اعمدة طريق الشعب

أم حميد..حكايةُ نضالٍ سياسي / أحمد حميد المسعودي

كان فرحان ساجت فلاحاً من أرياف الفرات الأوسط، كربلاء تحديداً، يعاني من ضمور قدّري في إنجاب الصبية من الأبناء ليقترض على وضعهِ الاقتصادي العليل بضعة دنانير بغية الانطلاق بتنفيذ زواج ثانٍ، علهُ ينجبُ ذكراً متباهياً به أمام الناسِ والعشير. بينهُ وبين هاشميـة (عروستهِ الجديدة)، فارقٌ زمنيُ يصل لنحـو 20 عاماً. الأمر الذي جعله يتقاعدُ مبكراً عن إدارةِ شؤون الحياةِ والعائلة، نتيجة عوامل الشيخوخة البيولوجية و إفرازات شقاء سنواتهِ القاسية منذ الصغر.
اقتحام الأسواق العامة، بات ضرورةً ملحـةً بالنسبةِ لهاشمية لإعالة أسرتها المتكونة من (أربعة ذكور وبنات ثلاث)، لتخوض في ميدانها التجاري أقسى نزالات الحياة حينما عملت كبائعةٍ متجولةٍ في أزقةِ سدةِ الهندية (الناحية الرابطة بين محافظتي بابل وكربلاء)، إذ يأخذها النهار ويأتي بها الليل، في سبيل لقمةٍ عيشٍ شريف، لتعرفها أسواق الحي الشعبية، عاملةً عنيـدةً وشخصيةً فريدةً، وشديدةً في التعاطي مع المثبطاتِ والظروفِ و القدّر، حتى باتت أشهر من نارٍ على علم في متاجر الناحية، حيث بات متجرها النسائي ماركة مسجلة داخل حيّها الشعبي، مجرد ما تذكر أُسمها.. (أمُ حميد).
مـدّ الأفكار الداعيةِ إلى المساواةِ المجتمعية والعدالةِ الاجتماعية، استهوى ولدها البكر، بداية سبعينيات القرن الماضي، لينضوي تحت يافطة شيوعييّ سدة الهندية، حتى أضحى من كبار شبيبتها الفاعلين فيها، و محطِ رصدٍ دائمٍ من قبلِ الأجهزةِ الأمنيةِ هناك. الأمر الذي جارَ كثيراً على تلك الأم الحنون، وهي ترى ولدها خلف أقفاص محكمة الثورة ممهورةً أوراقهُ بحكم الإعدام. لتغور وقتها في خضمِ جولاتها المستحيلة عبر طرق أبواب كبار مسؤولي الدولة يومـذاك، ابتداءً من «شبيب المالكي»، وزير العدل الأسبق، لتصل إلى «صبحة» والدة صدام حسين، جاثيـةً على أقدامها في سبيلِ إنقاذِ حميدها، الذي بفضلها استبدل حكمه من الإعدام إلى المؤبد، ليفرج عنه بعد تولي السيد النائب، رياسة الجمهورية.
فكل عقدٍ من عقود البعث الحاكم كان له لكمة في وجدانها المرهق، لا سيما في عقـديهِ الأخيرين، حيث البداية كانت عندما اقتنصت رصاصات الحرب العراقية الإيرانية، روح ولدها اليافع (أحمد)، في نهر جاسم عام ١٩٨٧، لتنتقي شظايا المـوت ثانيةً روح ولدها الآخر (مُحمد) المنتفض على أسوار الفرقة الحزبية في انتفاضة آذار الشعبية من العام ١٩٩١. هزتان وجدانيتان، جعلتاها تخوضُ غمار النضال السياسي عبر لسانها السليطِ على النظامِ هنا وهناك، الأمر الذي جعل من بعثييِّ المنطقة في حرجٍ دائم، نتيجة كرمها وسخائها على أبناءِ جلدتها ومنطقتها، ما جعلها محبوبة الجميـع، حيث لم يستطيعوا اعتقالها، سوى مرة واحدة، حينما مزقت صورة الطاغية بُعيـد جحيم الانتفاضة، إلا أن مساعي أبناء منطقتها تكللت بإطلاق سراحها وقتذاك.
لتمضي سنواتها ممنيـةَ النفسِ بيومِ سقوطهِ قبيل أن يحين قطاف الروح والعمر المرير جراء سنوات العراق العجاف، فما كان من جدتي إلا أن تقف على قامتها توزعُ الشتائم والحلوى على روح صدام حسين، لحظة سماع نبأ إعدامهِ في نهاية كانون الأول من العام 2006، لتسدل الستار على روايةِ عمرٍ سحيق، لم يخلو من جنونٍ وصِدامٍ ونضال، وكان ذلك في إحدى صباحات حزيران من سنواتِ التغيير الأولى.