اعمدة طريق الشعب

الفرصة الضائعة: النزوح / ياسر السالم

نحو أربعة ملايين إنسان مُشردٌ من سُكناه.. رقم مهول، لم يشهده تاريخ العراق من قبل. لا تقفلوا على هذا الرقم، فالعدد قابل للزيادة مع اقتراب معركة تحرير الموصل من عصابات داعش!
وحيث تبقى أرقام النزوح متحركة، فان الشيء الوحيد الثابت هو: معاناة النازحين..
تُعرّي أزمة النازحين في العراق حقائق تاريخية وسياسية وأخرى اجتماعية. فلم تكن هذه الأزمة الأولى من نوعها في تاريخ العراق المعاصر، بل سبقتها موجات نزوح منها: تهجير الأيزيديين والكرد الفيلية و»التبعية» في أعوام السبعينات والثمانينات، فضلاً عن نزوح المواطنين أثناء فترة الحرب مع إيران،و هجرة الكرد المليونية سنة 1991 نحو تركيا وإيران، وغيرها.
ماذا تكشف هذه الحقائق التاريخية؟ الجواب: إن العراق لم يكن دولة، وهو كذلك بعد.. بل تعاقبُ أنظمةٍ سلطويةٍ، بشكل وبأخر، على حكم هذا الشعب وأرضه من دون أن تؤسس لقيام دولة.
فلم يُشرّع قانونٌ يدير أحوال البلاد والناس في حالات الكوارث والنزوح، ويحميهم من المعاناة. أبسط مبادئ قيام الدولة هو استعدادها وقدرتها على حماية رعاياها !
في بريطانيا، وخلال أعوام الحرب العالمية الثانية، أخلت السلطات ما يقارب المليوني طفل من المدن الرئيسة إلى مناطق الريف، هرباً من قصف الطائرات النازية.
أخلت حكومة تشرشل هذا العدد الكبير من الأطفال، وأقامت لهم مجمعات سكنية خاصة، وسكن عدد كبير منهم مع عائلات بديلة، من أجل منحهم الفرصة لإكمال دراستهم، بدلاً من وضعهم في مخيمات اللجوء.
هذا الحدث الكبير في تاريخ بريطانيا، هو ما دفع السلطات آنذاك إلى إنشاء نظام رعاية متطور في المؤسسات التعليمية، ما زال متبعاً حتى اليوم؛ هذا الحدث الكبير هو ما عزز التضامن الاجتماعي في بريطانيا، حسبما يقول مؤرخون.
هكذا تستفيد الشعوب والحكومات من الأزمات.. فماذا يستفيد العراقيون من أزمة النازحين الحالية؟!
الواقع، أن المجتمع العراقي أثبت شيئاً من الجدارة الإنسانية في تعامله مع القضية، بينما كان الفشل، سياسياً وأمنياً وإنسانياً، يرافق أداء الحكومة وقواها السياسية.
كيف؟
نظم النشطاء حملات تبرع ودعم للنازحين، وتمكنوا من إيصال المساعدات إلى المخيمات.. في المقابل، لا أحد يعلم مصير الملياري دولار المخصصة إلى لجنة إغاثة النازحين.
وكل ما قيل، من طرف الحكومة، عن ظروف مساعدة النازحين كان بمثابة إعلان تجارة سياسية: لا مال يكفي لتغطية نفقات الحرب على داعش وتوفير مستلزمات إغاثة النازحين.. نريد مساعدات.
فتح المواطنون في محافظات الجنوب بيوتهم أمام النازحين. وثمة عديدٌ من القصص عن عائلات تتشارك حتى القوت اليومي.. في حين عمدت الحكومة إلى عزل أعداد غفيرة من النازحين في مخيمات بعيدة عن المدن. وحتى بعض تلك التي أقيمت في المدن، فأنها بشهادة نشطاء زاروها، كانت معزولة تماماً عن محيطها.
وسياسياً، فأن كل تحركات وخطابات القوى المتنفذة، كانت تفكر في جموع المهجرين من مدنهم، كأرصدة انتخابية، وأولها القوى التي تدعي تمثيل تلك المناطق.
والفشل الأمني واضح، بشهادة جسر بزيبز، الذي نام على حدوده لأيام طويلة نازحو الرمادي.
إذاً، ضيّعت الحكومة فرصة خلق مجتمعٍ متماسكٍ، توحده أوضاعٍ مأساوية ألمت بالعراقيين ككل، دون استثناء.
صحيح، أن المجتمع نجح، إلى حدٍ ما، في خلق أجواء التضامن المجتمعي.. لكنها جرعة غير كافية لجسد عراقي شوهته الحروب الطائفية.