ادب وفن

البحث عن القصيدة.. البحث عن القارئ (2-2) / حميد حسن جعفر

لقد قيل إن المسرح هو الشعر. أي أن أول جينات الكتابة للمسرح لم تكن إلّا لغة الشعر. وقد قيل إن الشعر هو السرد، وضمن الحالتين السالفتين، لا بد للقارئ من أن يتذكر الالياذة وملحمة كلكامش. إذ تعتمد هذه الأدبيات على الحوار والصراعات وتعدد الشخصيات والأمكنة وهذه المفاصل لا يمكن أن تنمو إلّا ضمن ثلاثية المسرح والشعر السرد فلا غرابة إذا ما وجد القارئ/ أي كان تصنيفه "وقد يكون القارئ النخبوي هو لا سواه بهذه المفاصل أو تلك الثلاثية".
إن رزاق الزيدي كثيراً ما يحاول أن يحاذي أجناساً أدبية أخرى. أو أن يخلق حالات من التداخل قد يكون السرد له الحصة الأكبر في هذه التداخلات.
علماً أن القصيدة الحديثة ما عادت قادرة على أن تعيش خارج مياه التأثر أو التأثير خارج الاختلاف والتداخل واعتماد الخرق وتقويض النسق / السطوة.
***
"يقول أكثم:
نحن فعلاً سادة منذ القدم
هل نحن فعلاً سادة منذ القدم؟
واجيبه : بل نحن فعلاً سادة منذ القدم
ويصيح "جا وين العلم"
"يقول لا تيأس
فأني راحل منذ الولادة
في الدماء"
"قال المدرس
وهو يخلع سترة الزيتون
ناولها
لتلميذ نبيه كان يبكي
والدم المسفوح/ بقطع شفرة السكين
"كان الذي
يرفع الراية العادلة
يسوق قرانا
إلى المهزلة"
"أبي
كان في آخر الناس
عند ازدحام العطاشى"
إن انشغال الشاعر على المفصل السردي. حيث تتعدد الأزمنة وتنشطر الشخصيات وتتناقض الطموحات لا يمكن إلّا أن ينتج فعلاً شعرياً متحركاً فالشاعر لم يستطع أن يبقى وحيداً داخل النص فراح يستحدث اشخاصاً آخرين "أكثم / المدرس/ أبي/ قائد الفوج السابع/ المغني" هذه الشخصيات وما تنتج من تواقفات أو معارضة هي وحدها القادرة على انتشال النص من بحيرة الركود ودفعه إلى مدار الحياة.
إن قصائد مثل:
1. لماذا يبتر الزمن الأسئلة
2. تناظر
3. قراءة
4. تفاصيل البلاد
5. هناك في المعنى البعيد
6. أسئلة وطنية
لا بد للقارئ الفطن/ صاحب التجربة والخزين من أن يضعها جانباً ضمن حالة من المحاكمة والكشف وصولاً إلى مكامن الشعر وجمالياته ، الشعر الذي يبدو واقعياً حتى النخاع إلا أن الحقائق المفترضة تقول غير هذا.
إذ أن تصورات الشاعر رزاق الزيدي في أنه يكتب القصيدة البسيطة هي تصورات تقف بالضد من بنية القصيدة المركبة وفعلها التحريضي على ارتكاب الأخطاء/ الحروب. بل من أجل صناعة الحياة/ الجمال. هذا من جانب . في الجانب الآخر يقف فعلها الكاشف في الذهاب بعيداً وفي الكثير منها/ من القصائد إلى اللاواقعية فكان الشعر الصافي الجميل هذا ما يحدث في الجانب الثالث وبالتالي فليس بإمكان القارئ أو سواه من المتابعين والمهتمين بالشأن الشعري من الشعراء والنقاد والمثقفين أن يسلب القصيدة قدرتها على تحديد "تفاصيل البلاد" التي ذاب ال?اعر في حبها.
أو أن يحاسبها على ما أنتجته المخيلة، أو ما أنتجه المخيال وصولاً إلى الجذور القادرة على تلمس المادة الخام للشعر. عبر التخلص من القشرة قشرة الكلام/ اللغو.
4
ربما حاول الشاعر وعمل على كسر نمطية المتداول. وقد كان له ما أراد، غير أن هذا الكسر/ التقويض لا يمكنه أن يتم من غير الخروج عن المألوف، من غير تجاوز المتعارف عليه كنسق سلطوي ولا بد لهذا السائد والمزاح من أن يسحب بحركته الارتدادية هذه جمعاً من القرّاء ممن كان الشاعر يأمل الوصول إليهم.
فليس من المعقول على الرغم من ابتعاد الشعر عن المعقوليات / الثوابت / أن ينتج الشاعر المعاصر / الواقف خارج كتابة القصيدة الكلاسيكية نصاً شعرياً "سواء كان قصيدة تفعيلية/ العمود المطور / هكذا يسميه الدكتور عبد الواحد لؤلؤة، أو قصيدة نثر، أو نصاً مفتوحاً" ينتمي للحداثة ، وفي نفس الوقت يعمل على تجنيد مجموعة من القراء للفعل القراءاتي كما لو كان سخرةً. / القراءة كأمر واجب التنفيذ
وليطرح المتابع تساؤله:
هل بإمكان القارئ العامي / لا النخبوي / أن يوفر حالة يستطيع عبرها تفكيك النص [ وقد قيل سابقاً أن الشاعر يركب والقارئ يفكك ] .
إن محاولة إنتاج قراءة عابرة/ غير مسؤولة / غير منتجة ما هي إلّا حالة تعسفية. قد يحاول الشاعر في توفير القراءة لما يكتب، أن القراءة بصورة عامة فعل يضاعف فعلاً إنتاجياً لوجهي العملية الإبداعية. القراءة أولاً كفعل أساسي والكتابة ثانياً كمنتج عرضي رغم أهميتها التدوينية.
***
إن من محاسن الشاعر / رزاق الزيدي / الكثيرة والتي قد لا تثير اهتمام القارئ المفترض وجود الإهداء
"إلى العراق/ الكل
والناصرية/ الجزء
رغم كل ما حدث"
إن معظم القصائد تتحدث عن الجغرافية/ عن المكان. الذي يشكل ركناً هاماً من أركان العملية الكتابية سرداً.
إذ أن وجود الجغرافية يبدأ منذ اللحظة الأولى/ الصفحة الأولى للغلاف حتى آخر القصائد أنهر".
والمكان في التفاصيل فعل يتماهى خلف الإنسان، خلف الحدث لا يعلن عن نفسه.
بل القارئ هو الوحيد القادر على البحث والتقصي والكشف وصولاً إلى خارطة البلاد التي تلمس الكثير من تفاصيلها. تلك التفاصيل التي تحاول أن لا تعلن عن نفسها وفق حالة من المجانبة.
إن اكتشاف البلاد رغم قربها من الإنسان والتصاقه بها. ورغم وجود هذا الإنسان وسط ما يحب وما لا يحب.
هذا الاكتشاف ليس بالمهمة اليسيرة. فكثيراً ما يكون المرء فاقداً للمعلومة التي تتشكل عبرها، تلك المعلومة التي قد تشكل الكثير من دواخله. فما باله بما يقف خارجه.
إن الإنسان عامة بحاجة إلى أكثر من عينين لكي يرى بحاجة إلى مجموعة من اللوامس/ المسابير، المجسات القادرة على الكشف والتحسس والتجميع، ومن ثم تقديم المشورة والمعرفة لكي يتمكن بالتالي من الاحساس بما يدور حوله أو حول غيره من أجل المشاركة في صناعة الحدث.
***
لقد كان هناك ما يشبه الاتفاق بين المهتمين بشؤون الكتابة الشعرية على أن الكتابات النقدية / عامة وكتابة المقدمات التي تتصدر الكتب الشعرية خاصة.
على أن هذه المقدمات لا يمكن أن تكون سوى عملية تدخل في شؤون القارئ والقراءة وهي محاولة لتوجيه القارئ إلى المناطق الشعرية التي يكون فيها الشاعر حاضراً.
غير أن القراءة / من المفروض أن تكون ضمن حالة من المواجهة ما بين القارئ والنص. وليحاول كل منهما استدراج الآخر إلى مكامن الفعل الاستكشافي. هذا الفعل المتعلق بشأن المغامرة والذي كثيراً ما يكون متماهياً خلف أحداث أو أمكنة أو شخصيات.
خلف حروب مثلاً
أو خلف جسرٍ
أو بمحاذاة الحبوبي/ الشاعر
إذ إن الكائن الهلامي الواقف وسط زلزال الحرب. والحامل لخصيصة السلام / العفة. سيجد القارئ إلى جانبه يقف وبثبات وبملامح شديدة الهدوء والطيبة السلف الصالح للشاعر.
5
- رزاق الزيدي / شاعر يكتب قصائد تحت سلطة الاختلاف، وإذا ما استطاعت الحروب أن تدفع بالشاعر إلى كتابة ما يناسبها في الكشف والتضاد. فالإنسان وبأشكاله الـ "مع" والـ "ضد" استطاع أن يشكل مفصلاً من مفاصل الكتابة حيث سيجد القارئ أن قصائد مثل:
1. صورة 6. قراءة
2. ترميم 7. حنين
3. رسام 8. حب
4. خجل 9. هبه
5. رصاصة 10. نهر
لا يمكن إلّا أن تشكل حالة الاختلاف تلك بعيداً عن مجريات القصيدة الطويلة التي تنتقل بالقارئ إلى فضاءات حيث يكون التداخل مع أجناس ثقافية أخرى قد يكون أبرزها السرد كفعل ينتمي لتركيب الأحداث والشخصيات والزمكانيات.
في القصائد أعلاه / هناك نموذج / يكون الإنسان محوراً فيه حيث يشكل هذا الكائن جميع مفاصل النص، هذا الكائن بما ينتج بل وحتى "النهر" يدخل حالة من الانسنة، حيث تشكل التضحية/ فقدان الذات علامة من علامات اختفاء "الأنا" وسط فضاء الآخر حيث يذوب "لا يتلاشى" ضمن حالة من التماهي النهر بين يدي الأرض/ الحقول.
لقد استطاع / رزاق الزيدي / أن يعيد تركيب تفاصيل بلاده ومدنه وكائناته ضمن صرخة احتجاج تجتاح مساحة بعيدة من الزمن لتمتع القارئ الكثير من القلق الجميل.
***
وإذا ما كان الوطن/ البلاد يشكل أكثر من هاجس وأكثر من إشكالية ضمن العلاقات المتبادلة ما بين الإنسان/ الشاعر والأرض/ الوطن فإن الحرب ومفروزاتها تحاول أن تحتل مساحة أوسع "تلك التي اكتوى الجميع بكانونها".
فالقصيدة التي يكتبها / رزاق الزيدي / ليس بمقدورها أن تكون بعيدة عن / أو بمنأى عن علاقة الشاعر بأفعال الحروب.
بل إن الشاعر نفسه. قد يعاين ما يدور حوله، بحس الإنسان المقهور، فالحرب لا يمكن أن تكون من ضمن حروبه. وما تنتج الحروب لا يمكن أن تكون هدفاً، أو طموحاً للإنسان/ الشاعر. رغم محاولات السلطات التي تقف خارج الشعر في أن تعمل جاهدة على إنتاج صورة معكوسة عن وقود الحرب "الناس والحجارة"/ الناس/ الضحايا والآلة الحربية.
لقد كانت المهرجانات آنذاك. وعسكرة المجتمع "أشبالاً/ فتوة/ شباباً" وتعدد الجيوش سوى الرسمي واطلاقات اصطفاف تلاميذ وطلبة المدارس ليوم الخميس من كل أسبوع. ما كانت هذه الفعاليات سوى مجموعة من المحاولات المشوهة من أجل تجميل وجه الحروب القبيحة.
إلّا أن الشعر الذي يقف خارج نوايا السلطة ظل مخلصاً للإنسان المسحوق الذي كثيراً ما وجد في قوة الشعر/ قوة الإبداع حالة مضادة للنزهات العسكرية التي كانت تشكل وجه الدولة/ السلطة.
*
القصيدة التي قد تتخذ من الحرب موضوعاً لها لدى / رزاق الزيدي / قصيدة لا تقف عند نقطة الحياد.
فقصائد مثل :
1. العثور على ذاكرة المغني 2. عالياً ... اتبع النجمة الهاربة 3. لماذا يبتر الزمن الأسئلة 4. مرثية جسر الناصرية 5. تفاصيل البلاد هذه القصائد وسواها عمل الشاعر على أن تشكل رداً واضحاً على دعوات الحروب ورغم أنها لا تشكل أو تعكس فوضى الحروب أو تناقضاتها إلّا أنها تعمل على صناعة بنيتها الشعرية البعيدة عن التردد والخوف والاضطراب فهي تتمتع بحس هادئ، ولغة ميالة للوضوح والاقتراب الشديد من القارئ الذي يطمح الشاعر إلى الوصول إليه.
قد لا تكون هذه الميزات متاحة للكثير من الشعراء، غير أن / رزاق الزيدي / استطاع وبحس الإنسان الجنوبي/ الشاعر المهدد بالانقراض أن يعمل على أن يترك وراءه ما يمكن أن ينتسب للشعر وأن يكون ضمن الحقل الإبداعي المنتمي إلى الأرض والإنسان/ إلى البلاد وتفاصيلها.