ادب وفن

رواد قصيدة النثر.. محاولة للتأصيل / نبيل عبد الأمير الربيعي

ظهر في العراق مطلع القرن الماضي إتجاه أدبي يفترض وجود أرض مشتركة بين الشعر والنثر من دون قوانين تقليدية, مما أدى إلى إعادة الاعتبار لأفضل ما في النثر من إمكانيات يمكنها ملامسة الفضاء الشعري الرقيق, كان في مقدمة هؤلاء الأدباء وروّاد قصيدة النثر في العراق "رفائل بطي, مراد ميخائيل, حسين مردان", وجاء من بعدهم الشعراء العراقيون الذين اهتموا بكتابة هذا النمط من الأدب, نتيجة إهمال ممن كتب أول قصيدة النثر للشعر العربي الحديث.
عن دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر صدرت للأديب والناقد شاكر لعيبي دراسة لخمسة عشر أديباً عراقياً بعنوان "رواد قصيدة النثر في العراق.. محاولة للتأصيل" الكتاب يحتوي على "176" ورقة من الحجم المتوسط, ويؤكد الكاتب شاكر لعيبي في ص7 "منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى عشرينيات القرن العشرين أنبثقت كتابات نثرية عربية, عاطفية, رومانسية في جوهرها, متألمة وذات مسحة شاعرية لا يمكن وضعها في السياق الراهن", فكان رواد قصيدة النثر هم كما ذكر الكاتب أعلاه, أي بمعنى لم يكن رائد قصيدة النثر هو بدر شاكر السياب ولكن أول من كتبوا قصيدة النثر هو الأديب والصحفي رفائيل بطي الذي كتب أولى قصائده النثرية عام1920 , تناول مجموعة من الشعر المسمى يومها بالشعر المنثور في العراق , كانت أولى مجموعة بطي "الربيعيات" التي طبعت عام1925 وهي تشمل أربع عشرة قصيدة في مائة صفحة , حيث يؤكد لعيبي في ص 27 " عندما كتب رفائيل بطي أولى قصائده النثرية كما سنرى , وهو أمر كان يمنعه, كما مجايليه اللبنانيين الذين ربما استلهم بعض الأفكار منهم" ,أما الشاعر الآخر فهو مراد ميخائيل المهجّر قسرياً من أرض العراق لديانته الموسوية الذي قرض شعره معروف الرصافي في مجلة الحرية عام 1926, كان مراد ينشر بها أعماله الأدبية , كان الرصافي معجباً بقصيدة النثر للشاعر مراد ميخائيل ولنمطه الشعري المنثور الجديد, يعتبر مراد ميخائيل الرائد الحقيقي لقصيدة النثر في العراق , حيث كان من المتحمسين لقصيدة النثر من خلال إطلاعه على قصائد الشاعر طاغور حتى لقائه به في بغداد عند زيارة طاغور للعراق واستقباله من قبل الزهاوي, فكانت قصيدة "عبادة حب" التي نشرت في مجلة المصباح عام 1924 مطلع شبابه , كان ميخائيل يعمل في محطة سكك الشرقاط , كان هذا مطلعها :
إن قلبي مثل الذي تذرفيه
يلثم الوجد مثلما تلثميه
وعلى العهد إن بقيت أمينة
يعبد الحب مثلما تعبديه.
يتطرق الناقد شاكر لعيبي إلى حياة الشاعر معروف الرصافي الذي شرع "في العشرينات بكتابة نصوص شعرية منثورة , نشرها في مجلة (الحرية) البغدادية , وأطلق عليها الشعر الصامت مرة والشعر المنثور مرة أخرى ويسميها العلامة اللغوي د. مصطفى جواد بالنثر المشعور ", وظل الرصافي الأكثر جرأة في تقبل الشعر الجديد الذي أطلق عليه "الشعر المنثور العاري عن الوزن والقافية" , أما ما كتب الناقد لعيبي عن الشاعر الزهاوي في ص21 والذي كان من أنصار التطور حيث يؤكد "القافية حسب رأيه: إلا من اعتادوا سماعها وإنها إذ أهملت- القول للزهاوي- بعد بضع سنين فسوف لا يجد السامع فيها ذلك الطرب" حيث يؤكد لعيبي في ص29 إن الزهاوي كان " يفضل كتابة النثر الفني , دون أن يطلق عليه شعراً منثوراً " حيث نظم الزهاوي الشعر بالعربية والفارسية والكردية, أما الشاعر شكري الفضلي الذي يأسف الناقد لعيبي لعدم عثوره حتى الآن للشاعر على نص شعري منثور, هذا الشاعر الذي تأثر بما دعا إليه الزهاوي من كتابة الشعر المرسل , حيث أشار في ص 38 "إن العلاقة لم تكن بالوضوح الكافي بـ "شعر منثور" خالٍ تماماً من الوزن, وما نسميه اليوم بالشعر الحر ", كما كتب الشاعر والباحث مير بصري الشعر العمودي والشعر المنثور أو الحر حيث كان مير بصري ص43" في غاية الأخلاص للثقافة العربية , حتى انه ذكر في أرجوزته "مواكب العصور" استشهاد الأمام الحسين :
أنا للحق أنا سبط الرسول
أنا للعدل وللدين قويم
يا لأرض تروت بالدماء
وقف الدهر أسى في كربلاء.
هذا مع العلم إن الراحل أنور شاؤل قد كتب قصيدة الشعر الحر عام 1929 وقد نشرت في جريدة العراق تحت عنوان الشعر المرسل :
ولتكوني مثلما قد
كُنتً أو سوف أكونُ
مثلاً للعاشقين
وإذا ما غبت يوماً
فليكن طيفي بجنبك
باسماً أحلى ابتسام
أما في ص50 فقد أشار الناقد شاكر لعيبي إلى الروائي عبد المجيد لطفي "ثلاثة أعمال للطفي في الأقل , تدل على ارتباطه بنوعٍ من النثر الشعريّ, أو الشعر المنثور :أصداء الزمن 1939, عفيفة "خواطر أدبية" 1953, وخليج المرجان 1984", لذلك أن ثمة دليل على ريادة لطفي لكتابة الشعر الحر والقصة القصيرة, أما الأديب الراحل محمد بسيم الذويب فقد وصفه لعيبي في ص55 بأنه" منسي في تاريخ الأدب العراقي الحديث قليلاً , لأنه كان يشتغل في حقل الشرطة" حيث عمل الذويب في مجال الصحافة والنشر فكان له أول مقال في جريدة الرافدين في العشرينيات ثم أصدر جريدة "الوطن العربي" اليومية السياسية عام1968 , فكانت له المجموعة الشعرية القصصية "الثمرات" التي صدرت عام 1926 .
ثم يعقب الناقد شاكر لعيبي على الشاعر حسين مردان الذي أعتبر " من أهم شعراء قصيدة النثر , رغم فداحة الظلم الذي ما زال يتعرض له نقدياً في العالم العربي" يؤكد لعيبي في ص71 إن حسين مردان" قبل أربعين عاماً كتب... ما يسمونه اليوم بقصيدة النثر , ولكن حسين لم يجرؤ على تسمية ما كان يكتبه "قصائد", بل استمّر في كتاباته تلك في جريدة "الأهالي" على ما أتذكر , تحت عنوان "من النثر المركّز", ومن قصيدة للراحل حسين مردان بعنوان "اللحن الأسود":
تهتز من هول اللهيب أضالعي
فكأنما بين الضلوع جهنم
يا من أكاد إذا التقت بعيونها
عيناي يأكلني الحنين الأعظم
ما بال وجهك كالحجارة جامداً
وعلام ثغرك عابس لا يبتسم.
كما يذكر الناقد شاكر لعيبي في ص 82 الكاتب والشاعر فاضل العزاوي من جماعة كركوك الذي تبوأ كتابة قصيدة النثر مطلع الستينات حيث يؤكد العزاوي "إن قصيدة النثر هي شعر ونثر في الوقت عينه , وتقوم على عنصرين: الخيالي والجوهري المستمر "الشعر" من جهة والواقعي اليومي والعارض "النثر" من جهة أخرى ضمن تأليف وحشي يستمد قوته من قانونه الوحيد الحرية ",إضافة لكتابة قصيدة النثر للراحل سركون بولص الذي تتصف قصائده ص92 " ذات صفاء ودفق ومخيلة نادرة , ولا تخضع للاشتراطات المُسّبَقة التي يضعها البعض قواعد وقوانين لقصيدة النثر " , يعتبر نتاج سركون تجلياً بارزاً وعميقاً لقصيدة النثر .
وقد وصف الناقد شاكر لعيبي أوائل الشعراء من المحسوبين على قصيدة النثر فترة الستينات من القرن الماضي منهم الأب يوسف سعيد الذي اتصفت قصائده بالخليط "من النثر الصافي والتداعيات الحلمية والصور الغريبة الممزوجة بروح كهنوتي شعري, ليس دينياً بالضرورة وبتوتر دنيوي بل حسي شديد " , حيث يصف أسلوب الأب سعيد الكاتب السوري صبري يوسف بالقول " ما يميز أسلوب الأب يوسف سعيد عن غيره من الشعراء هو عفويته في الكتابة ودمج نزوعه الصوفي الشفاف مع رؤاه السوريانية النابعة من تراكمات الحالات الحلمية , ورؤاه المستمدة من تجربته الحياتية الفسيحة في عالم الكلمة ", أما في ص108 ذكر الناقد شاكر لعيبي الشاعر "صلاح فائق" الذي " لا يتوجب نسيان صلاح فائق في سياق الموجة التي انحنت بشكل مكثف على قصيدة النثر , في الستينات , شكّل فائق في مدينة كركوك مع سركون بولص وفاضل العزاوي ومؤيد الرواي وجليل القيسي وجان دمو والأب يوسف سعيد , مجموعة أدبية حملت اسم المدينة" هي مدينة كركوك .
قصيدة النثر هي ضروب من الشعر الحديث الأعمق والأصعب في تاريخ القصيدة , فقد استغلت قصيدة النثر من قبل الشعراء نتيجة لتطور الحركة الشعرية في العراق التي زرعت في ارث الماضي الأدبي في العراق والوطن العربي مطلع القرن العشرين.