في ظل أزمة مياه حقيقية يعاني منها البلد جراء سياسات عدائية تمارسها دول الجوار المتشاطئة مع العراق في الأنهار والمسطحات المائية، وما بين سياسة الاستيراد العشوائي وغير المدروس للمنتجات الزراعية التي ألحقت بالمزارعين والفلاحين أضرارا جسيمة دفعتهم إلى هجرة مزارعهم وأراضيهم والتوجه إلى مراكز المدن للبحث عن فرص عمل بديلة .. إذ يبين المكصوصي ان القطاع الزراعي كان يساهم في تشغيل آلاف الأيدي العاملة سواء المشاركة في الإنتاج الزراعي بشكل مباشر أم الصناعات التحويلية الأخرى التي يشترك فيها القطاع الزراعي والصناعي معا.
المكصوصي أكد أن العراق وبسبب إهمال القطاع الزراعي الذي كان يغطي حاجة السوق المحلية من الفواكه والخضر أصبح الآن مستوردا للمحاصيل الزراعية من دول الجوار بعد أن كان منتجا ومصدرا لبعضها.
وخلص المكصوصي في حديثه إلى أن هذه الأسباب وغيرها خلقت واقعا معاشيا صعبا لأغلب العراقيين بحيث اضطرتهم إلى تحصيل لقمة العيش عن طريق (اختراع )مهن جديدة وذات مردود مادي متدن كواقع حال مفروض عليهم كون الحصول على وظيفة حكومية في الوقت الراهن يعد أمرا صعب المنال في ظل المحسوبية والمحاصصة والفساد. وكذلك صعوبة افتتاح مشاريع إنتاجية خاصة بسبب المشاكل التي يعاني منها القطاع الخاص والتي لاحصر لها وتقف عائقا حقيقيا أمام نهوضه من جديد ابتداء من أزمة الطاقة وليس انتهاء بسياسة إغراق السوق المحلية بالسلع والبضائع المستوردة الرخيصة نسبيا قياسا إلى تكاليف الإنتاج المحلي المرتفعة. المكصوصي عد ظهور هذه المهن الجديدة أمرا طبيعيا في ظل كل هذه المعطيات والعوامل التي لم تسع الحكومات المتعاقبة بعد 2003 إلى حلها بجدية والقضاء على أسبابها بشكل عملي ومدروس..

مهن لها جذور قديمة

لعل العديد من المهن الحالية التي يزاولها الفقراء لكسب لقمة عيشهم تمتد جذورها لفترة الحصار الاقتصادي في تسعينيات القرن المنصرم بسبب تشابه الظروف المعيشية في حينها مع الظروف الحالية غير أن بعض المتغيرات الحياتية خلقت مهنا جديدة لتتماشى معها إلا أن القاسم المشترك فيما بينها يتمحور حول تدني مردودها المادي الذي لايوفر كل المتطلبات الحياتية والعيش الكريم.

مهنة الدوارة

قد لا تكون مهنة الدوارة، أو كما يسميها البعض الآخر بالعتاكة، من المهن الجديدة التي طفت على سطح الواقع المعاش. غير أن انتشارها بين شرائح واسعة من أبناء الشعب العراقي بهذا الحجم المخيف هو الشيء الجديد فيها.
المحزن والمرعب معا في هذه المهنة القاسية والمذلة هو أن أغلب من يزاولها هم من الأطفال المتسربين من المدارس لإعالة عائلاتهم الفقيرة. وبرغم مردودها المادي البائس إلا أن أسراً عراقية كثيرة تعتاش منها لسد رمقها ومواصلة الحياة.
وازدهرت هذه المهنة خلال فترة الحصار في تسعينيات القرن المنصرم وبدأت تدخل معها بعض الاختصاصات الأخرى، كشراء طحين الحصة التموينية الرديء واستخدامه كعلف رخيص للماشية أو حتى لبيعه إلى أصحاب الأفران والمخابز الذين كانوا يخلطونه مع كميات صغيرة من الطحين المستورد الجيد لتمشية أعمالهم.
غير أن مهنة العتاكة بشكلها الحالي والتي يزاولها في الغالب أطفال صغار، أخذت بالانتشار مع بداية الاحتلال في 2003 بالتزامن مع تدفق السلع إلى البلد بما فيها علب البيبسي كولا بكميات هائلة وجدها البعض من أصحاب الورش الصناعية مادة جيدة لإعادة تصنيعها من جديد بعد إذابتها كونها مصنوعة من الألمنيوم.
ويستعرض سمير محمد 16 عاما وهو احد العتاكة أصناف المهنة مشيرا إلى أنها تنقسم إلى أنواع عديدة منها جامعو علب البيبسي كولا الفارغة وهم الأكثر انتشارا نظرا لتوفر العلب الفارغة بكميات كبيرة في الشوارع والحاويات وأماكن رمي النفايات في الأحياء السكنية من جهة، وخفة حملها وسهولة تخزينها من جهة أخرى، إضافة إلى أسعار شرائها الجيدة من قبل تجار هذا النوع.
ويعدد الشاب سمير الأصناف الأخرى لهذه المهنة قائلا: هناك من لا يزال يمارس مهنة شراء السلع المنزلية والكهربائية العاطلة من البيوت ومن ثم قيامهم بتفكيك هذه السلع والاستفادة من كل أجزائها من نحاس و(فافون) وبلاستك، كون المواد الداخلة في تصنيعها مواد تحظى بالإقبال من تجار هذا النوع .. لكنه يستدرك قائلا: غير أن هذا الصنف من المهنة يتطلب رأس مال جيد وأشياء أخرى لنقل هذه السلع والتي تتوفر منها الآن كميات كبيرة نتيجة لكثرة عطلاتها واستهلاكها السريع عكس السلع القديمة التي كان يعاد تصليحها ومن ثم بيعها مرة أخرى إلى العوائل ذات الدخل المحدود .. لذلك  يتابع- هي تقتصر على عدد محدود من مزاوليها ممن لهم خبرة كافية في ممارسة المهنة والقدرة على المساومة وامتلاك رأس المال الجيد.
ومن الأصناف الأخرى لمهنة العتاكة يشير الشاب سمير إلى صنف جامعي (الخبز اليابس) وطحين الحصة التموينية الرديء، وهؤلاء بحسب محدثنا يتميزون عن غيرهم من العتاكة الآخرين بأنهم يستخدمون العربات التي تجرها الحيوانات.. ويشير إلى أن لهذا الصنف من العتاكة تجاره المتخصصون. حيث يتم شراء ما يجمعه العتاكة من المنازل وافران الخبز والصمون أو النفايات المنتشرة بين الأحياء السكنية ومن ثم بيعه بالأطنان إلى مربي المواشي بأسعار جيدة.
وينتهي محدثنا إلى آخر صنف من أصناف العتاكة وهو الأكثر قسوة من غيره بالنسبة لطبيعة العمل فيه، ويسمى (النباشة). حيث يتركز عمل هذا النوع في مواقع طمر النفايات عند أطراف المدن . وجاءت التسمية من قيام العتاكة فيه بنبش أكوام النفايات والازبال التي تقذفها سيارات جمع النفايات، للبحث عن مختلف المواد الموجودة في القمامة..

" نساء في مساطر العمال"

الناشطة النسوية السيدة هالة عبد الرضا بينت أن اغلب العاملات من النساء في مهن مستحدثة شاقة وقاسية، هن من الأرامل أو اللاتي بلا معيل بحيث أجبرتهن الظروف المعيشية الصعبة في ظل تخلي المؤسسة الحكومية عن دورها وواجبها في احتضان أمثال هؤلاء النسوة في توفير متطلبات الحياة الكريمة لهن على كسب قوت عوائلهن الفقيرة من خلال العمل بمهن لم تكن المجتمعات العراقية قد تعودت على أن تجد المرأة تخوض في غمارها جراء قسوتها وظروفها الشاقة. إذ زاولت نساء بمختلف الأعمار مهنة عاملات بناء بحيث وصل الأمر إلى وجود أماكن لتجمعهن ( مساطر العمال) في الكاظمية والنهروان.
ورغم قسوة المهنة إلا أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل زاد من سوئه نظرات الازدراء لهؤلاء النساء من قبل بعض أصحاب النفوس الضعيفة والمتخلفة وكأن انخراط هؤلاء النسوة في مثل هذا النوع من العمل جاء باختيارهن وإرادتهن..

" وفي معامل الطابوق"

ولعل عمل النسوة في معامل الطابوق , يعد الأقسى بين المهن التي تزاولها النساء العراقيات المجبرات على أعمال هكذا نتيجة تركهن وحيدات في مواجهة مصاعب الحياة وتوفير قوت أسرهن، وذلك بسبب قسوة ظروف العمل في تلك الأماكن. حيث نسبة التلوث القاتلة كون اغلب المعامل تتصف بكونها قديمة المنشأ ولا تراعي شروط السلامة المهنية للعاملين فيها، إلى جانب ساعات العمل الطويلة والأجور المتدنية وغياب الحقوق العمالية كالتعويض المادي في حال وقوع الإصابات جراء العمل وغيرها.
حيث تشير الناشطة النسوية السيدة شذى عبد الوهاب بالقول:- تتميز النساء العاملات في معامل الطابوق الأهلية بكونهن نازحات من القرى والأرياف القريبة من المدن . إذ تسببت سياسات الإهمال للقطاع الزراعي وفتح باب الاستيراد العشوائي على مصراعيه أمام المنتجات الزراعية من دول الجوار لتغزو الأسواق المحلية للبلد, بهجرة العديد من العوائل التي كانت تمارس مهنة الزراعة وتوفر قوتها من خلال ذلك العمل في الأرض, والى جانب ذلك لعبت الظروف المناخية المتدهورة من جفاف وتصحر وقلة مصادر المياه كعوامل إضافية في هجرة العديد من العائلات الفلاحية وصغار المزارعين للعمل في المدينة. وبسبب ندرة فرص العمل الملائمة وخصوصا للنساء، اتجه اغلبهن للعمل في معامل الطابوق الأهلية المنتشرة في ضواحي المدن ليواجهن هناك مصاعب جمة نتيجة لقسوة المهنة وصعوبتها. غير أن الأحوال المعيشية لهن كونهن بلا معيل قادر على توفير متطلبات الحياة الضرورية، أجبرهن على مزاولة هذه المهنة الشاقة.

التسول

وإذا ما اعتبرنا أن التسول قد أصبح الآن مهنة للعيش، فأنها لم تكن جديدة في الواقع المعاش ولكن المثير فيها أن انتشارها عادة ما يرتبط بتفشي الفقر والحرمان والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية مجتمعة.. (مهنة) التسول انتشرت في الآونة الأخيرة انتشارا كبيرا متحولة إلى ظاهرة أقلقت العديد من المتابعين للشأن الاجتماعي في العراق . إذ يبين الناشط المدني وسيم علاء أن من أهم أسباب انتشار التسول واتخاذه كمهنة للعيش هو تدهور الأوضاع المعيشية التي يمر بها البلد وسوء توزيع الثروة بين أبناء الشعب العراقي. مضيفا: أن اغلب من يزاول المهنة هم بالعادة الأطفال المشردون الذين بلا عوائل تحتضنهم أو في أكثر الأحيان هي من تدفعهم للعمل بهذه المهنة جراء الفقر المدقع الذي تعيشه. وكذلك تمارس بعض النساء التسول وخصوصا القادمات منهن من مدن أخرى غير العاصمة بغداد. موضحا أن اغلب هذه النساء هن من الأرامل اللاتي بلا معيل يوفر متطلباتهن المعيشية..

المضمد الصحي

المضمد الصحي أبو محمد يؤكد أن اغلب المضمدين الصحيين الحاليين لايتمتعون بالأهلية لممارسة المهنة ويفتقرون إلى ابسط مقوماتها وشروطها المهنية كون العديد منهم هم من الشباب العاطلين عن العمل اضطرتهم الظروف المعيشية الصعبة إلى مزاولة مهنة المضمد الصحي والقيام أحيانا بدور الطبيب مستسهلين الأمر من خلال معرفتهم ببعض الأدوية والمضادات الحيوية في معالجة أمراض محدودة ومشخصة سلفا. ويضيف أبو محمد أن عدم تمتع اغلب المضمدين بالخبرة المطلوبة تسبب بحصول مضاعفات خطيرة على صحة المرضى من خلال أخطائهم في التشخيص وصرف الأدوية غير الملائمة للمرضى ماتسبب في بعض الأحيان بحدوث حالات إغماء أو اختناق خصوصا للمرضى الأطفال المصابين بأمراض التنفس أو كما حدث لطفلة أصيبت بالشلل الدائمي نتيجة لإعطائها دواء خاطئا عن طريق الحقن في العضلة..
حاجة بربع
لعل من أشهر المهن الحديثة التي اخترعها العراقيون لكسب قوتهم هي مايطلق عليها باللهجة العراقية(حاجة بربع) حيث تمارس هذه المهنة فوق الأرصفة وتباع من خلالها أشياء وسلع بسيطة جدا وبأصغر الفئات النقدية المتداولة.الشاب حسين سجاد يشير إلى أن هذه المهنة لا تتطلب رأس مال كبير ولا حاجة إلى تأجير محل لممارستها . مبينا أن اغلب ممارسي هذه المهنة هم من الفقراء والشباب العاطلين عن العمل ممن لم يجدوا فرصة للتعيين في دوائر الدولة. ويوضح سجاد أن مردودها المادي بالكاد يسد الرمق كون أرباحها قليلة نظرا إلى هامش الربح المتحقق من ورائها باعتبار أن حاجياتها تباع بأصغر العملات النقدية المتداولة، وبالتالي لايمكن الاعتماد عليها لإعالة عائلة كبيرة لها متطلبات معيشية عديدة لتصبح هذه المهنة مجرد وسيلة وقتية للكسب لحين توفر البديل الأفضل.

شاي سفري

قبل عام تقريبا من الآن راح العراقيون يشاهدون مهنة هي الأخرى لا تحمل توصيفا محددا. إذ انتشرت في الآونة الأخيرة مهنة بيع الشاي السفري في تقاطعات الشوارع وقرب السيطرات الأمنية العديدة المنتشرة في كل مكان. يقول الشاب مهند عبد الحسين انه تنقل مابين مهن عدة خلال السنوات الأخيرة لكسب قوت عائلته من خلالها. مبينا أن هذه المهنة لاتتطلب رأس مال كبير لمزاولتها وأشار إلى أن أماكن مزاولتها هي الشوارع المزدحمة وبالقرب من السيطرات الأمنية. موضحا أن مردودها المادي يكاد لايوازي الجهد المبذول فيها غير انه لابديل أمامه لكسب قوت عائلته سوى العمل في أي مهنة حتى لو كانت بنظر البعض اقرب ماتكون للتسول.

خاتمة

من يدري ماذا يخبئ لنا المستقبل القريب في ظل بقاء الظروف المعاشية الصعبة ذاتها لأغلب العراقيين حتى نشهد استحداث واختراع مهن أخرى لا يمكن توصيفها، توجدها الظروف الاقتصادية المرتبكة والقاسية التي تمر بها شرائح واسعة من المجتمع العراقي.
بين هذه المهن المستحدثة نتيجة للظروف المعاشية الصعبة وبين التسول يكاد يكون هناك خيط رفيع جدا نأمل ان لا يأتي اليوم الذي ينقطع فيه، كي نحفظ لشبابنا وأطفالنا كرامتهم في بلدهم المتخم بالخيرات والموارد.