ادب وفن

«كوميديا الحب الإلهي» والذاكرة المعطوبة – القسم الثاني والأخير - / رحمن خضيرعباس

نحن نعلم أنّ صالح كان يكتب روايته التي رأيناها في الفصلين السادس والثامن, لننتقل إلى جو وحدث مستقل عن السياق العام، يتحدث عن إمرأة اسمها حياة كانت مناضلة في معتقلات ناظم كزار في قصر النهاية, ولكن تعلق الجلاد بضحيته عاطفيا وجنسيا, بعد اغتصابها يرسلها الى انكلترا، اما للعلاج النفسي او الجسدي. وفي انكلترا تعيش في قفص ذاكرتها المهشم. يرسل لها "المبدع" قلادة فاخرة من الماس بيد احد زبانيته، ليذكرها بجسدها الممتهن الذي روضه الجلاد ليبقى له الى الأبد. ومن خلال هذا الفصل يتحدث لنا الكاتب عن شخصية ناظم كزار. كبشر يحب ويعشق ويمارس بعض الجوانب الإنسانية. ويتصدى الكاتب المزعوم صالح للحياة الشخصية لناظم كزار وعلاقته بصدام. وكيف تجري مؤامرة مطار المثنى الفاشلة, وهروب ناظم كزار الى الحدود العراقية الإيرانية واختطافه وزيري الدفاع والداخلية.. الى آخر القصة المعروفة لدى العراقيين. سواء من قبل الرواية الرسمية للسلطة، او من خلال همس الشارع . كيف تم القبض على الجلاد من قبل زعيمه الذي لا يقل عنه إجراما. من خلال عشيقته "حياة)" نلمس بعض الجوانب الإنسانية لناظم فهو يحب و?كره ويشعر ببعض آلام ضحاياه, بل يقدّر فيهم صمودهم كقوله: "الذين نفشل في سلب إرادتهم, نضطر إلى سلب أرواحهم " ص188. كما يظهر لها انبهاره بالموت والمقابر, ويقع أحيانا تحت كوابيس وأحلام مرعبة، كما كشفت لنا عن جنون المبدع وغرامه بلعبة الموت. ولا ادري هل استندت الرواية على بعض الوثائق, أم أنها مجرد تصورات عن وجه بشع من وجوه مرحلة مرعبة حكمت الوطن, ودمرت أبناءه. ولكنني أرى أنّ الرواية الثانوية أضحت عبئا فنيا على الرواية الرئيسة. كما أن لدي عدة ملاحظات منها أن اسم المبدع لا يتلاءم وشخصية ناظم الفاشلة والتي لا تفهم?سوى لغة القتل والإبادة. فهو لم يبدع إلا في التعذيب, اللهم إلا إذا كانت التسمية جاءت للتهكم وتسمية الأشياء بأضدادها. ثانيا: إن المعلومات التي وردت عن المؤامرة أتت أما عن طريق السلطة, والتي نشك في دقتها, أو من الإشاعة التي تفتقر إلى الدقة أيضا. وفي كل الأحوال فان هذين الفصلين لم يخدما المضمون الفكري والشكل الفني لرواية كوميديا الحب الإلهي .
لقد تصدت الرواية العربية إلى موضوعة الهجرة عن الوطن, وآثارها النفسية على المهاجرين. ولعل الكاتب العراقي الراحل غائب طعمة فرمان قد تناول ذلك في روايتيه (المخاض) ثم (المرتجى والمؤجل) وهناك من الكتاب العرب من اشتهر بمثل هذا العمل وهو الطيب صالح في روايته المعروفة موسم الهجرة الى الشمال. ولا اعتقد ان الكاتب لؤي عبد الأله قد اراد أن يحذوا حذوهم في تناول الهجرة. ولكنه كان يبحث عن مشكلة الجذر وما يترتب على اجتثاثه ونقله إلى تربة أخرى. والجذور هنا ليست بمفهومها الإثني بل الارتباط بالوطن. فكل الشخصيات الرئيسة ق? هاجرت من الوطن لأسباب مختلفة ولكنها لم تجد حالة من الاستقرار في المهجر, وبقيت منجذبة إلى ماضيها, او بالأحرى إلى صندوق ذاكرتها الذي أصابه العطب. وربما عكس الكاتب الكثير من منعطفات تجربته الذاتية في المهاجر, التي أوشكت على الوصول إلى عقدها الرابع وأسقطها على الرواية. حتى انه اي الكاتب يصبح قرينا لبعض أبطاله كما انه يقوم بصياغة أبطال آخرين, إلتقطهم - ربما - من خلال تجربته في الحياة. وهذا يفسر من ناحية أخرى صدقه وأمانته في الطرح. لقد اغرق أحداث الرواية في الماضي الذي يطارد الأفراد ويكبلهم, لذالك فهم يلوذون في?احلامهم وفي رؤاهم وفي وهمهم . حتى ان الوعي يأتي محاطا بغلالة رقيقة من الرؤيا, وهذا ينسحب حتى على الفصل الذي تناول فيه الفيلسوف العربي محي الدين بن عربي وهو في تهويماته وتصوفه. حيث يبدو اقرب إلى الحلم منه الى الواقع. وهذا يقودنا إلى أن الكاتب استفاد كثيرا من ثقافته الموسوعية, التي تجلت في صفحات الرواية ابتداء من الموروث العربي والإسلامي في صفحاته المشرقة, إلى اغترافه من كنوز الأدب الإنساني. وقد انعكس كل ذالك تلقائيا من خلال إنطباعات أبطاله, أو من خلال الوصف. لذا تظهر لمسات فنية تبين مدى انبهاره بمشاهير الفن?التشكيلي الذين تبرز أعمالهم بين وهلة وأخرى. كما تتجلى ثقافته في الموسيقى والنظريات الفلسفية والرياضية. وقد وظّف هذه الإمكانات لتزهو على مجريات النص.
لقد منح الكاتب لروايته بناءا معماريا مختلفا. فقد اهمل الحوار بشكل تام. فحينما تتصفح الرواية من بدايتها إلى نهايتها, لا تجد أثرا لحوار مباشر بين أبطال روايته على الطريقة المسرحية. بل اعتمد على المقاطع الوصفية. وهنا تكمن صعوبة التواصل ما بين أبطاله حيث منح لكل بطل كيانا منفصلا او عالما مستقلا. ويتم التواصل بينهم عن طريق السرد والوصف والتحليل, فتنمو الأحداث وتتصاعد. أي أن الكاتب كان ينوء بكل هذا العبء وكأنه ينحت أبطاله ومن ثم يُضفي عليهم ملامحهم.
أما اللغة الروائية فقد تميزت بالشفافية العالية حتى أنها تقترب من الشعر أحيانا. ولكنها تهبط أحيانا أخرى للتتعثر بركاكة لغوية. ولكن أناقة اللغة هي التي سادت في الرواية حتى أن القارئ يتوهم أحيانا بأنه يقرا نصا نثريا مركزا. كما انه كان يسلح النص بالمأثور من الحكمة سواء العربي منها أو الغربي.